لأن يتحول زعيم مهربين إلى قائد مليشيا مسلحة تستطيع أن تنتزع مدينة إستراتيجية، كالبوكمال، من تحت أقدام قوات النظام السوري؛ لهو أمر جدير بالانتباه، لكن، أن يتحول هذا الشخص من قائد لشبه جيش في المنطقة الشرقية السورية، بعد أن بات نائباً لرئيس أركان الجيش الحرّ، إلى أحد أهم أبرز قادة تنظيم داعش، لهو أمر يستدعي التوقف للنظر في أسباب التحول.
قلب ميت
كان لصدام حسين الجمل، قلب ميت، لا يخشى عبور الحدود الشائكة والمظلمة، التي لا يرحم حرس الحدود فيها أحد إن وقع، كان مهرباً ذائع الصيت في تهريب الدخان والأدوية والغنم، به من الجرأة والقدرة والذكاء الكافي لأن يهرب البضائع، ليس من العراق إلى الداخل السوري فقط؛ بل لأن ينقل تلك البضائع من البوكمال، إلى دير الزور، إلى إدلب، إلى حلب، ...إلخ، دون أن يوقعه أحد في الفخاخ، كان من رؤوس التهريب في تلك المنطقة التي يحاول الكثيرون الوصول إليه.
اقرأ أيضاً: يحيي أبو الهمام.. لماذا تنفست فرنسا الصعداء بعد مقتله؟
تشاء الأقدار أن يقع صدام الجمل في شباك الأجهزة الأمنية العراقية لا السورية، بعد أن قطع آلاف الأميال من قرى البوكمال، ليدخل في تخوم مدينة الموصل، ليلتقي بأحد القيادات الداعشية التي استدعته لمهمة مجهولة، فإذا به يتلقى الصدمة، لقد وقع في الفخ.
بعد 6 شهور من اعتقاله، ووجوده في أحد السجون العراقية، يظهر الجمل أمام كاميرا قناة "ناس" العراقية، ليتحدث عن بداية تحولاته.
أمير حرب في البوكمال
يتحدث الرجل بطلاقة، إلا أنّه بدا تحت ضغط نفسي، لا يعرف من أين يجيء؛ هل من وجوده أمام الكاميرا وهو القيادي الداعشي الذي لم يكن يتخيل يوماً أن يكون في هذا الموضع، أم أنّ هناك ما يخيفه وراء هذه الكاميرا، انعكس على وجهه المائل للحمرة والاحتقان.
يتحدث الرجل بطلاقة، إلا أنّه بدا تحت ضغط نفسي، لا يعرف من أين يجيء
يروي الجمل ذكرياته في بداية الثورة السورية، ويقول إنّها بدأت بمظاهرات سلمية استمرت لعدة شهور، إلا أنه في يوم من الأيام أطلق الأمن السوري النار على المتظاهرين، ما أدّى إلى وقوع قتلي بينهم 6 من البوكمال كان بعضهم من أقربائه، ومن هنا بدأ الوضع في التأزم.
يستطرد: خرج حوالي الــ 15 ألف مسلح، من مدينة البوكمال، في بداية العام 2011، إلا أن النظام حاول استيعاب الموقف فلم يخرج من كتائبه ومفارزه أحد للقتال، وإنما أخذ في إرسال وزراء وسفراء وكبار العشائر، حتى يتوسطوا لاحتواء الموقف، وإثبات أنّ إطلاق النار الذي جرى لم يكن سوى من عناصر منفلتة تابعة لأحد الأجهزة.
يسترسل: طالب المسلحون محاسبة عناصر الأمن العسكري الذين أطلقوا النيران، دون غيرهم من الأجهزة الأمنية، إلا أنّ السلطات السورية لم تستجب لذلك، ومن هنا بدأ القتال المباشر بين الطرفين، بعد أن استحضر النظام جيشاً كاملاً نزل في مطار "الحمدان"، إلا أن صدام الجمل وعشيرته كانوا قد سيطروا على نصف مساحة البوكمال، وكان هو قائد المقاتلين الذين خاضوا تلك المعركة.
مقاتلون أميون
انهزموا، في نهاية الأمر، أمام قوة الجيش السوري المنظم والضاربة، لم يستطيعوا بالأسلحة الخفيفة مجابهة الطائرات والدبابات، فلم يكن لهم مفر سوى الانسحاب إلى إحدى القرى المتاخمة.
دخل الجيش السوري البوكمال، إلا أنّه أخذ المسالم بالمسلح؛ فقام بقتل واعتقال عدد كبير من الذين لم يشاركوا في تلك المظاهرات، ولم يخوضوا حرباً ضمن من خاض في مواجهته.
اقرأ أيضاً: عبد الرحمن السندي: لغز الرجل الأقوى في تاريخ "الإخوان"
ساهم ذلك في تشكل الجيش الحر، الذي كان صدام الجمل أول من بدأ في تأسيسه؛ إذ إن كثيراً من المنسحبين من المشاركة ذهبوا طوعاً ليجند نفسه في صفوف الكتيبة الأولى المقاومة بقيادة الداعشي فيما بعد الجمل.
يقول الجمل إنّه استطاع بحوالي 50 عنصراً، من الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، أن يسيطر على حواجز للجيش في أطراف مدينة البوكمال، كان معظم هؤلاء من العاطلين الذين يسكرون ويحششون، وفق تعبير الجمل.
يتحدث الجمل عن الشخصيات التي كانت لها اتصال بالدولة التركية، وكانوا أول من ساهم في تشكيل الجيش الحر منهم؛ الضابط المنشق في الجيش السوري، مهيمن الطايع، ورياض الأسعد، إلا أنّ هؤلاء وعدوا بإدخال السلاح، لكن هذا لم يحدث (صار كلام على الفاضي)، وفق تعبير الجمل.
اقرأ أيضاً: عمر سرور ابن الموت لا الحياة.. ماذا تعرف عنه؟
يقول الجمل إنّ الجيش السوري لم يكن يقاتل في بداية الأمر، حتى أنه استطاع السيطرة على نصف حواجز النظام في البوكمال، وزاد عدد عناصره إلى 500 مسلح، في أواخر عام 2012، دون أن يظفر بالدعم من أطراف خارجية، حتى تحرير البوكمال كاملة، بداية عام 2013، حتى رشح نائب رئيس أركان للجيش الحر على مستوى سوريا كلها، لكنّ الأقدار قذفت به في عالم آخر تماماً، لقد بات قيادياً في تنظيم داعش.
لم يسمع عن البغدادي
يؤكد الجمل أنّه، وحتى العام 2013، لم يكن له علاقة بتنظيم القاعدة أو داعش، مع أنّه كان مهرباً شهيراً، واقتصرت معرفته بهم على التلفاز فقط، وأنهم متواجدون في أفغانستان والعراق، أما العراق فلم يكن يعرفهم، إلا أنه عندما بات قائداً للمنطقة الشرقية، فبات مستهدفاً للقاعدة وغيرها، لأنها منطقة بها ثروات وآبار نفط.
اقرأ أيضاً: عشماوي .. ضابط الصاعقة في وحل التكفير
لقد وصل الحدّ إلى تفجير بيته، واستهداف رجاله وقتل أخوته، ووصل التصعيد لدخول انتحاريين عليه بأحزمة ناسفة، إلا أنه استطاع قتلهم، ثأراً لمقتل أخوته، وخطف أخ له.
اكتشف الجمل أنّ القاعدة، متمثلة في النصرة آنذاك، موجودة في المنطقة ومتوزعة بشكل سري، لكنه أراد أن يعرف من هم؟ بعد أن شكل المنطقة كلها عبر حواجز حدد هو نقاطها، حتى استطاع أن يأسر كثيراً من قياداته في المنطقة، بعد حصارهم والحشد عليهم، ومعرفة رأس خيط التنظيم، الذي كرّ بعده الباقين.
اقرأ أيضاً: "تمبكتو" مدينة الأولياء وإرهاب القاعدة
لقد كانت القاعدة متخفية تحت مسمى جبهة نصرة الشام، إلا أنها كانت تخفي تبعيتها لأبي بكر البغدادي، وتنظيمه في العراق، حتى يتلافوا هجمات التحالف الدولي.
جمع الجمل جميع قادة "النصرة" في المنطقة، وكان عدد منهم من مدينة البوكمال، كما كان من بينهم عراقي، هو أبو مارية القحطاني، فأقسموا اليمين أن ليس لهم علاقة بهذا الأمر، كانت هذه الفترة بداية انشقاق الجولاني عن أبي بكر البغدادي؛ لذا فإنّ المأسورين نفوا عن نفسهم التهمة واتهموا العناصر التابعة للبغدادي في الوقوف وراء الهجمات التي أصابت عناصر الجمل في البوكمال.
البحث عن الثأر
بدأت رحلة الجمل في البحث عن رجالات البغدادي في المنطقة، إلا أنّه لم يكن يتوقع قوتهم في هذا الوقت، فذهب ومعه أحد أخواله من محافظة الميادين، إلى منطقة عرف أن بها عناصر البغدادي، إلا أنه تفاجأ بأعدادهم وقوتهم، وبُهر بشعورهم الكثيفة وستراتهم الناسفة، وكان معظمهم من الأجانب، عرباً وعجماً.
يبدي الجمل ندمه على اليوم الذي حمل فيه السلاح ضدّ النظام السوري
بات الجمل في مواجهة مباشرة مع المتهم بقتل أخوته عامر رفدان، فواجهه قائلاً: هل أنت عامر رفدان من قتل إخوتي وفجر بيتي؟ فأجابه عامر: أنت الذي ذهبت للتوقيع مع فرنسا اتفاقية تقضي بقتال دولة الإسلام في العراق والشام "داعش"؟ ردّ الجمل: هذا الكلام غير صحيح، فلم أرَ فرنسا ولم يحدث هذا الكلام، قال رفدان: لدينا دلائل وشهود على هذا الكلام، أجاب الجمل: أتحداك.
مع أنّ عامر أقسم للجمل بأنهم ليسوا بمسؤولين عن مقتل أخوته، إلا أن التنظيم أصرّ على اعتقاله، وأظهر عناصره فيديو للجمل، وهو يتحدث عن الجيش الحر، وعلاقاته الدولية، وبدأ التنظيم في عملية تفاوض لتسليمه لعشيرته وجيشه في المنطقة الشرقية، ونجح التنظيم في الاستيلاء على نصف أسلحة قوات الجمل، كفدية للإفراج عنه.
اقرأ أيضاً: سيد قطب: معالم في طريق مضطرب
عاد الجمل إلى بيته، وفي الأسبوع الأول من عودته؛ اغتيل أخوه الرابع، ثم بدأ القتال بين تنظيم القاعدة وداعش، حتى اشتدت الحرب بينهما، وفي هذه الأثناء؛ أعلنت النصرة الاستيلاء على جميع مقرات الجمل في البوكمال، وبعدها ذهبوا إليه لتقديم واجب العزاء في مقتل أخيه، مؤكدين له أنّ من قتله هم أتباع البغدادي، ضاع دم إخوته بين التنظيمين.
من الحرّ إلى داعش
فجأة قرّر الجمل الذهاب إلى الفئة الداعشية المغلوبة، ليبايعها، وينضم إليها في الزحف مرة أخرى في اتجاه البوكمال، وهنا لا يجيب الجمل بوضوح عن سؤال: لماذا تحول كل هذا التحول مرة واحدة، في اتجاه تنظيم اتهم بقتل إخوته وكان هو يسعى لوقت قريب في أخذ الثأر منه؟
يقول الجمل إنّه حتى هذه اللحظة لم يكن يسمع عن أبي بكر البغدادي، ولا يعرف عن أحوال التنظيم في العراق شيئاً، كما أنه يجيب المحاور بأنّ هناك من انضم للتنظيم وهو لا يتحلى بأخلاق، ومنبوذ اجتماعياً، ولم يكن يدقق التنظيم في سيرته الذاتية.
قرّر الجمل الذهاب إلى الفئة الداعشية المغلوبة، ليبايعها، وينضم إليها في الزحف مرة أخرى في اتجاه البوكمال
مع أنّ التنظيم استخدم الجمل في حرب استرداد البوكمال من النصرة، كونه خبيراً في خريطتها، وطرق الوصول إليها، إلا أنّه يقول إنّ التنظيم لا يثق في شخص كان ذات يوم قائداً في الجيش الحرّ، حتى لو تاب ألف توبة "وفق تعبيره"، فمصير هذا الشخص أن يرتد مرة أخرى لطريقه الأول.
يتوقف الجمل عند نقطة يمكن أن تفسر لنا هذا التحول؛ إذ يقول: كان لدي حقد على جميع الدول، قتل إخوتي، ولم أتلق اتصالاً من رئيس أركان الجيش الحرّ، ولا الدول التي يعرفها، لم يعزني أحد في مقتل إخوتي، قبل عامين؛ حاولت أن أخرج خارج البلاد، لكن هناك دولة معينة رفضت ذلك، فاضطررت أن أبقى في التنظيم.
ولإنّ تنظيم داعش كان يقاتل الجميع، وفق قوله، فربما تخيل أنّ الانتماء إليه سيشفي غله من الجميع، إنها الحرب على الأغيار كلهم.
اقرأ أيضاً: جهيمان العتيبي مُقتحم الحرم المكيّ والمبشّر بالمهدي
الجمل الذي يقول إنه لا يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، عدا قصار السور، يقول إنه لم يكن مقتنعاً بداعش كلها، ومع ذلك فهو انتمى لهم لظروف فرضت عليه، ولم يستطع الاندماج معهم نفسياً.
يقول الجمل: "لقد كانوا يرجمون الناس بتهمة الزنا، وبعضهم كان يزني، ويضربون يد السارق، وبعضهم كان يسرق، حتى فقدوا حاضنتهم الشعبية لدى كثير من الناس الذين كانوا يعرفون خباياهم".
يبدي الجمل ندمه على اليوم الذي حمل فيه السلاح ضدّ النظام السوري، ويضيف: "لقد سمعنا في المناطق غير العشائرية في سوريا من الأمور، التي جعلتنا نندم على اليوم الذي رفعنا فيه السلاح ضدّ النظام، وأنا ندمان لأنني قمت بذلك، هناك كتائب تخطف نساء وتجار ذهب، هذه لا ثورة، ولا ينطبق عليها مسمى الثورة".
إلا أنّ العودة إلى فيديوهات صدام الجمل، وهو في صفوف داعش، تظهره قيادياً داعشياً بامتياز إذ يبدو على كلماته الإيمان العميق بتنظيمه، وتأثره الوجداني به، لم يبدُ أنّه حينها يصطنع أو يتجمّل؛ فهل الرجل يعاني بانفصام في شخصيته، أم أنّه يرواغ سجّانيه الآن علّه يستطع أن يفلت من مصير الإعدام؟