لم يأتِ ذكرٌ للنادي الأهلي المصري، ذات مرة، إلا فزع واقفاً، يطيح بكلتا يديه، يميناً وشمالاً، غضباً وحنقاً عليه، وهو يقول: "هذا النادي الذي لا يفوز سوى بمجاملة الحكام له، إنّه نادٍ شكّله الاحتلال الإنجليزي"، ثمّ في النهاية يرفع يده إلى السماء داعياً الله بإلحاح وتأثر: "سيغلب اليوم إن شاء الله".
بالتفتيش في جذورنا سنجد الكثير من العقد الكامنة في وجدنا جميعاً، أورثتنا أحمالاً من الكراهية تئنّ من وطئتها الجبال
صديقي زملكاوي متعصّب، إلا أنّني لاحظت أنّه ليس كروياً حقيقياً، ولا يتابع مباريات الدوري المصري، ولا الدوريات الأوروبية، حتى لا يتابع مباريات ناديه الزمالك إلّا قليلاً، هو منشغل حتى أخمص قدميه في عمله، ويمارس كراهيته المعتادة للنادي الأهلي.
يفاجئ متابعيه على الـ "فيسبوك" بمنشورات تهاجم "الأهلي" من حين لآخر، ويبشر بهزيمته، أو يرجع مكسبه إلى فساد النادي وظلمه، ما يزعج بعض متابعيه في الشأن السياسي، فيراسلونه، مرة على الخاص ومرة بتعليقات على العام، وفي مرات يحظرونه اعتراضاً منهم على موقفه ضدّ ناديهم، وبعضهم يناصحه: "مالك يا أستاذ، ومال الكرة ما تخليك في الأفكار والسياسة"، لكنه "أذن من طين وأذن من عجين"، لا يزعزع ذلك من موقفه.
اقرأ أيضاً: "المتعصبون – جنون الإيمان".. قراءة في نفسية مرتكبي العنف
قبيل بدء مباراة الأهلي مع أحد الأندية الأخرى، قال بنبرة يقينية كالعادة: "هتتغلبوا النهاردة بإذن الله"، فأجبت بابتسامة هادئة: "هنكسب بإذن الله".
فاز الأهلي باكتساح، فقرّرتُ الاتصال به للضحك الممزوج بمسحة شماته، لكنّه كان قد أغلق هواتفه المحمولة، لكنّني استطعت أن أصل إليه عبر هاتف المنزل.
اقرأ أيضاً: هكذا تحارب المناظرات الشبابية في فلسطين التعصب وتعزز الحوار
بدأتُ الحوار بضحكة عالية متقطعة، ولم أنبس بجملة مفيدة، كان ردّه غاضباً وحاداً للدرجة التي هدّد فيها بخسارة علاقتنا ذات التاريخ الطويل، إن لم أُنهِ الحديث في هذا الشأن، ضحكتُ مرة أخرى قائلاً: "هسيبك تهدي أعصابك".
في اليوم الثاني؛ مررتُ عليه في طريقي، وقلت له: لم أكن أتوقع أنّ العصبية الكروية وصلت بك إلى هذا الحدّ يا صديقي! فبدأ في رواية الحكاية الآتية:
"في منتصف الثمانينيات؛ بتّ عضواً في الجماعة الإسلامية في صعيد مصر، وفي مطلع التسعينيات كان الأمن قد تمكّن من القبض عليّ، وأنا أستقل إحدى القطارات، بعدها وجدتُ نفسي في أحد السجون.
اقرأ أيضاً: فؤاد زكريا مؤذّن العقل في مالطا التعصب
كان في استقبالنا الضابط (ف.س)، وهو نجم النادي الأهلي في سبيعنيات وثمانينيات القرن الماضي، إلّا أنّه فاجأنا بتعذيب قاسٍ لا يرحم.
تحت وقع الضرب المبرح؛ كان يأمرهم الكابتن بالهتاف: "الأهلي حديد الأهلي حديد.. دي مش كرة دي مزيكا".
كان الضابط يأمر أحدهم بترديد جزء من إعلان تلفزيوني مشهور وقتها لأحد أنواع الشاي، قل يا بني: "حبا حبا حبوه"، وعلى الآخر المقابل أن يجيب بسرعة: "حبوه وشربوه"، ولو قال لآخر: "حبوه وشربوه"، فعلى الثاني أن يردّ سريعاً: "حبا حبا حبوه"، ومن يخطئ ينال نصيبه من الضرب المبرح.
منذ اكتشفتُ جذور عقدة صديقي لم أعد أتعرض له بالمسألة الكروية، وعندما يذكر الأهلي أتركه يصيح دون ردّ فعل يذكر
بات صديقي يرى في النادي الأهلي الضابط (ف.س)، كما رأى في الضابط نفسه النادي الأهلي.
منذ أن اكتشفتُ جذور العقدة تلك، لم أعد أتعرض لصديقي في المسألة الكروية، حتى أنّه عندما يأتي بذكر الأهلي والزمالك، أجعل من نفسي شبه أهلاوي أو شبه زملكاوي، أتركه يصيح ويشيح دون ردّة فعل تذكر.
حتى قابلت صديقاً آخر تعرض لظروف مشابهة لصديقي الأول، فحدثته عن ذلك الكابتن الضابط، فحكى قصة استدعت التأمل.
يقول الصديق: كان الضابط (ف.س) مشرفاً على أحد السجون، قبل أن ينتقل إلى السجن الذي استقبل فيها صاحبنا الأول، وكان معروفاً بالطيبة ودماثة الخلق، إلى أن حدثت في ذلك السجن واقعة مأساوية، كان هو شاهداً عليها.
وقعت خلافات بين السجناء الجنائيين والسياسيين، شنّ على إثرها السياسيون من تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد، هجوماً مباغتاً على عنابر الجنائيين، وقاموا بإلقاء عدد منهم من فوق أسطح السجن، فقتل بعضهم، بعدها هاجموا مكتب الضابط، ونزعوا منه سلاحه وأهانوه، فتمّ نقله إلى سجن آخر، وهو محمّل بغضب شديد، وعندما نُقل حاول أن يكون شرساً وقوياً مع السجناء، حتى لا يفعلوا فيه كما فعلوا في السجن السابق.
تحول الضابط من اللّين للشدّة، كان قدر صديقي الأول، الذي شكّل ما تعرض له من ضرب وإهانة عقدة لم تنفك تجاه النادي الأهلي ومشجعيه، لكن في التفتيش في جذورنا سنجد الكثير من العقد الكامنة في وجدنا جميعاً، أورثتنا أحمالاً من الكراهية تئنّ من وطأتها الجبال.