دموع في عيني إخواني دولي سابق

دموع في عيني إخواني دولي سابق


29/03/2018

نال مني النصب حتى وصلت منزله، الكائن في أحد أحياء القاهرة الجديدة، هنا تتشابه المنازل والشوارع؛ فلا يدري الغريب أيّ درب يسلك ومن أيّها يخرج! دلفت من بوابة العمارة، حتى وقفت أمام باب الشقة الموصوفة، وأطلقت سبابتي على الجرس، فأطلق العنان لصفارته للتصاعد.

لم يشرع أحد الباب في وجهي بعد، حتى فوجئت بمنادٍ من خلفي، يستقبلني بحفاوة وودّ، ويستأذنني في الخروج معه من البوابة الرئيسة إلى المدخل الخاص بالمسكن، تتبعت خطواته، فدار بي إلى مدخل يقع إلى جانب البناية، هبطنا على سلالم رخامية حتى دلفنا المنزل، بيت ذو أساس متواضع ومطبخ مفتوح على مجلس للضيوف، وسلّم داخلي يرتقي حيث الدور الأعلى، سألت الشاب: هل أخطأت في البداية في عنوان الشقة؟ أجابني نافياً: إنها موصولة بالأسفل، لكنّنا نحاول إخفاء مكان الرجل المهدَّد أمنياً. دار بالدكتور كمال الهلباوي الزمان، حتى بات مهدداً ممن كان قدوة ورمزاً لهم، بمجرد اختلافه مع متنفذي الجماعة الحاليين، فتناسوا صنيعه السابق للتنظيم، وأهدروا كل ودّ ولقمة عيش تقاسموها معاً!

بمجرد اختلافه مع متنفذي الجماعة الحاليين تناسوا صنيعه السابق للتنظيم وأهدروا كل ودّ ولقمة عيش تقاسموها معاً

التقطتْ يد الرجل المضطجع على الفراش عصاه، ثم اتّكأ عليها قائماً، ناثراً علينا كلمات الترحاب وكرم الضيافة، كانت الجملة الأولى التي بدأ الحديث بها؛ أنّه اختار الحي الراقي للسكن لنصيحة الأطباء له بذلك، لجو المنطقة الصحراوي، التي ما تزال تتمتع به، بدا وكأنه يدفع عن نفسه تهمة الثراء، أو أنّه بحكم التنشئة، يرى فيها شبهة يجب الابتعاد عنها.

جرى الحديث بانسياب وهدوء، حتى دفعت بتساؤل: كنت تحاول إنقاذ الجماعة، وألّا تصل للصدام مع الدولة المصرية؟ لم أكن أتوقع أن يبكي الرجل، وأن يذرف الدموع من مقلتيه، وأن يجيب بحدة وغضب، خارجاً عن السيطرة: أنت لم تعش إحساس المنفى القسري، أنت لا تعرف ما معنى أن تُحرم من العودة إلى بلدك، أو حتى تزورها، أن يموت والداك وأخوتك وأنت لا تستطيع أن تلقي عليهم نظرة الوداع، أن تشعر أنّه لا أمل لك في العودة.

من الصعب على مثله أن تنهار صروح أيديولوجيته تماماً، إنّه كمن يتمسك بقشة تنقذه من الغرق

ساد الحجرة جوّ من الهدوء الممزوج بالمفاجأة والحذر من جانبي، والحزن وتقليب المواجع من ناحيته، بدا أنّ شريطاً من الذكريات المرة، يمرّ بخاطر الرجل: "يا بني، ليس من عاش من التجربة كمن يرصدها عن بعد، ظللت ما يربو على الــ 40 عاماً لا أستطيع أن أعتب بقدمي مصر، أتشعر بذلك؟"... هكذا قال.

بات حلم الرجل أن يموت في وطنه، وأن يدفن في ترابها، إلّا أنّه ما يزال يحمل حنيناً غامضاً إلى جماعته، حاول أن يساهم في إنقاذها، أنّه يدافع عن حسن البنا، ويصرّ، حتى الآن، على أنّه كان يحمل منهجاً سليماً، حرفه أصحاب النظام الخاص، لكنّه في سوقه لذلك لا يلتف ولا يداري.

لما خرجنا قلنا سنرجع بعد بضعة شهور، أو عام، ستكون بعدها الأوضاع قد هدأت، فمرّت 30 عاماً

من الصعب على مثله أن تنهار صروح أيديولوجيته تماماً، إنّه كمن يتمسك بقشة تنقذه من الغرق في وحل تيه ما بعد سقوط الأيديولوجية، إنّه شيء قاسٍ أن يستشعر إنسان أنّ كلّ ما قضاه من عمر في فكرة أن تصير وهماً، إذاً؛ لا بدّ من أنّ الأصل كان جيداً، وهناك من أتى فحرفه عن مساره الصحيح!

وقعت عيناي على تغريدة لتقادم الخطيب، يقول فيها: بالأمس في لقاء مع أسرة إيرانية، ولدت وتربت في المنفى، قالت لي الأم: حين تركنا إيران إبان الثورة الإيرانية، قال لي زوجي: "سنعود بعد شهور"، مرت الشهور، ومرت 39 عاماً، ولم نرجع حتى هذه اللحظة، صمت يطبق على المكان، ولم يكن لدي جواب، سوى آمال تلوح في الأفق، لعل أقدارنا تختلف عن غيرنا.

يعلق محمد أبو الغيط على الخطيب: نفس القصة قيلت لي من أحد أعضاء حزب النهضة، من الذين هاجروا إلى لندن، قال:
لما خرجنا قلنا سنرجع بعد بضعة شهور، أو عام، ستكون بعدها الأوضاع قد هدأت، فمرّت 30 عاماً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية