ضجّ بالتكبير نحو 3 آلاف سجين ومعتقل جهادي في سجن استقبال طره، جنوب القاهرة، عندما علموا بمحاولة اغتيال وزير الداخلية المصري الأسبق حسن الألفي العام 1993.. هزّ الصدى جدران العنابر متجاوزاً بهو السجن العتيق.
وحده كان السجين محمد جمعة، يستحم ليرتدي ثياباً بيضاء اللون، ويصلي لربه ركعتين، ثم خبّأ نصلاً كان قد صنعه بيديه من أحد أعمدة السرائر الحديدية، ثم خرج من زنزانته المفتوحة ليتوجه نحو مكتب الضابط أمين الكومي، ليهاجمه ويتمكن من رقبته ثم يحزّها بسكينه.. قبلها حدّث زملاءه أنه ينوي الموت في سبيل الله، لكنهم لم يتوقعوا فعلته!
خرج الضابط والدماء تسيل على صدره وعنقه، في اتجاه مكتب مأمور السجن صارخاً مستنجداً، إلا أن عناية الله قد أنجته، فاستقلّ نفس الطائرة التي أقلت وزير الداخلية للعلاج في إحدى الدول الأوروبية.. عاد الضابط للبلاد وهو يعاني من عدم القدرة على النطق سوى بجهاز صوت محشو في حنجرته.
في البدء كانت الجريمة
انزعجت إدارة السجن وطالبت قادة الجماعات المسجونين بتسليم الجاني "جمعة"، فاعترض بعضهم ووافق البعض الآخر، كان من بينهم عبدالرؤوف أمير الجيش، أحد أبرز القادة في هذا الوقت، حتى لا يتعرض السجناء للعقاب العام.
استحم "جمعة" مرة أخرى، وارتدى ثيابه البيضاء وألقى بنصله، ثم سلّم نفسه، وهو يدرك أنه سيمضي إلى الجزاء التي قد يعرضه للموت، وهو ما حدث بالفعل.
حوّلت الجماعات بعض الجنائيين إلى أدوات لقمع السجناء المخالفين للأوامر التنظيمية من المنتمين إليها
اعتبرت إدارة السجن في هذا الوقت أنّ التنظيمات الجهادية قد أخلّت بتعهداتها بعدم استخدام العنف داخل السجون، فقرّرت معاقبة سجنائهم بتحويل الزنازين المفتوحة إلى مغلقة حتى إشعار آخر، وهو ما يعني عدم فتح الزنازين وخروج السجناء إلى التريّض، وتقليل أعداد الزيارات.
بيد أنّ عدداً من قادة الجهاديين المكلَّفين بالتنسيق مع إدارة السجن دفعت بأن "جمعة" ما هو إلا سجين جنائي دفع به إلى سجن استقبال طره المخصص للسجناء الإسلاميين السياسيين في البداية، كونه قريب أحد الضباط!
عاد ضابط أمن الدولة في السجن إلى ملف "جمعة" فاكتشف صحة الادعاء، فالمعتدي على الضابط دخل السجن بتهمة ضرب شخص حاول معاكسة شقيقته في ميدان العتبة وسط القاهرة، ثم الاعتداء على أمين شرطة، جز أذنه بخنجر كان معه، على إثر احتكاك حدث بينه وبين قوة شرطية حاولت فض المشاجرة...؛ أي إنّ جمعة كان قد تحول للأفكار الجهادية بالفعل بعد مخالطته للسجناء والمعتقلين من جماعة الجهاد الإسلامية في السجون.
محاولات تجنيد الجنائيين
وضعت الجماعة الإسلامية على أجندتها التجنيدية، شرائح الفتوات والبلطجية، واستندت إلى مقولة "من كان ذا فتوة في الجاهلية كان ذا فتوة في الإسلام" فذهبت لتجنيد عدد من فتوات الصعيد والقاهرة.
وفي هذا السياق التقى نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم الجهاد، وفق ما تفيد محاضر التحقيق، بعدد من المحكوم عليهم بالإعدام في قضية الفنية العسكرية، في سجن الاستئناف في القاهرة، العام 1975، فتم تجنيده في صفوف التنظيم، بينما كان محبوساً على ذمة قضية شروع في قتل في منطقة إمبابة التابعة للقاهرة الكبرى.
كما كان التحوّل في نماذج كثيرة من جنائي إلى جهادي متطرف كان ثمة تحولات معاكسة
وكان شريف أبو طبنجة وأخوه أحمد ترك يركبان حصانيهما في شوارع المنيا، جنوب مصر، ملوحين بـ"الشومة" سلاح الفتوات لتأديب المواطنين وتحصيل الأتاوات وعندما تحولاّ للجماعة الإسلامية تولى أبو طبنجة مسؤولية الحسبة.
وجنّدت الجماعة الإسلامية عدداً من هؤلاء كأيادٍ باطشة لهم تحت دعوى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، كما حوّلوا بعضهم إلى أدوات قمع للسجناء المخالفين للأوامر التنظيمية، والمنتمين إليهم داخل السجون وأطلق على هذه الفرق لقب "الشواكيش".
اقرأ أيضاً: هذه الأسرار الخفية لأساليب الإرهابيين في تجنيد الأنصار
كان من تبعات ذلك ظهور الشيخ جابر "الطبال" الذي قاد حركة مسلحة تابعة للجماعة الإسلامية في إمبابة والتي أطلق عليها فيما بعد "جمهورية إمبابة" وذلك العام 1992.
تجنيدات رغم التشديد
تمرّ السجون استناداً للاعتبارات الأمنية بــ3 حالات.. فمرة يكون السجن مفتوحاً في حالة إذا كان الهدوء الأمني يسود في داخله أو خارجه، أما إذا حدث العكس فيتحول السجن من مفتوح إلى مغلق، وهو ما يعني أنّ المساجين لن يُسمح لهم بالخروج من زنازينهم للتجول في العنابر أو الخروج للتريّض، وفي حالة أخرى يدخل السجن في حالة المفتوح لكنه تحت السيطرة.
في حالة السجن المفتوح تسمح إدارة السجن للسجناء الجنائيين بالقيام بخدمة السجناء السياسيين مقابل تمتّع السجين الجنائي بامتيازات عينية من جانبهم، إلا أنه في الأغلب يكلف بمراقبتهم ونقل أخبارهم لرئيس مباحث السجون الذين يخضعون له مباشرة، حسب ما صرّح به لـ(حفريات) عمرو عبدالمنعم، الذي قضى 17 عاماً في السجون المصرية، على خلفية اتهامه بالانتماء لتنظيم طلائع الفتح، والباحث الحالي في شؤون الجماعات الإسلامية.
جنّدت الجماعة الإسلامية عدداً من "البلطجية" كأيادٍ باطشة لهم تحت دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إلا أنّ عبدالمنعم يقول: كانت هناك محاولات لتنجيد معاكس لهؤلاء الجنائيين من قبل السجناء الإسلاميين على الرغم من تشديد الضباط على الجنائي على عدم ميله للإسلاميين، ومحاولة تحصينه إلا أنه في مرات عديدة انهارت هذه التحصينات.
يروي عبدالمنعم قصة جنائي كان مكلفاً بخدمتهم، إلا أنّ زوجته تعرضت لتفتيش "مهين" عند زيارتها لزوجها، إذ تبيّن أنّها كانت تحمل مواد كيميائية مخدرة، ما أدخل السجين الجنائي في حالة غضب عارمة عندما علم أنّ من فتّشها وأخرج ما كانت تخفيه كان حراس السجن.
اقرأ أيضاً: آليّات التّجنيد عند الإخوان المسلمين
تصادف مرور مأمور السجن (م. ن) فإذا بالسجين الجنائي يخرج نصلاً، ويضع شفرته على عنق المأمور مهدّداً إذا لم يأخذ حقّه بسبب ما جرى مع زوجته، عندها لجأت إدارة السجن إلى عبدالمنعم وزميله عبدالناصر أبو الفتوح لمحاولة إقناع السجين بإطلاق سراح المأمور، مقابل نقل السجين إلى سجن آخر مقابل عدم إيقاع الجزاء عليه وبعدما دخلا في عملية التفاوض أقنعا السجين وتولا عملية حمايته، مما أفضى إلى تجنيده في النهاية.
حكاية عاطف وكمال
في العام 1988 تشاجرت سيدة منقَّبة مع رجل قبطي يمتلك متجراً لبيع الدجاج في منطقة شبرا، شمال القاهرة، فادعت السيدة أنّ الرجل تطاول عليها بيده وشتم دينها.
اشتكت السيدة، وفق تقارير صحفية، لمجموعة من الإسلاميين الجهاديين في المنطقة، فاستفتوا محمد عبدالمقصود، شيخ السلفية الحركية، في الحكم الشرعي فأفتى لهم بوجوب تأديب صاحب المتجر.
اقرأ أيضاً: اتهامات لتركيا بتجنيد مقاتلين سابقين من داعش في حربها على عفرين!
حشد هؤلاء ما يربو على المئة من أنصارهم وغيرهم من سكان المنطقة، في اتجاه صاحب المحل القبطي فحزّ أحدهم رقبته بالسكين.
قُدّمت القضية، وفق محاضر التحقيق، على أنّها مشاجرة أفضت إلى موت إنسان، ولأن أعداد المعتدين كانت كبيرة اتهم شخصان هما "عاطف وكمال" وحكم عليهما بالسجن، مع أنّهما لم يكن لهما خلفية سياسية إسلامية، ولم ينضما يوماً إلى التنظيمات، إلا أنهما سُجنا في السجون المخصصة للإسلاميين المتطرفين، ومع مضي الوقت باتا من دعاة التنظيم وجزءاً من عناصره الأساسية.
تحولات وصدامات دموية
وكما كان التحوّل في نماذج كثيرة من جنائي إلى جهادي متطرف، كان ثمة تحولات معاكسة كما في حالة (فوزي . س) الذي قام بقلع عين أحد زملائه في التنظيم على إثر خلاف على أماكن النوم فقضى 3 أعوام في سجون الجنائيين، كما أحرق أحد سجناء تنظيم الجهاد متعلقات زملائه في التنظيم فقضى عاماً في سجون الجنائيين.
رغم أنّ الجماعات كانت تضع الجنائيين كهدف للتجنيد إلا أنها اصطدمت معهم في بعض الحالات
ومع أنّ تلك الجماعات كانت تضع الجنائيين كهدف للتجنيد واستخدمت معهم أساليب ترويضية واستقطابية، إلا أن هناك حوادث صدامية معهم كان أشهرها حادثة سجن أبو زعبل الصناعي، التابع إدارياً لمحافظة القليوبية شمال القاهرة؛ ففي العام 1993 صعد العشرات من السجناء الجنائيين للدور الثالث، حاملين زيتاً مغلياً، بينما كان يؤدي السجناء المنتمون للجماعة الإسلامية الصلاة في الساحة التي تتوسط العنابر،.. ألقى الجنائيين الزيت على جموع الجهاديين فأصابوا أعداداً منهم بإصابات بالغة.
على إثر ذلك نظم الإسلاميون فرقاً لأخذ الثأر فاقتحموا على الجنائيين زنازينهم وصعدوا إلى الأسطح وبدأوا في إلقاء أعداد منهم من الأدوار العليا فقتلوا 7 منهم، بينما أصيب 72 آخرون بإصابات بالغة وعاهات مستديمة.