بين محمد عبده وفرح أنطون.. ما تبقى من سجالات النهضة المُجهضة

بين محمد عبده وفرح أنطون.. ما تبقى من سجالات النهضة المُجهضة


24/09/2018

ليس القصد من تقصي سجالات النهضة العربيّة هروباً من واقع يزداد فيه العرب عجزاً عن التحقق السياسي والثقافي في الأزمنة الحديثة، بل إنّ الوجود العربي نفسه أصبح على المحك بعد الانتقال الدراماتيكي من الجمود الشامل إلى التدمير الذاتي (في حقبة الربيع العربي) الذي بات يهدد بعض الشعوب العربيّة بالعودة ألف عامٍ إلى الوراء، بل يكمن القصد بالتحديد في المساهمة في وصل وشائج الثقافة العربيّة الممزقة، وضخ جرعة ناجعة في مسامها من عناصر الإبداع والتعقل الكامنة بماضيها.

ومقاربة من هذا النوع، تسعى لاستدعاء سجالات النهضة (التي لم نبارحها كليّاً)، ستكون ناتجة بالأساس عن استشعار اهتزاز العقل في الراهن العربي، كما أنها ترمي لتكون مواجهة حقيقيّة مع بؤس الواقع ومقارعة عجزه، ومرافعة ضد الانتهاك المنظم للعقل العربي، وهو الانتهاك القاضي بإجبار الأصوات المتعددة على الصمت، والانزواء لصالح صوت واحد يجسد تصوراً سلبيّاً للهويّة يشل الأدمغة بتعريفه نفسه بأنه ضد المنجز الحضاري للذات وللآخر معاً.

سجال الماضي المستمر

على صفحات مجلتيْ "المنار" و"الجامعة" اندلع الجدال بين الإمام محمد عبده مع فرح أنطون؛ أحد أعلام النهضة العلمانية العربية، حول مسألة الاضطهاد في المسيحيّة والإسلام، ومن ثم الحاجة أو عدم الحاجة إلى العلمنة والتسامح الديني، وكذلك حول طبيعة وأسباب التأخر التاريخي الذي يعانيه "الشرق".

فإذا كانت النخبة المثقفة في العالم العربي/الإسلامي تشترك في الاعتقاد بواقع التأخر والجمود والانحطاط فإنها، كما يشير كمال عبد اللطيف في كتابه التأويل والمفارقة: نحو تأصيل الحداثة السياسيّة، لم تكن تفكر بطريقة واحدة في تجاوز هذا الواقع.

يُعدّ أنطون أحد أهم أعلام النهضة العلمانية العربية

فالمنظومة المرجعيّة النظريّة التي تشكل أساساً وسنداً لموقف الإمام محمد عبده هي المشروع الإصلاحي السلفي وغاياته السياسيّة التي تتمحور حول كيفية توحيد المسلمين لتجاوز التأخر التاريخي والفرقة، ومن ثم درء الغزو الغربيّ، والوحدة في هذا المنظور قائمة لا محالة على العودة إلى الإسلام في لحظته الأولى قبل ظهور تبلور الاختلافات السياسيّة والمذهبيّة والثقافيّة.

اقرأ أيضاً: هل يتعارض الإسلام مع العلمانية؟

أما الخيال السياسي الذي يتحكم في تصورات فرح أنطون (وهو خيال أيديولوجي بسيط) فيحركه النموذج الغربي لدولة المؤسسات الحديثة التي لن تتحقق وفق هذا المنظور إلا ضمن أفق الأيديولوجيا العلمانيّة وعقيدة التقدم، والالتفات إلى تجربة تجاوز أوروبا لماضيها المسيحي المظلم وليس بتجميد اللحظة الأولى للإسلام ورفعها كنسق معياريّ منفلت من قيد التاريخ.

مع كل سجالٍ حول وضع الدين في الدولة تتم العودة تلقائيّاً إلى حجج ذلك السجال بين عبدة وأنطون

وبهذا يكون أنطون قد دشّن أول تنظير سياسي (مؤدلج) مدافع عن العلمانيّة في العالم العربي الإسلامي وخلق طموحاً علمانيّاً في إعادة قراءة تاريخ السلطة في العالمين: المسيحيّ الأوروبيّ والإسلامي العربي باعتباره فعلاً تاريخيّاً ودنيويّاً قابلاً للتغيير والتطوير، وذلك في سياقٍ كانت فيه المحاولات الإصلاحية والجزئية ومحدودة الأفق والسقف التي يقوم عليها الإمام محمد عبده نفسها، في مرمى إرهاب الأصولية الرسميّة.

إعادة ترتيب الجدال

في ذلك السجال حشد الإمام محمد عبده كل الحجج اللاهوتيّة الممكنة للدفاع عن "خصوصيّة التجربة الإسلاميّة" التي يريد فرح أنطون أن يضعها في سلة واحدة مع مسيرة المسيحيّة الطويلة والمريرة في أوروبا، وبالنسبة إليه العلمانيّة ليست فقط مرفوضة بل غير ممكنة؛ لأن الحاكم لا يمكن أن يتجرد من دينه، كما أنّ المحكومين الذين يدبر أمرهم متدينون أيضاً.

وضداً من حماسة الإمام للدفاع عن دورٍ مفترض للدين في تدبير الحكم، حشد أنطون، بانتقائية مسرفة، مقولات عصر الأنوار الأوروبي لتبرير ضرورة الفصل بين السلطتين الدينيّة والسياسيّة؛ فبدون ذلك الفصل المُرام لا يمكن تحرير الفكر الإنساني من القهر ذي الطابع القدسي المحيق به.

اشتهر أنطون بدراساته عن حياة وفلسفة الفيلسوف ابن رشد

وبالنسبة إليه، فإنّه دون الفصل الصارم بين الدين والدولة ستكون المساواة بين أبناء الوطن الواحد بقطع النظر عن معتقداتهم، وهماً راسخاً، وهذه السلطة المفترضة للدين هي بذاتها مشكوك في شرعيتها لأنّ الدين جاء كي ينظم أمور الآخر وليس لتدبير الدنيا، كما أنّ تلك الغاية التي يسعى إليها الإمام/ الخصم في تجاوز ضعف الأمة السياسي ستكون مستحيلة إذا ما استمرت علاقة الجمع بين الدين والدولة.

الإمام حشد كل الحجج اللاهوتيّة الممكنة للدفاع عن "خصوصيّة التجربة الإسلاميّة" فردّ أنطون بحشد مقولات عصر الأنوار الأوروبي

أما الإمام الذي يقف على مستوى عالٍ من العقلانيّة في نقده لتاريخ المسيحيّة في أوروبا، فينحّي كل ذلك جانباً حين يعالج تجربة الإسلام التاريخيّة، وليس ذلك غريباً عن تكوينه الديني ولا عن أفقه التأويلي الذي يقارب به القضايا الكبرى الطارئة على الوعي المسلم.

فالإطار التاريخي والفكري الذي يتحرك داخله الإمام يضع سقفاً صلباً للمشروع الإصلاحي الإسلامي يمنعه من الوصول إلى العلمانية واستدخالها ضمن معجمه السياسي المثقل بتراث طويل امتزج فيه الميتافزيقي الديني بالتاريخي والسياسي، لذا كان على الإمام أن يقارع اللغة والمفاهيم الحداثيّة التي يستخدمها أنطون بلغة كلاميّة تعود إلى القرون الإسلاميّة الأولى.

وعلى النقيض منه؛ كان الأفق الزمني الذي يتحرك فيه أنطون يسمح له بتبني جُلّ مقولات وأطروحات الفلسفة السياسية لعصر الأنوار المشبعة بالحماسة الوضعية والتفاؤل الدنيوي بتسيّد التسامح وحريّة الفكر وانتصارهما على الاختيارات التقليديّة الموروثة.

آفاق جديدة؟

ثمرة ذلك السجال تكمن في أنه كان أول معالجة صريحة لمسألة العلمانيّة في العالم الإسلامي، كما يقول الأكاديمي المغربي كمال عبد اللطيف الذي يؤكد أنّ طبيعة المعالجة النظريّة التي أُنجرت في ذلك السياق ولّدت دعاوى ومبررات وحججاً رسمت الملامح العامة لاختيارين فكريين متناقضين: الاختيار السلفي والاختيار العلماني.

اقرأ أيضاً: مذكرات محمد عبده.. كيف ودّع رائد التنوير كراهية العلم؟

واستمر المساران اللذان حددهما السجال السلفي/ العلماني كحاكمين متصارعين للعقل السياسي العربي، أحدهما يقارع العلمانيّة باعتبارها خطراً على المكانة التاريخيّة للإسلام في المجتمعات العربيّة، والآخر يلح على ضرورتها لإنجاز التقدم والقفز على التأخر الذي تعانيه تلك المجتمعات.

كان الأفق الزمني الذي يتحرك فيه أنطون يسمح له بتبني جُلّ مقولات وأطروحات الفلسفة السياسية لعصر الأنوار

ومع كل سجالٍ يتجدد حول وضع الدين في الدولة أو موقع الدولة في الدين، تتم العودة تلقائيّاً إلى حجج ومنطق ذلك السجال الأول (حتى وإن لم يطلع الخصوم على تفاصيله) وإلى الأطروحات التي تمت بلورتها أثناء الانخراط فيه، سواء تلك التي تميز بين الاعتقاد الديني والممارسة السياسيّة، أو التي تجمع بينهما في مركب اجتماعيّ واحد.

لكن على الرغم من الحصار العنيد الذي فرضته الأصوليّة الرسميّة ومن بعدها الحركيّة، التي تسيّدت الاجتماع العربي، على المقولات العلمانيّة في الفترة ما بين تاريخ ذلك السجال وحتى اللحظة، فإنّ تراثاً نظريّاً علمانيّاً اكتملت ملامحه ولا يزال قادراً على تبرير وجوده والتأكيد على شرعيته وتطعيم نفسه أولاً بأول بالمستجدات الفلسفيّة والعلميّة بوعدٍ أن يتعقل العرب ماضيهم وحاضرهم.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية