عثر أحد أصدقائي على منزله الذي يقطن فيه، بعدما ذكرت بعض وسائل الإعلام سفره لسوريا، لم تكن المفاجأة في ذلك أن شرفة منزله تطل على بوابات دار القضاء العالي مباشرة.. إذاً هو ليس مطلوبًا للسلطات الآن، ولم يهاجر إلى الشام، هو يعاني من إصابة قديمة في قدمه، تعجزه عن الانتقال والحركة.
يسكن في بناية عريقة تنتمي في شكلها وتاريخها للقاهرة الخديوية، كانت ملكاً لجده ووالده، هنا تربى محمد الشرقاوي، وصديقه عصام القمري، أحد أشهر قيادات تنظيم الجهادي، اختار "القمري" دخول الكلية الحربية، بينما اختار هو الهندسة.
يقول "الشرقاوي" إنه تأثر بالتيارات الإسلامية العامة في مصر بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، ثم انضم لجماعة أنصار السنة المحمدية، متأثراً بمشايخها في ذلك الوقت.
كان أحد ثلاثة أسسوا تنظيم الجهاد، مع أيمن الظواهري، وإسماعيل الطنطاوي، وكان معهم عصام القمري، الذي اختار دخول الكلية الحربية منذ البداية، آملاً في تنفيذ انقلاب.
إنه يتذكر الأخطاء الآن بشيء من الندم، لكنه يرى أنه لو أخذت الأمور مساراً مختلفاً لربما كانوا وصلوا لسدة الحكم الآن. يتابع مسترسلاً: انضم إلى التنظيم كل من صالح سرية، المتأثر بالإخوان، والذي ذهب بعد ذلك لطلال الأنصاري، الذي قاده لزينب الغزالي، وانضم سالم الرحال، المتأثر بحزب التحرير، فباءت الخطة كلها بالفشل.
يضيف: "خطط صالح سرية لعمل انقلاب ضد أنور السادات والسيطرة على وزارة الدفاع، لكنهم كانوا طلابًا وليسوا طلاباً كما كان القمري ، ولم تكن لهم خبرة عسكرية، لكن صالح سرية، يعمل في منظمة التحرير، ويعمل في جامعة الدول العربية، وله علاقات واسعة جداً، فهل كانت تنقصه الخبرة، فحركة الفنية العسكرية كانت سبباً لضرب حركتنا كلها" .. فهمت أن الرجل يلفت إلى نظرية المؤامرة، وأنه ربما كان "سرية" مندساً عليهم لكشف جماعتهم، ثم يربط بين الماضي والحاضر: التاريخ يعيد نفسه، فما حدث بالأمس يحدث اليوم".
مضت السنون لكن أفكار الشرقاوي لم تتغير؛ إذ يرى أن "النظام الإسلامي لا يأتي بالأصوات ولكن يأتي بالصفات"
"الفكرة نفسها التي تحدُث في كل التنظيمات الإسلامية المتحمسة الجديدة الآن، جيل شاب متحمس يقوم بشراء فرد (خرطوش)، يتصور أنه سوف يجاهد به، ولا يعرف حتى أن يخفيه وكيف يتعامل معه؟ كنا نطلق عليه في السجن "الفرد المبارك"، تحمله كل التنظيمات وتدخل به السجن بعد ذلك من غير لا تنظيم ولا يحزنون".
يكمل: "الإخوان الآن يقولون إنهم لم تكن لهم علاقة بــ" الفنية العسكرية"، طبعاً لا بد أن يقولوا ذلك، ويتبرأوا منها، إنهم يستغلون الشباب ويجعلونهم يحاربون بالوكالة، ويجلسون هم لحصاد الجانب السياسي".
في العام 1980 كان قد سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأثناء عودته في الطائرة في السادس من أكتوبر من العام 1981 قادماً إلى مصر كان الرئيس الراحل أنور السادات قد قتل وبعد صوله إلى القاهرة، اتصل بصديقه الضابط عصام القمري، الذي كانت الأجهزة الأمنية تبحث عنه، لضلوعه في عملية الاغتيال، وسلبه عدداً من صناديق الذخيرة والسلاح التابعة لكتيبته، كان قد أعد وكراً لإخفاء "القمري" .
اقتحمت أجهزة الأمن منزله فلم تجد سوى والده، الذي أخبرهم بمكان ولده، فلم يكن يخطر في باله أن ولده ضالع في تلك الأحداث. اقتحم الأمن الوكر، ودارت الاشتباكات، وقبض على الشرقاوي.
ذكر زعيم القاعدة أيمن الظواهري هذه الواقعة، وأثنى على "الشرقاوي" في كتابه "فرسان تحت راية النبي".
يقول إنه لم تكن لديه تفاصيل يمكن أن يدلي بها، لكن رجال الشرطة وقتها لم يقتنعوا بذلك، فعذبوه، في رجله، وتركوه بدون علاج، حتى بات الجرح مزمناً لم يفارقه إلى الآن، وقد كشف لنا عن ساقه، ووثقت الإصابة عدسة الكاميرا.
مكث في السجن بضع سنين وما لبث أن أفرجت عنه السلطات، حتى تم اعتقاله هذه المرة بتهمة محاولة اغتيال وزير الداخلية، حسن أبو باشا. يقول إنه لم يكن متورطًا. كان تنظيم آخر يدعى "الناجون من النار" يدعي مرة أخرى أنه عذب في نفس موضع العذاب القديم.
خلاف الشرقاوي مع الظواهري كبير لدرجة أن "الحصاد المر" كان كتابه الذي حمل عنوان "ماسونية الفرق"
بعد خروجه هذا المرة كان سفره إلى السعودية، لأداء العمرة، حسب قوله، إلا أن والدته حذرته من العودة، فبعد وصوله إلى هناك ببضعة أيام، كانت صديقه عصام القمري، قد نفذ عملية هروب كبيرة، اشترك فيها العشرات من رفقائه من داخل السجن وخارجه.
وقع خبر مقتل "القمري" على الشرقاوي كالصاعقة، فطار من المملكة العربية السعودية إلى بيشاور في باكستان ليلتقي برفقاء دربه هناك.
يروي الشرقاوي تلك الواقعة:
"في عام ١٩٨٧ خرجت لأداء فريضة الحج، وكنت لتوي خارجاً من السجن بسبب أحداث محاولة اغتيال وزير الداخلية حسن أبو باشا، وفي ليلة مزدلفة، قتل عصام القمري بعد هروبه من ليمان طرة، وكلمت والدتي في الهاتف، فقالت لي: المباحث عندنا ولا تحضر لمصر. فكرت في السفر إلى أمريكا ولم يكن معي مال. ولم يكن أمامي غير طريق هيئة الإغاثة الإنسانية بالسعودية التي تعطي تأشيرة إلى باكستان وتذكرة مجاناً، وعندما ذهبت تقابلت مع الظواهري وسيد إمام وتحدثنا".
هناك أصبح الشرقاوي "أبو عبدالرحمن الإلكتروني"
تولى مسؤولية القطاع الإلكتروني في القاعدة، فصنع اللاسلكي بقطع غيار استوردها هو، لكن سرعان ما نشبت الخلافات بينه وبين الظواهري، فترك التنظيم، وتزوج باكستانية، وحصل على الجنسية، لكن السلطات الباكستانية كانت قد سلمته إلى مصر، فوجد نفسه قابعاً في سجونها مرة أخرى، وليجد كنية جديدة في استقباله " أبو عبدالرحمن الكبير" .
وسط قطع الأثاث التاريخية التي ندر وجودها في هذا الزمان، يستعيد ذلك الرجل ذكرياته، بحسرة مرة وبفخر مرة أخرى. لقد كان الخلاف مع الظواهري كبيراً لدرجة أن كتاب "الحصاد المر" كان في الأصل كتابه الذي حمل عنوان "ماسونية الفرق"، لكن الظواهري أخذه ونسبه لنفسه!
ويذكر أسباباً كثيرة وراء عودته إلى مصر منها أسباب اشترط علينا عدم نشرها، في حين صرّح بنشر سبب واحد: "لقد انتقدت حسني مبارك في قناه تلفزيونية أجنبية".
كان اختلافه مع الظواهري، اختلاف سياسات؛ إذ نصحه ذات يوم: "أن لا نعمل موردين أنفار بالوكالة لأية جهة، لا يوجد إمكانيات للجهاد عندي أنتظر حتى تتوفر الإمكانيات للجهاد".
مضت السنون لكن أفكاره لم تتغير كثيراً. يقول "النظام الإسلامي لا يأتي بالأصوات ولكن يأتي بالصفات"؛ فالجيش والشرطة أجهزة ليست قائمة على فكرة الأصوات والنظام الديمقراطي، ومن هنا فالاختيار بالصفات والمؤهلات هي الأقوى عندهم، وهذا يتفق مع النظام الإسلامي، ومن خلاله يسهل التعامل مع فكر الجيش والشرطة، وعند اختيار سيدنا أبي بكر كان اختياره من أجل الصفات التي حباه الله بها وعلاقته بالنبوة".
ويكمل: هل صوت "بائعة الجرجير" يتساوى مع طبيب أو أستاذ الجامعة، قصة طالوت وجالوت، وقوله تعالى: «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»، وهنا يسقط مبدأ الاختيار.