أبناء الأرض البور

أبناء الأرض البور


10/07/2018

لاحت التلال البنية الداكنة من بعيد، وهي تبتلع قرص الشمس، عليّ إذاً التأهب للدوران حول المنحدر القادم، وإعتاق محرك السيارة من تحت قدمي لعلّه يلتقط أنفاسه للحظات، هدأت السرعة في مدخل البلدة التي بدت معالمها، وقد تغيرت إلى حدّ بعيد، اتسعت رقعتها، وتمدّد سكانها، وأضحت مدينة مترامية الأطراف ذات بوّابة رئيسة ترحب بضيوفها، وانقسم الطريق المعبّد ذهاباً وإياباً.

لا شكّ في أنّها ارتقت ببنيتها التحتية وعلت مبانيها، لكن نزعات العصبية ما تزال تسري في العروق، وموروثات الأجداد بادية على الوجوه، كما الأفئدة والعقول، كنت على يقين من ذلك، بعد أن سمعت عن الاشتباكات العنيفة التي دارت بين العائلات مجدّداً، للاستحواذ على الأراضي، والصراع الذي يتعالى إيقاعه كلما حلّ استحقاق انتخابي.

نزعات العصبية ما تزال تسري في العروق وموروثات الأجداد بادية على الوجوه كما الأفئدة والعقول

لم يعد ضرورياً، أن أحلّ ببدني هنا حتى أعرف ما استجد في حالتهم الاجتماعية، بعد أن اجتاح "فيسبوك" البلدة، فبدا كبلاّعة طفحت منها روائح كريهة لكلمات مؤذية وكراهية تختبئ أحياناً وتراوغ، وتفضح عن نفسها في أحايين أخرى، تلقف نيران العصبية الجميع؛ فأبناء العائلات الكبرى يتعالون على الصغيرة، والعائلات الواحدة يتعالى كلّ فرع فيها على الآخر، والجميع يمارسون العنصرية على السكان الجدد الذين استوطنوا هذه الرقعة من الأرض في بداية النصف الثاني من القرن العشرين.

منذ 300 عام، أو يزيد كانت عبارة عن سلسلة من التلال البنية، ينحدر منها وادٍ فسيح من التربة السبخة التي يكتنفها شجر الغرقد في كل مكان، لا أثر هناك لزروع أو نخيل، أجواء مشحونة بالوحشة والخوف كأنّها أرض ملعونة في الكتب السماوية، كانت تعمر سريعاً وتزدهر لكن ما تلبث حتى يأتي عاليها سافلها، أثر الدمار والخراب لا يحتاج إلى دليل، فلم يعد هناك حجر على حجر، تكسّرت مسلات الفراعنة واندثرت معالمهم وحضارتهم تحت أكوام التراب.

أبناء العائلات الكبرى يتعالون على الصغيرة والعائلة الواحدة يتعالى كلّ فرع منها على الآخر

ظهرت أكواخ من الخوص المتهالك على جانبي ترعة كبيرة، كان قد شقّها، محمد علي باشا، والي مصر بين عامي (1805 حتى 1849)، ضمن مشروعه الكبير في استصلاح الأراضي، وكانت النطفة الأولى في إعادة الحياة في تلك الرقعة من الأرض، عاش سكان الأكواخ على الصيد بجوار حفرة حفرتها المياه الهادرة في أحد المنحنيات حتى تراكمت فيها الأسماك، وباتت ككنز لهؤلاء الحفاة.

ما كاد يهلّ القرن العشرون، حتى أصبحت التلال البنية تطل على عشرات البيوت من الطين اللبن، تحضن بعضها، ويحدوها من الجهة الغربية بحر من المياه العذبة، تشرع فيه بين الحين والآخر مراكب صيد تعلوها أشرعة تقاوم بأس الرياح العاتية.

لاحت من بعيد خضرة الزرع، ورفضت الأرض القريبة من حضن التلال البذور، وبقيت الأسباخ مستوحشة، ترفض حتى على تلك الأرض البعيدة عنها أن يتفتق باطنها عن ورود، أو أشجار فاكهة سامحة فقط بتلك المزروعات المؤهلة للحياة.

اقرأ أيضاً: لماذا لم يتأثر تديّن مصر برحيل الإسلاميين؟

تكاثروا وقبلوا بينهم بعدد من الأغراب البائسين مثلهم، وعرفوا الزراعة بعد أن قاموا باستصلاح مساحات من الأرض، على قدر ما وسعهم جهدهم، وبدأت الحرف تشقّ طريقها إليهم، بعدما أن احتاجوا إلى نجارين وخيّاطين وغيرهم من أصحاب المهن.

في ملامح وجوههم خشونة وطبائعهم أيضاً، يابسة متخشبة، ولكنتهم تبدو هجينة امتصّت من كل اللكنات القريبة كل ما هو نافر للأذن، وغير متناغم، بعضها جاء من قبائل البدو والفلاحين والصيادين.

باتت للأجداد الأوائل أسر كبيرة تحوّلت إلى عائلات اتخذت من اسم الجد الأول لقباً لها، وما لبثت أن انتشت بنفسها وبتكاثرها وزينتها وأموالها، ودبّ الصراع بينها، بعد أن زعمت كلّ واحدة منها أنّها ذات حسَبٍ ونسَبٍ.

في ملامح وجوههم خشونة وطبائعهم يابسة متخشبة ولكنتهم تبدو هجينة امتصّت من كل اللكنات القريبة

في بداية القرن العشرين، استطاعت إحدى العائلات تنصيب عمدة للقرية، فطغى على أهلها وتجبّر، إلا أنه لم يستطع أن يحميها من بطش أحد الفتوات الذي كان يغير عليها، من آن لآخر، فيختطف نساءها أو يسرق بهائمها جهاراً نهاراً، لقد خضع لذلك الفتوة الغريب، وأبدى له فروض الولاء والطاعة.

وفي عنفوان الحالة الاستعمارية، التي فرضها الفتوة، شلبي أبو شاهين، اندلع صراع دموي بين العائلات إثر موقف بسيط، تعالى فيه أحدهما على الآخر، فكانت الحصيلة 4 قتلى من العائلات المتناحرة.

لم يتوقف الصراع إلا عندما حلت فرقة "الهجانة"، بإبلها وسياطها وبنادقها، حتى أدخلت زعماء العائلات في جحورهم، ولم يتجرّأ أحد على الخروج من منزله، لقد خضعوا للسلطات الخارجة على أعرافهم ومنظومتهم.

بدت التلال عن يمينهما موحشة، كما بدت الأجداث المتراصة عن شماليهما أشدّ صمتاً ومهابة وإجلالاً، خرج عن سكونه العميق، وقال لصاحبه: ألا ترى أنّ الأفق مظلم والقمر لا ينير الطريق؟ قال له صاحبه: ألا ترى أنّ هناك نجماً بعيداً يبدو وحيداً منفرداً؟ أجاب: نعم. فأردف: كان العرب قديماً يسمونه "سهيل"، ثم عاد الصمت يخيّم على كليهما.

اقرأ أيضاً: "كرداسة" قرية مصرية وأحد مصانع "الإخوان" على خطى داعش

فجأة توقّف، وعرّج في اتجاه التلال عدة خطوات، تاركاً الطريق المعبّد، ثم جثا قليلاً، وقبض قبضة بيده من أرض قفراء، وتساءل: هل ترى أنّ هذه الأرض السبخة يمكن أن تكون خصبة؟ فقال له صاحبه: انظر هناك من وراء هذه القفار، لا يفصلها عن الخضرة إلا عدة أمتار، قد استطاع أجدادنا أن يصلحوا الأرض السبخة حتى أصبحت أرضاً خصبة تطرح اللوز والسنابل، قال صاحبه: لكنها لم تنبت الورود.

كانت طلائع الرياح تهب من بعيد محمّلة بغبار لا يبدو إلا تحت بقع الضوء المشعة من أعمدة الكهرباء المطوقة للقبور، أشار أحدهما بيده قائلاً: أترى هذا القبر الغائر، إنه قبر جدي والد أبي، كان أبي صباح كلّ عيد يأخذني إليه لنقرأ له الفاتحة وياسين، لكنّه لم يأخذني إلى قبر جده هو، فأين قبر جده؟ وأين قبر أبي جده؟ وإذا كان هنا فلماذا دفن في هذه الأرض السبخة؟ هل كان يعرف القراءة والكتابة؟ وإذا كان، فلماذا لم يدوّن نسب العائلة الكريمة في سجلاتها؟ ولماذا لم يعلّم أولاده في الأزهر؟ هل كان ثرياً؟ وإذا كان، فلماذا سكن الأرض السبخة ولم يسكن الأرض الخصبة؟

ظلّت بقايا الأحقاد في الأفئدة ونسوا أنّهم أبناء ذاك الفقير الذي أتى على مركب ذي شراع

على مركب ذات شراع أتى فقاومته الرياح العاتية، فنزل الماء في ليلة شتاء قارس، حتى عبر إلى فراشه، وطوّق خصره بالحبل، وأخذ يشدّ مركبه بخطى وئيدة، يقاوم عنف الرياح حتى وصل لهذه الأرض، رمى بشباكه وانتظر وصبر حتى يرزقه الله، فأكرمه الله، ووصل قريته، وأشعل موقده، وطهى طعامه، ودخل في العشّ يأكل هو وأولاده، وتدفؤوا حتى ناموا، وعندما كبروا بنى لهم كوخاً فوق الفراش، وطلاه بالطين والتبن حتى يصدّ عنهم ثقوب الصقيع.

انظر هناك في الجهة المقابلة، هناك تهاوت امرأة مسكينة أصابت فؤادها الطيب رصاصة طائشة أطلقها جدي الغاضب، سامحه الله.

اقرأ أيضاً: الخرافة الدينية والآخر في التصور الشعبي.. جهل أم عنف؟

أرأيت هذا القبر المترب؟ كان رجلاً من هذا القوم فبغى عليهم، كيف تحوّل ابن الرجل المستكين الذي رمت به المركب ذات الشراع إلى ضفاف البحر إلى رجل متكبّر متغطرس متعالٍ؟ هل هي قوة المال؟ فمن أين أتى به؟ وإن كان من كثرة العدد، فلماذا استعبد الآخرين؟

لا أعرف لماذا عدّ دماءه زرقاء، وهو ابن التربة السبخة، ولم يعرف من أي البلاد جدّه، لكن هناك من تمرّد فكانت واقعة الشيطان، وتهاوت المرأة وتهاوى الرجال، ونفخ الشيطان في نار العصبية حتى اشتعلت، ذهبوا ولم تذهب الأحقاد، بل ظلّت بقاياها في أفئدة الأبناء، وتضخّم الشعور بالذات، ونسوا أنّهم أبناء ذاك الفقير الذي أتى على مركب ذي شراع.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية