سالومي.. حين تحولت القصة الدينية إلى لوحة خالدة تحكي همومك

سالومي.. حين تحولت القصة الدينية إلى لوحة خالدة تحكي همومك


17/04/2018

لوكاس كراناخ.. شاهد على ميلاد الإنسان الجديد

حين تنظر ألمانيا إلى تاريخ تطور قارّتها، تذكر مباشرة، وبكلّ فخر، أيقونة من أيقوناتها، ورمزاً من رموز تطور التاريخ الأوروبي، إنّه لوكاس كراناخ، أحد أهم فناني القرن السادس عشر، ومن أكثرهم إبداعاً، لذلك مع كلّ ذكرى ترتبط بالفنان الألماني المشهور، تحتفل وسائل الإعلام والنشر الألمانية بأيقونتها، وتعيد إبرازها، لتؤكّد أنّها شاركت بقوة في سياق تطور الفكر والفنّ في أوروبا والعالم.

لوكاس كراناخ، بحسب مؤرخي الفنون البصرية، هو واحد من أهم الذين جسّدوا روح عصر النهضة في فنّهم، وساهموا بلوحاتهم في انطلاق الإنسان نحو عصر جديد، وآفاق جديدة من التفكير والتعبير عن الذات والعصر، لكنّ الأهم في كراناخ، هو أنّ لوحاته التي تنتمي إلى عصر النهضة وتعبّر عنه، ما تزال في عصرنا هذا تلقى الإعجاب والدهشة نفسهما، وما تزال قادرة على فتح أبواب جديدة في عقل الإنسان المعاصر.

يحيى.. قصة نبي نشاهده كل يوم!

هو يوحنا المعمدان، الذي ولد لأب صالح اسمه زكريا الكاهن، وكان آخر أنبياء العهد القديم، بحسب الديانة المسيحية التي تروي أناجيلها أنّه عمد يسوع، وهو يحيى بن زكريا النبي التقي الورع الشاب، الذي أوتي الحكمة منذ طفولته، وهو نبي الديانة الصابئية المندائية صاحب كتاب "تعاليم يحيى"، بحسب الصابئة، وهو نبي من الأنبياء في نظر البهائيين، كلّ تلك الديانات وأتباعها تقدس "يحيى"، وتختلف في تفاصيل حياته ونشأته، لكنّها تتفق في سماته العامة، الخاصة بالورع والزهد والصلاح والدعوة إلى عبادة الله، وانتظار ملكوت السماء الذي يقترب يوم الرحيل إليه بشدة.

بحسب التصور المسيحي؛ فإنّ يوحنا كان تقياً وزاهداً وورعاً، رفض أن يوافق الملك الطاغية على رغبته في الجمع بين أم وابنتها في الفراش، ورفض كلّ إغراءات الحياة الدنيا، وفي ليلة رقصت فيها سالومي "الابنة" للملك الطاغية، استطاعت أن تنتزع منه أمراً بقطع رأس الزاهد الورع يوحنا.

بقيت قصة يوحنا قادرة على ملامسة القلوب على مرّ الزمن ليحتلّ يوحنا أو يحيى مكانة مرموقة في قلوب أبناء الديانات

الرواية، بهذه الصورة من تصاعد الأحداث، كانت صالحة لكلّ عصر، وقادرة على ملامسة هموم الناس في كلّ العصور، فلم يخلُ عصر من ملك طاغية، ولم يخلُ عصر كذلك من شاب يقف ليعترض على طغيانه فيذوق العذاب، ومن هذا الباب، بقيت قصة يوحنا قادرة على ملامسة قلوب من يسمعونها على مرّ الزمن، ليحتلّ يوحنا، أو يحيى بن زكريا، مكانة مرموقة في قلوب أبناء الديانات الكثيرة التي تؤمن به وبفضله وورعه.

ولأنّها صالحة لكلّ عصر، وقادرة على محاكاة هموم الناس في كلّ مكان، ولأنّها تسرد حكاية مشابهة لما يتكرر أمامهم كلّ يوم، سواء كان البطل هو النبي يحيى بن زكريا، أو شاباً يافعاً لا يقبل الطغيان في أي زمان، فقد استخدم كراناخ القصة الراسخة في الأذهان للتعبير عن همومه بريشته، فتصبح الصورة كأنّها لحكاية تحدث في القرن السادس عشر، وليست لحكاية من زمن ما قبل الميلاد.

سالومي.. فتاة من القرن السادس عشر!

كان ولع كراناخ الكبير باللوحات التي اشتهر بها الفنانون الإيطاليون في عصره، الخاصة بصور البوتريهات النصفية، التي كانت واقعية للغاية، وتصور الأشخاص في اللوحات وكأنّهم أحياء من لحم ودم، ودراسته الكبيرة لها أثناء تعليمه في إيطاليا، قد قدّمت له مساحات جديدة للإبداع، وحبك لوحاته، بطريقة تنضح بروح العصر، وفي الوقت نفسه كان كراناخ شديد الاهتمام بالقصص الدينية وحتى الأسطورية، المشكلة للوعي العام في زمانه، ومن ثم فقد خلق نوعاً فنياً خاصاً بريشته، امتزجت فيه عناصر غريبة ببعضها، لتمنح لوحاته روح العصرية حتى يومنا هذا.

كان واحد من أكثر الموضوعات التي يهتم بها كراناخ، وتشغل تفكيره، هو سلطة المرأة الخفية على الرجل

في لوحته الشهيرة "سالومي ورأس يوحنا" قرّر الفنان الألماني، أن يعالج موضوع القصة الدينية ليوحنا المعمدان، بطريقة جديدة، ومن زاوية همومه الشخصية، ومن ثم فقد رسم كراناخ الفتاة سالومي، وهي تحمل رأس يوحنا الزاهد على طبق من ذهب، لكن هذه المرة لم تكن سالومي تلبس ملابس عصرها، الذي ينتمي لأعوام ما قبل الميلاد، وإنما رسمها برداء فتاة أرستقراطية من القرن السادس عشر؛ أي بملابس النساء في عصره، وكأنه يقول إنّ القصة تتكرر كلّ يوم؛ الآن وهنا.

كان واحد من أكثر الموضوعات التي يهتم بها كراناخ، وتشغل تفكيره، هو سلطة المرأة الخفية على الرجل، والجانب المظلم للجاذبية الأنثوية، وكان ذلك جلياً في لوحاته العارية للنساء، كما كان جلياً في لوحاته التي اشتملت كثيراً على الزوجين المختلفين في الشكل، كأن يرسم الزوجة كامرأة عجوز، والزوج شاباً، أو العكس. 

في الواقع، استطاع كراناخ، عبر القصة الدينية، أن يحكي هموم شباب عصره، وهمومه الشخصية، بطريقة جذابة ومبتكرة، ألبس فيها بطلة القصة، رداء فتيات زمانه من الطبقات الغنية، واستطاع أن يخترق عوامل الزمن، فتظلّ لوحته، حتى يومنا هذا، قادرة على إدهاش من يراها، وتدخله في عوالم جديدة من التفكير في طبيعة الحياة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية