الليبرالية إذ تنتج من نجاحها فشلها الخاص

الليبرالية إذ تنتج من نجاحها فشلها الخاص


15/01/2018

كانت الأيديولوجيات الثلاثة التي هيمنت في القرن العشرين تتمثل في الفاشية، والشيوعية، بالإضافة إلى الليبرالية التي ظلت على قيد الحياة، وهو ما خلق وضعاً يميل فيه أنصار الليبرالية إلى أن ينسوا أنها أيديولوجية وليست الحالة الطبيعية للتطور السياسي الإنساني.
هذا مدخل مهم يقدم فيه أستاذ العلوم السياسية والدستورية في جامعة نوتردام الأمريكية، باتريك دينين في كتابه الاستفزازي: لماذا فشلت الليبرالية؟ الصادر هذا الأسبوع من جامعة ييل، وفيه يرى أنّ الليبرالية مبنية على أساس التناقضات: فهي تبشر بحقوق متساوية مع تعزيز عدم المساواة المادية، وسعيها لتحقيق الحكم الذاتي للفرد، أدى إلى قيام نظام الدولة الأكثر عمقاً وشمولاً في تاريخ البشرية.
هنا، يقدم دينين بحثه الشخصي في ملامح النظام (الليبرالي) الذي و"من خلال نجاحه أنتج فشله الخاص".

يتناول المؤلف أزمة الليبرالية من زاويا عدّة، ومنها الشراكة المريحة بين الممولين الدوليين ودولة الرفاهية المتغطرسة

لقد كانت القدرة على النقد الذاتي سمة مميزة للعقل الليبرالي، لكن تأمل الليبراليين الأمريكيين لما حملته عام 2016، ظل منصبا بشكل جوهري على دور "القرصنة الروسية" ضمن سياق ينتظم في نظرية المؤامرة التي أوصلت ترامب واليمين المتشدد إلى البيت الأبيض، فأصبحوا هم أقل استعداداً للنظر إلى هزيمتهم بوصفها ناتجة عن خطأهم، فالعيوب الكامنة في النظرية الليبرالية تجعل الاضطرابات الجذرية ممكنة كما في ظاهرة ترامب أمريكياً وبريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي).
لكن الليبرالية السياسية الأمريكية هل تعني "الحكم الدائم من قبل الحزب الديمقراطي" أكثر من أي تساؤل جدي وواسع النطاق حول العقيدة الديمقراطية الليبرالية؟ ذلك ما يشرحه باتريك دينين في مقدمة كتابه، وبخاصة فحص مدى استعداد تلك العقيدة (الديمقراطية الليبرالية) في التعايش مع مبدأ "المجتمع السياسي" يمكن أن يقوم على أساس مختلف معها.
ولكن ماهي الليبرالية؟
تصور البشر بوصفهم أشخاصاً لهم كامل الحقوق ويستطيعون أن يصنعوا لأنفسهم وبأنفسهم حصتهم الخاصة من الحياة الطيبة. الحرية هي أفضل ما توفره حكومة محدودة مكرسة لـ "تأمين الحقوق"، إلى جانب نظام اقتصادي في السوق الحرة يتيح مجالا للمبادرة الفردية والطموح الذاتي. وقد استندت الشرعية السياسية إلى الاعتقاد المشترك في "عقد اجتماعي" ناشئ يمكن للقادمين الجدد الاشتراك فيه، والتصديق عليه باستمرار من خلال انتخابات حرة ونزيهة للممثلين المستجيبين لمطالب ناخبيهم.
بالنسبة للعديد من الغربيين تبدو هذه النظرية طبيعية جذابة، ولكن "التباين بين وعود النظرية والنظام الذي نعيشه الآن لا يمكن إنكاره". وبحسب المؤلف دينين، لا يمكن إلقاء اللوم على أي زعيم أو قرار معين مسؤول عن أزمة المجتمع الليبرالي المتقدم، ولا يمكن إلقاء اللوم على عدم كفاية الحماسة للمبادئ الليبرالية التأسيسية. بل إنّ "الكارثة الروحية والثقافية المحيطة" بنا تظهر من خلال محاولات الاستعاضة عن "العقد الاجتماعي".

الكذبة النبيلة
وهنا يلاحظ دينين ما يعتبره "الكذبة النبيلة"، المؤسسة فعلياً للنظام الاجتماعي- السياسي الأمريكي، فحين تكون الليبرالية المتقدمة ممثلة بالمساواة، لكننا نجد، وهو ليس مصادفة، أنّ اثنين من رؤساء الولايات المتحدة هما بوش الأب والإبن، وأن بوش ثالثاً كان منافساً على مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئيسية الأخيرة؟ وكذلك هل هناك من يعتقد أنّ الشابة تشيلسي كلينتون (إبنة الرئيس الأسبق) لم تحصل على سوى على المزايا ذاتها لإبنة عامل منجم للفحم؟
ويعتقد دينين أنّ "الكذبة النبيلة" للليبرالية آخذة في التحطم؛ لأنّ لا أحد يتولى الدفاع عنها سوى أولئك الذين يستفيدون منها، من فئة الطبقة الجديدة التي أنتجتها الليبرالية، في حين ينظر إليها بشكل متزايد على أنها كذبة.
إنّ "التبريرين الليبراليين يرون الاستياء المتفشي والخلل السياسي وعدم المساواة الاقتصادية والانقطاع المدني والرفض الشعبي، ولكنهم سيواصلون الخداع معتمدين على خزائن كبيرة من المصالح الذاتية في الحفاظ على النظام الحالي. هذه الفجوة سوف تتسع فقط، والأزمات سوف تصبح أكثر وضوحاً".

نزع حقوق الأفراد يجعل الليبرالية غير قابلة للاستمرار عملياً وغير متماسكة أخلاقياً، وينقل الأفراد إلى النرجسية

إنّ نزع حقوق الأفراد هو ما يجعل الليبرالية غير قابلة للاستمرار عملياً وغير متماسكة أخلاقياً، لأنّ هذه الرؤية تستبعد العلاقات والأبعاد الأكثر أهمية للحياة البشرية: "نحن لسنا مجرد أفراد، بل أيضاً أبناء أو بنات أو آباء أو إخوة، البشر يعززون عضويتهم في مجتمعات وتقاليد وأمم معينة، والنظام الذي يرفض أخذ هذه الالتزامات العميقة بنظر الاعتبار فهو سيتجرد من الإنسانية على المدى الطويل".
وهنا تبدو المفارقة واضحة بحسب منظار دينين "فمع أنّ الليبرالية تزيد من "تحرر" الأفراد وتنقلهم إلى عزلة ونرجسية لا معنى لهما، فإنها تتجاهل حرية أعمق، وحرية العلاقات بين الأجيال وبلدان العالم والأخرى".
فبدلاً من إنتاج ثقافاتنا الخاصة، التي ترتكز على الأماكن المحلية، المتضمنة أبعادها الزمنية الخاصة، والتي يتم تطويرها عادة من الميراث من الأقارب والجيران والموسيقى المجتمعية والفن ورواية القصص والأغذية، فإننا أكثر عرضة للاستهلاك المعبأ، ومع "الثقافة" الليبرالية تم إلغاء الخبرة المحلية، وبذلك يتم فقدان الذاكرة، وكل مكان يصبح كل مكان آخر متشابه. ويتم استبدال مجموعة من الثقافات الفعلية باحتفال "متعدد الثقافات".
دولة الرفاهية المتغطرسة
يتناول دينين أزمة الليبرالية من زاويا عدّة، ومنها الشراكة المريحة بين الممولين الدوليين ودولة الرفاهية المتغطرسة، وتقليل مديات الحياة الحديثة من قبل أنواع معينة من تكنولوجيا المستهلك، إلى تحريف تعليم الفنون الحرة في برنامج تتحكم به النخبة.
سواء كنا نتفق مع الأحكام النهائية للمؤلف دينين أم لا، في سؤاله الاستفزازي: لماذا فشلت الليبرالية؟ إلا أنّ المناقشات المعاصرة المحورية حول الدين والسياسة والقانون والأخلاق، يمكن العثور عليها في كل صفحة تقريباً من كتابه، على شاكلة السؤال: "من بين أكبر التحديات التي تواجه البشرية هي القدرة على البقاء على قيد الحياة".
وعلى هذا المنوال فهو يهز ّ"الليبرالية"، بوصفها الفلسفة السياسية والمؤسسات السياسية والممارسات والمعتقدات السياسية التي تهيمن على الحكومات والمجتمعات في معظم أنحاء العالم الغربي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية