الإسلاميون يبنون أحكامهم على حجج غيبية ومعطيات غير برهانية

الإسلاميون يبنون أحكامهم على حجج غيبية ومعطيات غير برهانية


08/05/2018

سعيد ناشيد

لا تتخذ العلمانية شكلا واحداً، فهي تختلف من بلد لآخر (فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، أميركا، إلخ)، وهي تختلف من تصور نظري لآخر (اليسار الجمهوري، اليسار الليبرالي، اليمين المتطرف، إلخ)، لكنها في كل أحوالها تقوم على مبدأ واضح وبسيط: أثناء النقاش العمومي الذي هو الشرط الأساسي لبناء حياة سياسية سلمية وسليمة، لا يجب علينا أن نعتمد سوى على الحجج ذات الطابع البرهاني، وهي الحجج القابلة للاستدلال.

لا يمكن تقديم المسلمات غير البرهانية كدليل، من قبيل المسلمات الدينية على سبيل المثال. لماذا؟ بكل بساطة لأن الغاية الأخلاقية للنقاش العمومي هي الاتفاق أو التوافق حول بعض الأفكار. في حقل السياسة عموما، وداخل الفضاء العمومي تحديداً، فإننا لا نناقش لكي ننتهي إلى أن يحترم بعضنا “حقائق” البعض، لا نناقش من أجل أن ننتهي إلى احترام الاختلاف الذي بيننا، فليس هذا هو مرمى النقاش العمومي، لكننا نناقش لأجل أن نتفق أو نتوافق في الأخير حول “حقائق” محدّدة، حتى ولو كانت تلك “الحقائق” ستكتفي باتخاذ شكل قواعد أساسية أو مبادئ عامة، من قبيل القوانين والمواثيق والاتفاقيات.

المشكلة أن بعض العقول تتذرع باحترام الاختلاف والتعدّد لكي تضمر نيّتها المسبقة بعدم الاتفاق، وتبرر عدم قابليتها لمساءلة مسلماتها التي تريد من الآخرين أن يتعاملوا معها كحجج سياسية. وهنا تكمن إحدى المعضلات المتعلقة بالتنوع الثقافي، وحقوق الأقليات، وأخلاقيات النقاش العمومي.

السؤال الحقيقي هو كالتالي: هل أنت مستعد للنقاش العمومي أم لا؟ ما معنى أن تكون مستعدا للنقاش العمومي؟ معناه أن تكون مستعدا لتعريض حججك للتكذيب والتشكيك والتفنيد. بالحس السليم لأخلاقيات النقاش العمومي لا يمكنك أن تقدم مسلمات غير قابلة للاستدلال، بمعنى غير قابلة للتشكيك، وتريد من الآخرين -جميع الآخرين- أن يتعاملوا معها كحجج متعالية، ويجب البناء عليها في المقابل.

لا يقوم الحجاج السياسي على حجج متعالية غير قابلة للاستدلال، وإنما ينبني على فرضيات قابلة للاستدلال، بمعنى أنها قابلة مبدئيا للتكذيب. ما معنى القابلية للتكذيب؟ معناها أننا نقبل عن طيب خاطر أن نعرضها أمام اختبارات الفحص والتشكيك والنقد والتفنيد، داخل فضاء النقاش العمومي، ليس فقط بنحو مؤقت، وإنما بنحو دائم، إذ ليس حجة سياسية إلا ما هو قابل للتشكيك والتكذيب ابتداء.

وفي الأخير فإن الفرضيات التي ستصمد في اختبارات التكذيب داخل النقاش العمومي ستكون هي الحجج المقبولة والتي بوسعنا أن نبني عليها قرارات وأحكاما وقوانين، وطبعا إلى حين ظهور معطيات جديدة قد تدفعنا إلى إعادة الاختبار.

لكن ما المشكلة في إقحام الحجج الدينية داخل مجال نقاش العمومي؟

الأمر واضح إذا، مشكلة الحجج الدينية أنها حجج لا تقوم على البرهان والاستدلال والقابلية للتكذيب وإنما تقوم على التسليم والتصديق، طالما أنها لا تخاطب العقل بل الوجدان. ومثلا، فإن المعجزات الدينية لا تخاطب العقل، وإنما هي مجال للتسليم لأنها جزء من الغيبيات التي لا يمكن إثباتها ولا يمكن نفيها كذلك، ونفس الأمر بالنسبة لكرامات الأنبياء والأولياء والقديسين فإنها جميعها لا تخاطب العقل، لكنها مجال للتسليم طالما تقع بدورها ضمن الغيبيات.

من طبيعة الغيبيات أننا لا نستطيع أن نبني عليها أيّ شيء، سواء في السياسة أو في القضاء أو في العلم أو في غير ذلك من مجالات الحياة المدنية. مثال لذلك، قد تكون لدينا هيئة محكمة يؤمن جميع أعضائها بوجود الجن، بل أكثر من ذلك قد يؤمنون بأن جنيا يمكن أن يقتل إنسيا أو العكس، مثلما كانت معتقدات السلف.

ولنفترض –أبعد من ذلك- أن شهودا شهدوا بأن إحدى جرائم القتل لم يقترفها سوى جنيّ من الجان، فهل من المنطقي أن تبني هيئة المحكمة على ذلك المعطى الغيبي أي حكم من الأحكام؟ طبعا فإن إيمان أعضاء المحكمة بالجن قد لا يتغير، وليس مطلوبا منهم في المستوى الشخصي إنكار “عقيدة الجن”، لكنهم يدركون في المقابل أن المعطيات الغيبية لا يبنى عليها أي حكم، طالما هي معطيات غير برهانية، بحيث لا تقبل الاستدلال.

بهذا المنطق يتصرف الشرطي والطبيب والجندي وغيرهم، وبالأحرى بهذا المنطق تتصرف كافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني من حيث هي مؤسسات، أو هكذا يُفترض.

في كل الأحوال يحقّ لكل إنسان أن تكون له مسلماته الدينية والعقائدية والغيبية باعتبارها قد تندرج ضمن الحاجيات الروحية للإنسان. يحق للمسيحي أن يؤمن بالأرمجيدون كما يشاء، يحق للشيعي أن يؤمن بالمهدي المنتظر كما يشاء، يحق للسني أن يؤمن بعلامات الساعة كما يشاء، وهي الحقوق التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

غير أنّ الحجة السياسية لا تكون حجة إلاّ حين تكون قابلة للاستدلال، بمعنى قابلة للتكذيب. حين يقدم بعض الأشخاص مسلماتهم الدينية كحجج في النقاش العمومي فإنهم يجب أن يقبلوا في المقابل بتعريض حججهم الدينية للتكذيب، وفق قواعد النقاش العمومي. أما إذا لم يقبلوا بذلك، فسيغدو بعدها إصرارهم على المطالبة باحترام الأديان مجرد تحايل فقهي على حقوق الإنسان.

لذلك سيكون الحل الأسلم بالنسبة إلى كافة الأديان أن تترك المجال السياسي للنقاش السياسي، وذلك على طريقة “أنتم أعلم بأمر دنياكم” (حديث صحيح). فالأسلم للقداسة أن تبتعد عن السياسة. وهذا كل ما في الأمر.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية