ماذا تعرف عن الراستفارية؟

إفريقيا

ماذا تعرف عن الراستفارية؟


20/02/2018

ما بين إفريقيا، وأمريكا الوسطى، والكاريبي، مساحة كبيرة، وبون جغرافي شاسع، لكنّ الروح واحدة، والنبض واحد، والحبّ واحد، والسّحنات واحدة، والمعاناة واحدة، ولعلّ هذه الروح، هي ما انتبه إليها الجامايكي ماركوس غارفي (1887- 1940) أحد أهم وأبرز القوميين السود في القرن العشرين، الذي أصبح فيما بعد المُروِّج الأكبر للديانة الراستفارية، المنسوبة روحِيّاً للإمبراطور الأثيوبي الأسبق "هيلي سلاسي".

الجامايكي ماركوس غارفي (1887- 1940) أحد أهم وأبرز القوميين السود في القرن العشرين

المسيح الأسود

راجت الراستفارية، في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، بين العمال والمزارعين السود الجامايكيين، إثر تأويل رجل دين مسيحي أسود، اسمه "ليونارد هويل"، لنبوءة إنجيلية تتحدث عن ظهور ما يعرف بالمسيح الأسود، في إشارة إلى هيلي سلاسي، كونه الحاكم الإفريقي الوحيد في ذلك الوقت، حينها كانت القارة كلّها تحت الاستعمار عدا أثيوبيا. 

من جهته، لم يألُ سلاسي، واسمه الحقيقي "تافري موكنن"، جُهداً، ولم يدّخر معرفة إلا وجيَّرها للترويج لنفسه، على أنّه مُخلّص إفريقيا والسود من معاناتهم. ويبدو أنّ الشاب الطموح، المولود عام 1892، في مدينة هرر ذات الأغلبية المسلمة، كان شديد التديّن على المذهب الأرثوذكسي، وعلاوة على دراسته في مدرسة فرنسية، كان ذا صلة وثيقة بالكنيسة، بالتالي، اكتسب معرفة عميقة بالأمور الروحانية والأنساب العائلية الواردة في الموسوعة الأثيوبية الضخمة، الموسومة بـ"كُبرا نيقست"، وهي جُملة باللغة الأمهرية، تعني "الملوك العظماء".

راجت الراستفارية في بداية العقد الثالث من القرن العشرين بين العمال والمزارعين السود الجامايكيين

لاحقاً، وفي العام 1916 استطاع الرجل أن يحصل على لقب "راس"، وهي كلمة تقابل (دوق، لورد، أو نبيل)، فأصبح "الراس تيفري موكنن".

لم يتوقّف طموح الراس تافري هنا؛ بل استطاع، بالتواطؤ مع الكنيسة الأرثوذكسية، أن يحصل على العرش الأثيوبي؛ حيث انتسب إلى الأسرة "السليمانية"، وهي السلالة الأثيوبية الحاكمة، التي تعتقد أنّها نسل النبي سليمان وملكة سبأ، المعروفة عربياً بـ"بلقيس"، وحبشياً بـ"مكادا أو سابا"، فاعتلى عرش أثيوبيا العام 1930، وحاز بعدها على لقب "هيلي سلاسي"؛ أي قوة الثالوث، وحصل كذلك على لقبي "أسد يهوذا"، و"ملك الملوك"، فأصبح له تأثير كبير في كافة إفريقيا، حتى على  كثير من الأوروبيين الذين يؤمنون بأنّ أثيوبيا هي أرض الرجل الصالح "برستر جون"، وهذا ما روّج له الرحالة منذ القرون الوسطى، بما في ذلك "ماركو بولو"، والمكتشفون البرتغاليون، وساعد في ذلك أنّ بلده كانت الدولة الوحيدة التي لم يستطع الاستعمار الأوروبي الاستيلاء عليها، عدا مناطق قليلة جداً منها، ولخمس سنوات فقط، بعد أن مُني الطليان بخسارة فادحة في معركة "عدوة" الشهيرة العام 1896، وخرجوا من أثيوبيا يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة.

لم يألُ سلاسي جُهداً، ولم يدّخر معرفة إلا وجيَّرها للترويج لنفسه، على أنّه مُخلّص إفريقيا والسود من معاناتهم

شاشامنّي..أرض الميعاد

في الجانب الآخر من العالم، كان الأفارقة الذين انتُزعوا من ديارهم، وبيعوا عبيداً في أمرييكا، بشقيها؛ الشمالي والجنوبي، يكافحون من أجل نيل حريتهم وكرامتهم، وبطبيعة الحال؛ برز مفكّرون ومنظّرون لتعضيد هذه الحركات النضالية؛ فكرياً وروحياً، وكان أبرزهم المفكر ماركوس غارفي، الذي دعم الديانة الجديدة الناشئة هناك؛ بل وأشار إلى أنّ "هيلي سلاسي"، هو التجسيد الروحاني لربّ هذا الدين، وأنّ أثيوبيا هي أرض الميعاد لكافة  السود المستعبدين في الأمريكيتين وغيرهما، فما كان من الرجل إلا أن التقط هذه الفكرة، ودعا السود إلى العودة إلى قارتهم الأم، واستقطع لهم أرضاً من بلده ذات الطبيعة الخلابة والرائعة، في منطقة اسمها (شاشامنِّي)، ما تزال إلى اليوم المدينة المقدسة للراستفاريين.

الراستفارية ليست ديانة روحانية فحسب بل طقسية أيضاً ومن طقوسها الشكلانية إطالة شعر الرأس وجدله

اكتسبت الديانة الراستفارية، المشتقة من اسم "الراس تيفري"، زخماً ورواجاً لا نظير لهما، أعقاب اعتناقها من قبل بوب أنيستا مارلي، مغنّي الريقي الجامايكي الأشهر في العالم، وقد أسهم بوب مارلي في نشرها عبر أغانيه الرائعة التي مجّدت الراستفارية ونبيّها هيلي سلاسي، ودعت السود للنهوض والثورة لنيل حريتهم، واستوحى بوب مارلي جلّ أغنياته من مقولات ماركوس غارفي، مثل: "من يفقد ثقته بنفسه لحظة الخسارة، تتضاعف خسارته" وغيرها، بجانب خطابات الإمبراطور هيلي سلاسي المُلهِمة، وأحوال السود المتضعضة والهشة.

 

أسهم بوب مارلي بنشر الراستفارية عبر أغانيه التي مجّدتها ونبيّها هيلي سلاسي ودعت السود للثورة لنيل حريتهم

ماريجوانا وضفائر مجدولة  

ومن جامايكا، وعبر أغنيات بوب مالي، ومقولات غارفي، على وجه الخصوص، انتشرت الديانة الراستفارية في جزر الكاريبي وأوروبا وأمريكا وأثيوبيا وحول العالم، واكتسبت الكثير من الأتباع تقدّر بعض الإحصائيات عددهم بنحو مليون شخص أو أكثر، لكن يبدو أنّ تلك الإحصائيات تفتقر إلى الدقّة، وأنّ العدد أكبر من ذلك بكثير.

لعبت موسيقى الريقي دوراً كبيراً في انتشار الديانة حيث كانت كلمات أغانيها عبارة عن مانفيستو بتعاليمها

الراستفارية، ليست ديانة روحانية فحسب؛ بل طقسية أيضاً، ومن طقوسهم الشكلانية والروحية؛ إطالة شعر الرأس وجدله، وتدخين الماريجوانا، وعلى وجه الخصوص تلك التي تُزرع في مدينتهم المقدّسة (شاشامنِّي)، كما يعتقدون أنّ أثيوبيا هي الفردوس وأرض جون برستر، وأنّ هيلي سلاسي من سلالة النبي سليمان؛ لذا غنّى له بوب مارلي (Zion train is coming)، وهي أغنية لا يُقصد بها الصّهيونية، كما يعتقد البعض؛ بل الأسرة السليمانية التي كانت تحكم أثيوبيا، كما يعتقدون أنّ سود البشرة سيحكمون العالم يوماً ما، ويشيعون فيه المحبة والسلام والعدالة.

وفي السياق ذاته، لعبت موسيقى الريقي دوراً كبيراً في انتشار الديانة الراستفارية حول العالم؛ حيث كانت كلمات أغانيها عبارة عن مانفيستو بتعاليم الدين الجديد، ويشار هنا إلى أنّ جلّ مغني الريقي، كانوا يدينون بالراستفارية ابتداءً من بوب مارلي، ومروراً بـ"ذا ويلارز، بيتر توش، فريدي جريجور، داني براون، وليس انتهاءً بالمغني الأثيوبي العالمي الراهن تيدي آفرو".

من طقوسهم الشكلانية والروحية؛ إطالة شعر الرأس وجدله، وتدخين الماريجوانا

آخر الزمان وجنّة إفريقيا

ما لا يعرفه كثيرون، هو إيمان الراستفاريين بكلّ الآلهة الأنبياء؛ بل والغناء لهم وتمجيدهم، فهم يغنّون لمحمّد رسول الله، وللمسيح عيسى بن مريم، ولموسى، وإبراهيم الخليل، وبوذا، وغيرهم، ويمكن لمنسوبي كل الأديان الالتحاق بالراستفارية، دون أن يتركوا دياناتهم الأصلية، فقط عليهم أن يؤمنوا بجانب ذلك بتعاليم الدين الجديد الذي تتلخّص عقيدته الثالوثية –بحسب معظم المصادر – في الإله/ الأب، ويطلقون عليه Jah))، أما الابن فهو المسيح الأسود (الإفريقي)، ويقصدون به هيلي سلاسي، علاوة على الروح القدس، ويتّخذون من ألوان العلم الأثيوبي "الأحمر والأخضر والذهبي" المُطعّمة بصورة لأسد يهوذا، إضافة إلى اللون الأسود رموزاً لهم، فالأحمر هو لون الدم والشهداء، والذهبي يرمز إلى الثروة الإفريقية، والأخضر للأرض والطبيعة، والأسود للأم إفريقيا، أمّا أسد يهوذا فيشير إلى الأسرة السليمانية التي يعتقدون بانتماء هيلي سلاسي إليها.

رغم اغتيال "المسيح الأسود" هيلي سلاسي العام 1975 إلا أنّ جُلّ الراستفاريين يؤمنون بعودته في آخر الزمان

ورغم اغتيال هيلي سلاسي العام 1975، بعد انقلاب عسكري نفّذه ضباط ماركسيون، إلا أنّ جُلّ الراستفاريين، يؤمنون -إلى اليوم- بأنّ الحفيد الـ(125) للنبي سُليمان وملكة سبأ، لم يمُت، وأنّه مايزال حيّاً وبصحة جيدة، فقط صعد جسده إلى السماء، وسيأتي يوماً ما في آخر الزمان، ويجعل العالم مليئاً بالسلام والمحبة والطمأنينة، حينها سيغنّي العالم كلّه لحناً واحداً، ويرقص على إيقاعات الريقي، وابتهالات الأنبياء والصالحين من كلّ الأديان، حين يتجمّعون في "شاشامندي"، جنّة الراستفارية، ولن يُعذَّب أحد؛ بل سيغفر الإله للجميع، لأنّه كريم ومسامح وغفور رحيم.

الصفحة الرئيسية