يوم المرأة في بيت الطاعة!

يوم المرأة في بيت الطاعة!


12/03/2018

شهد يوم السادس عشر من آذار (مارس)، في تاريخ مصر، العديد من الأحداث التاريخية، التي جعلته، بلا منازع، يوماً تحتفل فيه المرأة المصرية بإنجازاتها، هو اليوم الذي شهد تحرّك النساء في ثورة 1919 ضدّ المستعمر، كما شهد السادس عشر من آذار (مارس) عام 1923، تأسيس الاتحاد النسائي المصري، واليوم ذاته من عام 1956، شهد حصول المرأة المصرية على حقّ الانتخاب والترشح، بعد معارك مضنية اعتصمت فيها النساء على أرض نقابة الصحفيين، فلا عجب في اختيار هذا اليوم ليكون يوم المرأة في مصر.

في صباح السادس عشر من آذار (مارس) عام 2017 (أي قبل عام)، استيقظت على صوت القنوات الإذاعية والتليفزيونية، وهي تعلن الاحتفال بيوم المرأة، في العام الذي أطلق عليه "عام المرأة" من قبل القيادة السياسية، وغالبية المحطات الإعلامية تحتفي بعديد من النساء، ومن بينهن المهندسة نادية عبده، أول سيدة تتقلد منصب محافظ في مصر (محافظة البحيرة)، وهذا إنجاز مهمّ بكل المقاييس.

حققت المرأة المصرية إنجازات كثيرة، لكنّ قانون الأحوال الشخصية ظلّ حبيس القرون الوسطى

وسط هذا الحدث الكبير، كنت في طريقي إلى محكمة الأسرة شرق القاهرة، لأقابل سيدة تُدعى (أميرة)، بعدما تواصلت معي شاكية من رفع زوجها دعوى طاعة في حقّها، فيما بعد تحولت "أميرة" إلى مجرد رقم في إحصائية، فهي واحدة ممن رُفع ضدهن قضية طاعة زوجية، فعدد دعاوى النشوز والطاعة بلغت 67 ألفاً خلال عام 2013، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

حققت المرأة المصرية إنجازات كثيرة، لكنّ قانون الأحوال الشخصية ظلّ حبيس القرون الوسطى، وظلّت دعاوى الطاعة شبحاً في قانون الأحوال الشخصية.

تنصّ المادة 11 مكرر من قانون الأحوال الشخصية رقم 25، الصادر عام 1929، المعدَّل بالقانون رقم 100 لعام 1985، على أنّه إذا امتنعت الزوجة عن طاعة الزوج، توقف نفقة الزوجة من تاريخ الامتناع، وتعدّ ممتنعة دون حقّ، إذا لم تعد لمنزل الزوجية بعد دعوة الزوج إياها للعودة، بإعلان على يد محضر لشخصها أو من ينوب عنها، وللزوجة الاعتراض على هذا أمام المحكمة الابتدائية خلال ثلاثين يوماً، وعليها أن تكتب في صحيفة الاعتراض الأوجه الشرعية التي تستند إليها في امتناعها عن طاعته، وإذا تراءى للمحكمة أنّه لا أسباب شرعية تمنعها عن الطاعة تُقبل دعوى الطاعة، وإن لم تعد الزوجة لمنزل الزوجية تُعد ناشزاً.

القاضي المصري، أحمد أمين، قال في ص 143 من مذكّراته الصادرة عام 2011، تحت عنوان "حياتي":

"ظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها، ولا أتصورها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالشرطة؟ ومن بعد ذلك توضع في بيت الزوج بالشرطة أيضاً؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إنّني أفهم أنّ قوة الشرطة في تنفيذ الأمور المادية، كردّ قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه بالسجن، وغير ذلك من المسائل المالية والجنائية، أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالشرطة والقوة الجبرية المصاحبة لها، فهذا لم أفهمه مطلقاً إلّا إذا فهمت حبّاً بالإكراه، أو مودة بالسيف".

بدل محاولة إلغاء هذا القانون، دخل معظم المنظّرين في إشكالية هوية القانون الأصلية، غربية أم إسلامية؟  فتحولت الأنظار من الدفاع عن المظلومية إلى تبرئة تراثنا دون مراجعات أو قراءات فكرية.

أحمد أمين: ظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالشرطة؟ وتعاد إلى الزوج بالشرطة أيضاً؟

بيت الطاعة مستمد بالفعل من القانون الغربي، تحديداً من القانون الروماني، ومن بعده القانون الفرنسي، لكنّ هذه البلدان قامت بإلغاء بيت الطاعة، وعدّته من أطلال الماضي، بينما لا زلنا نحن نصارع دعاوى بيت الطاعة في مصر والبلاد العربية.

لكن هل يتم الاستناد لنصوص دينية في قانون الطاعة؟

تضاربت الأقوال بين الأفراد والمؤسسات الدينية الحكومية، فمثلاً: قال الدكتور محمد شحاتة، أستاذ الفقه المقارن بمعهد الدعوة والدراسات الإسلامية: "لا وجود لبيت الطاعة في الإسلام"، بينما أكد الدكتور مازن السرساوي، أستاذ الحديث في جامعة الأزهر: أنّ "بيت الطاعة غير موجود في الفقه".

يُمكننا أن نحاول فهم العلاقة بين بيت الطاعة والقانون المحتكم للشريعة الإسلامية، من خلال فتوى صادرة عن دار الإفتاء المصرية في 7 تموز (يوليو) 2014.

بدأت الفتوى بالاستشهاد بقوله تعالى: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا" (سورة النساء آية 34)

بدل محاولة إلغاء هذا القانون، دخل معظم المنظّرين في إشكالية هوية القانون الأصلية، غربية أم إسلامية؟

ثم شرحت الفتوى معنى النشوز، وعدّته خروج الزوجة عن الطاعة الواجبة للزوج، فتكون الزوجة ناشزاً إن امتنعت عن ترك زوجها يستمتع بها، وهنا استشهدت الفتوى بالإمام الطبري في تفسيره للنشوز، حين قال: إنّ النشوز هو: استعلاؤهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية، كما نصت الفتوى على أن نشوز المرأة حرام شرعاً، ويترتب عليه سقوط النفقة والسكن، فالناشز لا نفقة لها ولا سكن؛ لأنّ النفقة إنما تجب في مقابلة تمكين المرأة زوجها من الاستمتاع بها، بدليل أنّها لا تجب قبل تسليمها نفسها إليه، وإذا منعها النفقة كان لها منعه من التمكين.

الفتوى واضحة إذاً، وتقرّ بأنّ الزوج ينفق مقابل الاستمتاع، وإن تمنعت المرأة يسقط عنها السكن والنفقة، ومن هنا كانت فلسفة قانون بيت الطاعة، فرغم أنّ بعض الشيوخ قالوا بعدم وجود سند شرعي له، إلّا أنّ الفتوى الرسمية تقول عكس ذلك، وهنا تدخل قانون الدولة لتطبيق نص ديني، وهو تمكين الزوج من زوجته على طريقة الإنفاق مقابل الطاعة، ويتم رفض إنذار الطاعة إن لم يكن ينفق عليها.

توقفت عند كلمة التمكين، فهذه الكلمة نستخدمها في إطار منح الحقوق للنساء، ومن هنا جاء تمكين المرأة، إنما حسب الفتوى، التمكين: هو أن تمكّن المرأة زوجها منها حسب الطلب، فكانت الألفاظ والمصطلحات مشجعة على التأمل في هذه المفارقة. 

علينا أن نتوقف كذلك، عند عبارة "خروج الزوجة عن الطاعة الواجبة للزوج فتكون الزوجة ناشزاً"، هذه العبارة تحديداً متطابقة مع القانون الذي يحكم بنشوز الزوجة إن لم تمتثل للطاعة.

قانون بيت الطاعة حيّ يرزق في بلدان عربية تحت مسميات مختلفة بالعراق يسمى المطاوعة وبلبنان الإطاعة، وبالأردن ومصر الطاعة

وتتطابق الفتوى مع فتوى سابقة لـلدكتور نصر فريد واصل، مفتي مصر الأسبق، الذي قال: "يُعرِّف النشوز بأنّه: امتناع الزوجة عن طاعة زوجها وعدم القيام بحقوقه الزوجية، مثل: خروجها من بيته دون إذنه، أو امتناعها من السفر معه إلى البلد التي يقيم فيها، فهذا كله يعدّ نشوزاً؛ فكلّ امرأة أخلّت بحقوق الزوج وطاعته تُعدّ ناشزاً من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، والنشوز حرام شرعاً؛ لقول رسول الله -صلًى الله عليه وسلّم-: "أيما امرأة باتت وزوجها غاضب عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح".

وتطابقت الفتاوى الرسمية كذلك مع فلسفة القانون، وللزوجة حقّ الردّ على دعوى الطاعة، ولهذا السبب كنت برفقة (أميرة) في المحكمة في عيد المرأة، فحسب القانون؛ أميرة مطالبة بأن تبرهن أنّها لم تخالف الشريعة الإسلامية، وأنّ خروجها عن طاعة زوجها مسبب شرعاً، هنا وقعت الدولة (المفترض أنها مدنية) في إشكالية إضفاء الصبغة الشرعية على قوانين أحوال شخصية.

ويقول د. جابر عبد الهادي سالم، ود. محمد كمال الدين إمام، في كتاب "أحكام الأسرة – 2009"، ص 253- 258): إنّ النفقة تسقط في حالة ثبوت نشوز الزوجة بحكم من المحكمة، وتسقط النفقة كذلك عنها إن سافرت وحدها؛ لأنّها تفوت على الزوج حقّه الشرعي فيما يعرف باسم الاحتباس!

كما جاء فيه تعريف بمن تستحق النفقة، أي إنفاق زوجها عليها وهي على ذمّته، فلا بدّ أن تكون الزوجة صالحة لتحقيق مقصود الزواج، أي الواجبات الزوجية، وإن فقدت الرغبة في زوجها، لكنّها لم ترحل عن المنزل، فإنّ القانون يأخذ برأي بعض الأحناف في أن يكون لها نفقة؛ حيث إنّ الزوج انتفع بها في الخدمة والاستئناس.

هكذا كانت أصوات المذياع حولنا تحتفي بيوم المرأة، وتحررها من سلطة الإخوان المسلمين، بينما نقف نحن في عرين دعوى الطاعة، لنواجه قانوناً يلزم الزوجة بالطاعة، أو الحكم عليها بالنشوز شرعياً.

اختزال يوم المرأة بعدد الوزيرات في الحكومات العربية لا يجب أن يعمينا عما تكابده النساء بسبب قوانين دينية باقتدار

قانون بيت الطاعة حيّ يرزق في عدد من البلاد العربية، تحت مسميات مختلفة، في العراق يُطلق عليها دعوى المطاوعة، وفي لبنان يعرف باسم قانون الإطاعة، وفي الأردن يعرف باسم الطاعة، كما هو الحال في مصر، وتستند هذه القوانين إلى تفسيرات دينية في إقرارها والعمل بها.

قانون الطاعة والنشوز قوانين دينية باقتدار، وتقوم فلسفتها على القوامة والولاية والطاعة الواجبة، والغرض من هذا السرد هو إيضاح حتمية وجود تشريعات مدنية خالصة لقوانين الزواج والطلاق، تساوي تماماً بين طرفي العقد، قوانين لا تجعل الولاية والقوامة والطاعة مقابل الإنفاق، سنداً لقوانين أحوال شخصية مدنية في الألفية الثالثة.

اختزال يوم المرأة في عدد السيدات الوزيرات الموجودات في الحكومات العربية (وهو إنجاز بليغ)، لا يجب أن يعمينا عما تكابده النساء بسبب قوانين دينية باقتدار، فحقوق المرأة تبدأ من القواعد الجماهيرية، وليس فقط في دوائر النخب السلطوية.

الصفحة الرئيسية