الفقه السياسي يقيم القطيعة مع الفكر الإصلاحي ويعادي الدولة

الفقه السياسي يقيم القطيعة مع الفكر الإصلاحي ويعادي الدولة


18/01/2018

من مزايا الثقافة الإسلامية التقليدية أنها تجنح نحو السلم وإبداء النصيحة للطبقة السياسية، وتنبذ العنف والصدام مع السلطة حفاظاً على تماسك المجتمع وتجنبا للفتنة التي من شأنها أن تذهب بالمجتمع والدولة فتكون الحصيلة مضاعفة، أما في الوقت الحاضر فقد وقع التخلي عن المنهج الإصلاحي ليعوضه فقه سياسي يتسم بالتصادم والتحريض، الأمر الذي زج بالمجتمعات في أزمات مزمنة ويصعب حلها.

يواجه الباحث في الفكر السياسي الإسلامي الحديث أسئلة قلقة عندما يتابع تطور مشروع الإصلاح في العالم العربي منذ مطلع القرن الماضي، إذ يلحظ حالة من الانقطاع عن فكرة الإصلاح كما نشأت في الثقافة الإسلامية التقليدية وإلى حين سقوط الإمبراطورية العثمانية، أي إلى فترة الدخول في العصر الحديث ونشأة الدولة الوطنية.

ويمكننا نعت ما حصل بـ”القطيعة الكبرى” داخل الفقه السياسي الإسلامي، ونشأة فقه سياسي جديد يعتمد الصراع والمغالبة مبدأ أساسيا في الإصلاح ويرتكز على فكرة الصدام مع الدولة منطلقا للتغيير ويستبدل فكرة الإصلاح بفكرة الحكم والسلطة.

لا مندوحة عن القول إن هذه القطيعة قد حصلت لسببين رئيسيين: السبب الأول هو الأثر الذي خلفته الثورات الأوروبية على الوعي العربي خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن التالي له. فالمعروف أن تلك الثورات قامت على أساس هدم النظام القائم وبناء نظام جديد والقبض على مقاليد الحكم باعتباره المدخل الطبيعي لتنزيل مشروع التغيير والإصلاح.

وقد حصل كل ذلك بفعل التحولات الأيديولوجية التي تمخضت عنها الثورات في أوروبا، تحولات دارت كلها حول فكرة كبرى مفادها أن الدولة خصم رئيسي، وتلك فكرة كرستها الثورة الفرنسية التي ضخمت من الدولة إلى درجة القداسة. والسبب الثاني هو ميلاد تيار الإخوان المسلمين في العشرينات من القرن الماضي. بنى الإخوان مشروعهم على أساس الدين من الناحية الأيديولوجية، ولكنهم من الناحية التنظيمية والسياسية تشربوا ثقافة الصدام مع الدولة التي اقتبسوها من الثورات الأوروبية، فانتقلت إليهم نزعة القبض على الحكم والحصول على السلطة بأي ثمن، حتى باستعمال العنف المسلح؛ ولذلك لم يكن الدين سوى مجرد الغلاف الخارجي للتنظيم، بينما العمق كان أشبه ما يكون بأي تنظيم ماركسي ـ لينيني يسعى إلى السلطة والقصاص من الحاكم.

استند الفقه الإسلامي في منظوره للتغيير والإصلاح على ثوابت مهمة طوال تاريخه، من هذه الثوابت الحفاظ على وحدة الأمة وبذل النصيحة للحاكم لا مناكفته.

ويمتلئ التاريخ الإسلامي بقائمة من الفقهاء والعلماء الذين ألحوا على الاتحاد، ومن هنا نشأ مفهومان رئيسيان في الفقه السياسي هما الفتنة والخروج.

وقد أجمع العلماء على أن الفتنة في المجتمع خط أحمر لا يجب الاقتراب منه، وعلى أن أي مناكفة للسلطان تعد خروجا على الإجماع وانحرافا عن خط الأمة.

استوعب رواد الإصلاح الأوائل في العالم العربي، خلال بدايات القرن الماضي، هذه الثقافة الفقهية التقليدية التي لم تنخرم طوال قرون وظلت محل إجماع لدى الفقهاء الذين تعاقبوا قرنا بعد آخر.

صحيح أن هؤلاء الفقهاء قد قاموا بالتأصيل لحالات الاستثناء أو حالات الضرورة، ولكنهم وضعوا لتلك الحالات شروطا تُضيق من فرص اللجوء إليها اتقاء للفتنة وحفاظا على اتحاد الكلمة، بيد أنهم ظلوا يرون أن القاعدة هي أن الصدام مع الحاكم سقف أعلى لا يجب الاقتراب منه، ويعتبرون الخروج على الدولة شكلا من أشكال الحرابة التي يجب أن تقاوم.

هكذا رأينا على سبيل المثال أن إماما كأحمد بن حنبل يلتزم القاعدة الفقهية بالرغم من المحنة التي مر بها في عهد المأمون، تلك المعروفة بمحنة خلق القرآن، ورأينا نماذج من العلماء كالحسن البصري الذي نأى بنفسه عن المشاركة في الفتنة زمن الحسن، بالرغم من أنه كان شديد النقد للسلطة، لكن القاعدة الفقهية المشار إليها كانت سلطة مرجعية يتعين الوقوف عندها.

كان المصلحون الأولون يرون أن عملية الإصلاح هي عملية تتم بالتناغم بين المجتمع والدولة، وأن وظيفة العالم أو الفقيه ليست التطلع إلى الحكم بل النصيحة لمن بيده الحكم.

إن مؤلفي الأحكام السلطانية لم يكونوا من أنصار الاستبداد أو الجور، كما يتم تصويرهم أحيانا، ولكن كانوا فقهاء أدركوا من تجارب الأمم وخبرات الوقت أن الخروج على الدولة لا يؤدي إلا إلى فتنة أشد، وفوق ذلك كانوا يدركون تلك القاعدة الفقهية التي تعلي من قيمة الاتحاد ومن أهمية التناصح بين الحاكم والعلماء.

ولعل محمد عبده ومحمد رشيد رضا من النماذج التي قدمت المثال في حكمة تنزيل هذه القاعدة. فقد انتقد عبده جمال الدين الأفغاني الذي كان يسعى إلى تغيير مجرى الأمور السياسية في أعلى هرم السلطة، وعندما فشل في مشروعه كتب عبده يقول “لو أنه تقرب من السلطان بمقدار يمكنه من حمله على إصلاح التربية والتعليم لكان حسنا، لكنه تدخل في شؤون حاشيته فأخفق مسعاه”.

غير أن مرحلة ما بعد رواد الإصلاح شهدت بداية القطيعة مع الفقه السياسي الذي كان يضمن الحد الأدنى من الإصلاح مع الحد الأقصى من الوحدة الاجتماعية والسياسية، أي إصلاح ما يمكن إصلاحة وقدر المستطاع بهدوء وروية مع العمل أكثر ما يمكن على الحفاظ على النسيج المجتمعي.

ويمثل ظهور التيار الإسلامي عنوان هذه القطيعة الكبرى، فهو عوض أن يطور تلك القاعدة صار رمزا للفتنة في المجتمعات العربية المعاصرة، إذ جعل سقف الإصلاح لديه الإمساك بالحكم والصدام مع الدولة، واستبدل النصيحة بالخروج وأدخل المجتمعات العربية في أزمات متتالية لم تجد مخرجا منها.

إدريس الكنبوري-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية