هل الإنسان عنيف وشرير بصورة مطلقة؟

هل الإنسان عنيف وشرير بصورة مطلقة؟


27/10/2020

يتشكّل العنف، أولاً، كصورة ذهنية على هيئة أفكار يحتكم إليها الواقع بنسب متفاوتة؛ إذ يتقاتل البشر، بداية، على مستوى تصوّراتهم وأذهانهم، وتكون اللغة طريقها إلى الواقع؛ بل إنّ بعض التصورات تصنع لغتها الخاصة بها، وتنحت مفرداتها، وتحكم هذه الصور أفكار ومعتقدات وأساطير عميقة، هي التي تحدد طبيعة العلاقة بالآخر البشري، وغير البشري، والعلاقة بالعالم، فتفكيك سرديات العنف التي تخلق بشاعات مستمرّة تفتك بالوجود البشري، يقتضي تفكيك التصورات التي تحكمها، وهذا يوجب إيجاد منهج منفتح، قوامه النقد، باعتباره روح العصر المصاحبة والمؤانسة للمعرفة، الأمر الذي يوجب علينا مقاربة مسألة العنف من عدة وجوه، أهمها: العلوم الإنسانية والتأويلات الدينية، بالوقوف على أهم الملاحظات التي كُتبت حول مسألة العنف من قبل عدد من رموز النظر الفلسفي والحكمي، بغية الوصول إلى جذور العنف، وفهم حركته ومنطلقاته. بالتالي، رصدها ومحاربتها للوصول إلى آفاق التسامح المنشود، وتقبّل الاختلاف الذي نفتقده، في العالم الإسلامي والعربي خاصة، الذي يشهد عنفاً ضارباً يتغلّف بغلاف المقدَّس، ويؤذن بخراب معالم المدنية فيه، ويضع الأشواك أمام نهضة بلدانه الثقافية، والمعرفية، والاقتصادية.

العنف من وجهة نظر العلوم الإنسانية

إنّ نزوع الإنسان إلى ارتكاب الشرّ متجذّر، وقديم قدم الإنسان نفسه، بالنسبة إلى المقاربات الفلسفية، فنجد أنّ كانط (1724- 1804) يعدّ النزوع إلى الشرّ أمراً كامناً في البشر؛ إذ هو من باب "النومين"؛ أي وجود الشيء في ذاته، وليس مسألة عرضية على الإنسان والحياة الإنسانية، فيتفق مع توماس هوبز (1588-1679)؛ الذي يعتبر، هو الآخر، أنّ الإنسان شريراً بطبعه، كما سنوضح لاحقاً، لكنّ هذا الشرّ لا يحلّ محلّ الخير، لوجودهما معاً، وهنا يرد سؤالٌ ملحٌّ، هو: هل الإنسان شرير بصورة مطلقة تجعله يقف عاجزاً أمام نزوعه إلى الشرّ؟

السلوك الإنساني الخيّر لا يحتاج إلى طقوس ومزامير، إنّما الذي يربط الإنسان بالله، هو العامل الأخلاقي فقط

يربط كانط النزوع إلى الشرّ، رغم تجذّره، بالحرية البشرية، الأمر الذي يجعله تحت الإرادة والوعي البشريين، وهما أيضاً اللذان يجعلاننا نعي فكرة وجود الشرّ والخير، ويجعلان الأخير ممكناً أيضاً، بوعينا بإمكانية الولوج إليه، كبذرة نمتلك الاستعداد لتنميتها ورعايتها، وبحسب كانط؛ يتم ذلك عبر مصارعة علّة الشرّ، وبذرة وجوده التي توجد فينا، ونزوعنا المستمرّ إليه، وبالاستعانة على ذلك، أخلاقياً وقيمياً.

لا يرفض كانط ما هو ديني، إذا كان يساهم في ترسيخ أخلاق الخير، لكن في النهاية، بالنّسبة إلى كانط، الأمر بيد الإنسان، إذا أراد الخروج من معضلة نزوعه إلى الشرّ، بالوقوف على أسبابه، التي تتلخص في الخلط بين الدوافع الأخلاقية واللاأخلاقية، ونسيان القانون الأخلاقي عند الشروع في ارتكاب الشرّ.

إنّ الدين في مقارعة الشرّ، عند كانط، يتلخص في بعده الأخلاقي، أكثر من بعده الطقوسي؛ إذ إنّ السلوك الإنساني الخيّر لا يحتاج إلى طقوس ومزامير، إنّما الذي يربط الإنسان بالله، هو العامل الأخلاقي فقط، وتجنيب البشرية جميع أنواع الشرور والحروب والمآسي، فهو يفرّق بين دينٍ متسلّطٍ ذي شروطٍ مغلقةٍ، ودينٍ منفتحٍ بصورة عقلانيةٍ على الأفق الإنساني، وهنا نلاحظ حرص "كانط" الشديد على ربط متنه بالمنزع الأخلاقي في معالجة استعداد الإنسان لارتكاب الشرور، ومنطلقه تصوراته التي تنطلق من الإنسان نفسه، وقدرته على الخروج من القصور الذي تسبَّبت به نفسه، كما في جوابه على سؤال الأنوار، فعدم بلوغ الخير واستمرارية الشرّ مشكلة تخصّ الإنسان نفسه.

تحتاج الدولة نفسها للوازع الذي يمنعها من ممارسة العنف، ويوقعها في الاستبداد

إنّ الأخلاق عند كانط تعمل عمل الوازع الذي يصدّ البشري عن ارتكاب الشرّ، ويلتقي في ذلك مع ابن خلدون؛ الذي يرى أنّ الشرّ والعنف من لوازم الطبيعة البشرية، التي تحفّزها العصبية لمناصرة ذوي الأرحام لبعضهم، فالعنف الذي يكون نتيجة لذلك، يحتاج إلى وازعٍ يقي الإنسان من الوقوع فيه.

أمّا بالنسبة إلى توماس هوبز؛ فكما سبق وأشرنا، هو أيضاً ينطلق من فكرة أنّ الإنسان يلجأ الى العنف والشرّ بطبعه، عندما يحاول كل إنسان فرض وجوده وسيادته على الطبيعة، وعلى غيره من البشر، باللجوء إلى العنف والخديعة، ويربط هوبز ذلك ببحث الإنسان عن الأمن والاستقرار، ويلخّص أسباب اللجوء إليه في ثلاثة أمور: المنافسة والعداوة، والحذر والخوف، والكبرياء.

ويقول "فأوّل هذه الأشياء يضمن للناس المهاجمة من أجل منفعتهم، وثانياً من أجل أمنهم، وثالثاً من أجل سمعتهم، فهم يستخدمون العنف، في الحالة الأولى، ليكونو أسياداً على أشخاص آخرين، كالأبناء والزوجات. وفي الثانية؛ لحمايتهم. وفي الثالثة؛ لأجل ترّهات؛ إذ يحصل العنف، مثلاً، بفعل كلمة أو ابتسامة"، وهذا يشير إلى أصالة العنف في الحياة الإنسانية، ولمعالجة هذا التأصل، يحيل هوبز هذه الأسباب إلى سلطة حاكمة، تمارسها للحفاظ على أمن الناس واستقرارهم ومعاشهم، وهنا يعالج هوبز الأمر بجعل القوة في مركزٍ واحدٍ، يعمل وسيطاً بين المتناحرين، لديه الحقّ في ممارسة العنف الشرعي.

وبالعودة إلى ابن خلدون؛ نجد أنّه يمكن لهذه الحالة أن تقود إلى العنف السياسي والاستبداد المؤسس، بالتالي، تحتاج الدولة نفسها للوازع الذي يمنعها من ممارسة العنف، ويوقعها في الاستبداد، ويتمثّل ذلك، اليوم، في وجود مؤسسات قوية، فاعلة ومستقلة، تنشد العدل بين الناس.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية