23 عاماً للباحث الإيراني علي الدشتي: تفكيك رحلة النبوة وأنسنتها

23 عاماً للباحث الإيراني علي الدشتي: تفكيك رحلة النبوة وأنسنتها


22/02/2018

عبر رحلة النبوة المحمّدية، التي امتدت 23 عاماً، كتب الباحثون والمفكّرون، وكان لديهم كل ما قال أو فعل النبي محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ورسموا له صورة ذهنية خياليّة، بعيدة عن أنسنة الدعوة، وتفكيك الظرف الموضوعي المصاحب لحالة مغايرة لمجتمع شبه الجزيرة العربية، وقليلة هي الكتابات التي استطاعت التطرّق الموضوعي لتلك المرحلة، من بين تلك القلّة، كان كتاب "23 عاماً" للباحث الإيراني علي الدشتي، الذي طرحَ تحليلاً موضوعياً، لتلك الدعوة، ورصد مشكلات ابتعد عن الغوص فيها، كثير من الباحثين، حفاظاً على تلك الصورة الأسطورية المُتخيَّلة للدعوة النبوية.

أساطير وحكايات منسوجة من عقل البشر

اعتاد الناس في كلّ المجتمعات الإنسانية، إحاطة الأموات بهالة من القداسة، ونسج الخيالات حول كلّ تفاصيل حياتهم، حتّى لو لم تكن تستند لأيّ منطق بشري، وتتنافى مع العقول السليمة، وهو ما حدث مع النبي محمد، حين نسجت الأحاديث المبالغ فيها حول ولادته، وقبل بعثته، مثل الرواية التي فسرّها الإمام الطبري: أنّه في العام الذي ولد فيه النبي، سرت إشاعة في مكة، عن ولادة طفل يُدعى محمّد، وأنّه نبي مرسل بعد عيسى، فوضعت 40 امرأة من مكة ذكوراً، وسمّوهم جميعاً محمد، بالطبع كثرت مثل تلك الأهازيج، حول ولادة النبي، التي لم تكن تشوبها أيّة خوارق، لقد ولد مثل كلّ الأطفال، ولم تأته النبوة، سوى في مرحلة متأخرة من حياته، وكما استفاض المفكّرون الأوروبيون في أبحاثهم حول محمد كشخصية تاريخية، هناك من أقرّ بنبوته، وطرحَ الأمر بشكل موضوعّي، مثل(ثيودور نولدكه، آدم ميتز، وريجيس بلاشير)، إلّا أنّنا نجد، إنكاراً لمفكّرين عرب مثل أبو بكر الرازي، الذي أنكر مسألة النبوّة من الأساس، فقد وجد أنّ الحجج اللاهوتية، التي تقدّم دفاعاً عن ضرورة النبوة، بوجه عام، هي حجج بعيدة عن المنطق.

ربّما تبدو الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة حدثاً عاطفياً، لمجموعة من الهاربين من العنف الواقع عليهم

يطرح علي الدشتي تساؤلاً مهمّاً حول أمر النبوة، هو: "لماذا لا يزال تاريخ الجنس البشري، منذ أن تبنّى الدين، مُلطخاً بالعنف والجريمة والوحشية على هذا النحو؟ وإننّا لمضطرون؛ في هذه الحالة أن نستنتج أنّ إرسال الله الأنبياء إلى البشر لم يُفلح في جعل البشر جميعاً أخياراً وسعداء".

من خلال هذا التساؤل الموضوعي، ينبثق للعقل أفق جديد للبحث في غير ما حصر فيه الباحثون والكتّاب والمؤرّخون العرب والمسلمين كتاباتهم.

الظروف الموضوعية وتمهيد الرسالة

لم تكن دعوة النبي محمد -عليه السلام- غريبة على سكان مكة؛ فبينما كان الأعراب من القبائل المجاورة يشعلون حروباً قد تستمر لأعوام، لأجل الغنائم، فهم وثنيّون يعبدون الأصنام، أو لا يهتمون لأمر الدين مطلقاً، تميّز أهل مكة ببعض المرونة، وذلك نتيجة لاختلاطهم باليهود والنصارى، الذين أخذوا عنهم كثيراً من العادات، مثل: ختان الإناث، ونجاسة الحائض، وغسل الجنابة، وغيرها من العادات التي أقرّها الإسلام لاحقاً، وكانوا يستخدمون كلمة الله، وذلك كما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:"ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله"، لكنّ طبيعة المجتمع في مكة اختلفت عمّا عداها من دول الجوار، فهم بدو سكان الصحراء، يفتقرون للزراعة، وهي أساس الحضارات الإنسانية، العنف والجريمة والغزو، كانت طبيعة ملاصقةً لهم، ولا يجدون حرجاً من التفاخر بمثل تلك الصفات، وتلك الطبيعة القاسية، جعلت من التجارة مصدراً لحياتهم، فالأصنام حول الكعبة كانت مركز اقتصادياتهم؛ حيث تأتي القوافل التجارية لأجل الحج، وهو ما يقتات عليه القرشيّون، فكيف لهم أن يقبلوا رجلاً بدعوة جديدة، ستقطع سبيل أرزاقهم؟!

علي دشتي: "لماذا لا يزال تاريخ الجنس البشري، منذ أن تبنّى الدين، مُلطخاً بالعنف والجريمة والوحشية؟

لم يجد القرشيون سبيلاً، بعد كلّ الإيذاء الذي تعرّض له النبي في دعوته، عبر 13 عاماً من الدّعوة السرية، لم يجد سوى 100 شخص فقط، من آمنوا به، إلّا أن يطلبوا منه أن يأتيهم بالمعجزات، وفي شأن المعجزات أمر يلتبس حتّى على المسلمين أنفسهم، وهو ما ذكره علي الدشتي: "لقد نشأ كثيرٌ من الإيرانيين على الأساطير، حتى غدوا مهيّئين لأن يصدّقوا أنّه بمقدور أيّ إمام زاده (أي ابن أحد الأئمة، أو من ذريته)، مهما يكن نسبه من محل شكّ، أن يجترح المعجزات في كلّ لحظة، ولو أنّهم قرأوا القرآن لأدهشهم ألّا يجدوا فيه أثراً لأيّ معجزة على الإطلاق، ولعلموا أيضاً من خلال عشرين موضعاً في القرآن وأكثر، أنّ محمداً حين كان المُنكرون يسألونه معجزة، كان إمّا يقف صامتاً، أو يقول إنّه لن يقوم بذلك، لأنه ليس سوى بشرٍ، لا عمل له سوى أن ينقل، وأن يكون مبشّراً ونذيراً".

التحوّل الجذري وتغيّر صيرورة التاريخ

ربّما تبدو الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة حدثاً عاطفياً، لمجموعة من الهاربين من العنف الواقع عليهم، أو بالأحرى مجموعة من المنفيين واللاجئين، بينما تكمن جوانب أخرى في الهجرة، صنعت انقلاباً تاريخياً غير متوقَّع، فبعد أن هرب النبي وأصحابه من إيذاء قومهم، وخلال 10 أعوام من التواجد في المدينة (يثرب)، استطاع محمّد وأتباعه، إخضاع قومهم، ودخول مكة، مرّة أخرى، حاكمين، مُخضعين لمن آذوهم، وبعيداً عن العاطفة الدينية، وهالة القدسية حول النبي محمد، فإن التحوّل الذي جرى في شخصيته كان كبيراً، وهو ما رآه الكاتب حين قال:"كان محمّد تقياً وبعيداً عن رذائل عصره، لقد صوّر الآخرة ويوم الحساب على أنّهما قريبان على وشك الحلول، ولأنّ فكره كان مثبتاً على الآخرة، فقد ناشد قومه أن يعبدوا إله الكون، وأدان الظلم والعنف، والانغماس في متاع الحياة، ومثل عيسى، كان مفعماً بالعطف والشفقة، أما بعد انتقاله إلى المدينة، فقد غدا محارباً، لا يلين عازماً على نشر ديانته بحدّ السيف، ومؤسّس دولة مولعاً بتدبير المكائد، هكذا تحوّل المسيح إلى داوود، وغدا الرجل الذي عاش مع زوجة واحدة ما يزيد عن عشرين عاماً، رجلاً مُغرماً بالنساء، ذلك الغرام الجامح غير المكبوح".

الهجرة مرحلة تاريخية فاصلة

كانت الهجرة مرحلة تاريخية فاصلة في تاريخ هؤلاء القوم، الذين لم يشاركوا في أيّة حضارة إنسانية، أن يُصبحوا في غضون أعوام قليلة، سادة وحاكمين، وفاتحين لبلدان مجاورة، خطوة غيّرت وجه التاريخ، أسقطت ممالك، وأخضعت أقوام، غير أنّ كلّ هذا لم يكن ليتم سوى بخطة اقتصادية تُمكّن المسلمين من بناء دعوتهم، فكان لا بُدّ من إيجاد مورد اقتصادي، يستطيع المسلمون من خلاله أن يصلوا هرم السلطة، ويستطيع النبي ريادة قومه، ونشر دعوته، ومن هنا جاءت الغزوات، وحُلِّلت الغنائم، التي استطاع من خلالها المسلمون، أن يتوسّعوا في دعوتهم، فما عرف بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي فعلها النبي بعد الهجرة، لم تكن كافية لتوفير فائض اقتصادي؛ بل كان من الممكن أن تصنع أزمة مالية، فكانت الغزوات خير مُعين على بناء هيكل اقتصادي، أكثر توسّعاً، يستطيع المسلمون من خلاله ترسيخ دعوتهم وتقوية شوكتهم.

هكذا يرى الكاتب في رحلة تفكيكية للدعوة النبوية، عن طريق إرجائها للظروف الاقتصادية، والاجتماعية المحيطة، وإنزال الدعوة من محراب القدسية، والأساطير المنسوجة حولها وحول متبعيها الأوائل، إلى أنسنة الحالة، وتحليلها في سياق تاريخي، وسيسيولوجي، وإزاحة العاطفة التاريخية، التي ينسجها المؤرّخون، لتلقى قبولاً لدى العقل الإنسان التوّاق للأسطورة.

 

الصفحة الرئيسية