"إخوان" الإمارات حين رفضوا التخلي عن بيعة المرشد (3)

"إخوان" الإمارات حين رفضوا التخلي عن بيعة المرشد (3)


29/11/2017

لم تقتصر مخاطر الفهم الذي تتبناه جماعة "الإخوان" المرتكز إلى "وعي الهوية" على ما ذكرناه في الحلقتين الأولى والثانية من هذه المقاربة، بل وقفت جماعة "الإخوان" في الإمارات ضد سياسة الدولة في انفتاحها في سياسات العمل والتوظيف على عشرات الجنسيات المختلفة من أنحاء المنطقة والعالم، ممن شكّلوا فيما بعد طابعاً كوزموبولتياً للمجتمع الإماراتي، وبخاصة في إمارتي دبي وأبوظبي. وفي حين كانت دولة الإمارات تنحو خطوات لترسيخ نموذجها العربي في التسامح الديني والثقافي بين أصحاب الأديان والثقافات المختلفة من العاملين على أرضها، كانت مجلة "الإصلاح" الإخوانية تحذّر، مثالاً لا حصراً، من "الخطط الاستعمارية لطائفة السيخ في الإمارات" (عدد 24)، داعيةً في العدد نفسه لأنْ "يكون الإسلام شرطاً لدخول العمالة العربية وغير العربية إلى الإمارات".

اعترض الإخوان على طائفة السيخ ودعوا أنْ "يكون الإسلام شرطاً لدخول العمالة العربية وغير العربية إلى الإمارات"

ولعل أحد الاختلالات الأساسية في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، التي رسّخها فكر "الإخوان المسلمين" وجماعات الإسلام السياسي (وأطياف من الفكر القومي أيضاً ولكن من أرضية أخرى) "وعي الهوية" هذا، والذي يتكىء على التمايز والمفاصلة والنقاء والتفوق وعدم الحاجة إلى الآخرين، "لأنّ ما في تراثنا وحضارتنا يكفينا"! الأمر الذي يعني افتقار هذا الوعي لصفة التواصلية، وهي خصلة أساسية لأي تحضّر ونهضة وتنمية، بالإضافة إلى أن "وعي الهوية"، وبالشكل الذي تبنته جماعة "الإخوان المسلمين" في عموم المنطقة، لا يفطن للطبيعة السيّالة للهوية، وتعددية الروافد التي تعيد تشكيلها وإنتاجها باستمرار، في جدلية دؤوبة وبنّاءة بين الأنا والآخر، وصولاً إلى تبني هوية منفتحة عَفيّة تقوم على الإعلاء من أهمية المشترك الإنساني وترسيخ القيم الكلية، من حريةٍ وعدالةٍ وخيرٍ ورحمة وسلام، وهي القيم المبثوثة في عموم الأصل الإنساني، وهذا وعيٌ يثق بالإنسان، ويُقدّم جانب الخيريّة فيه ولا يحتكرها، وذلك على النقيض من "وعي الهوية" القائم على الطُهورية والتمركز حول الذات والشك بالآخر، وهو شكٌّ، في حالة جماعة "الإخوان" التي نحن بصدد مقاربة أفكارها وسياساتها ومواقفها، يبرر لمن يحمل الفكر الإخواني أنْ يَمْحضَ ثقته لجماعته الحزبية أولاً ثم بدرجة أقل (ثانية وثالثة...) لباقي المسلمين ثمّ لسواهم.

وقد كانت هذه البنية الفكرية منبعاً أساسياً لنزعات التطرف والعنف؛ حيث إنها تؤسس لوعي يجعل المسلم في صراعٍ دائم مع الواقع والعصر، ويجعله يتبنى رؤية سالبة ومتشائمة تجاه العالم تتسم، كما يقول رضوان السيد، بالقطعية والقطيعة والطهورية؛ ذلك أنها رؤية تغفل عن أنّ "الوعي لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حواريةٍ داخلية بين نصوصه ومقدساته ورموزه وتاريخه، بل يتسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي المزوَّد بتلك العناصر، أي بالثقافة، وتكون المفارقة عندما يتجه الآخر للتحقق بدونك فلا تكون"، (بسبب عائق وعي الهوية غير التواصلي حين تحمله).

ظلت الإمارات حتى بداية التسعينيات تتحفظ عن اتخاذ إجراءات شديدة بحق "الإخوان"، إلى أن وصل الأمر ذروته

ولقد ظلت مؤسسات الدولة في الإمارات حتى بداية التسعينيات تتحفظ عن اتخاذ إجراءات شديدة بحق "الإخوان"، إلى أن وصل الأمر ذروته وأصبح لا يطاق حين رفضت الجماعة التخلي عن مسألة البيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، وبعدما جاءت زيارة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك إلى الإمارات في العام 1994، وتضمنت شكوى ضد الإمارات، تتعلق بكشف تحقيقات أجهزة الأمن المصرية حينذاك عن أن أفراداً متورطين بعمليات إرهابية نفذتها جماعة "الجهاد" في مصر قد تلقوا تبرعات من قبل لجنة الإغاثة والأنشطة الخارجية لـ"جمعية الإصلاح" الإماراتية، كما ذكر الباحث السعودي منصور النقيدان في بحث له حول "الإخوان في الإمارات".  وقد أمر حينها الشيخ زايد بن سلطان بتشكيل لجنة أمنية بُغية التحقيق في صحة الاتهامات المصرية، وبعد ستة أشهر صدر تقرير عن اللجنة الإماراتية يؤكد صحة الاتهامات، فصدر قرار من رئاسة دولة الإمارات بحلّ إدارة "جمعية الإصلاح".

كان ذلك جرس إنذارٍ قوي حول تبني "الإخوان" للعنف في الوصول إلى غاياتهم، وحول الأجندة الدولية لجماعة "الإخوان" ومشروعها ما فوق الوطني [الدولة الإسلامية وأستاذية العالم]. وفي هذا السياق المحلي والإقليمي بدأت تتبلور في السياسة الرسمية لدولة الإمارات حساسية قوية ضد الراديكاليات والتحزّب والتطرف التي يمثلها الإسلام السياسي، والنظر إلى ذلك كمِعوَلٍ يطعن صورة الإسلام بوصفه دينَ محبةٍ وسلامٍ ورحمة، وكذلك النظر إلى ذاك التحزّب المتطرف كخطر يهدد النظام العام ويختطف التنمية والتمدن والاستقرار.. وللحديث بقية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية