كيف حرم "احتكار البث" الفقراء من مشاهدة الساحرة المستديرة؟

كرة القدم

كيف حرم "احتكار البث" الفقراء من مشاهدة الساحرة المستديرة؟


19/06/2018

يتنقّل محبو رياضة كرة القدم اليوم بين المقاهي بحثاً عن المكان المناسب لمتابعة وتشجيع منتخبات بلادهم وفرقهم المفضلة، بينما لا يزال كثيرون  يذكرون كيف كانت أمور متابعة المباريات أيسر قبل نحو عقدين من الزمان، حين كان كُلّ ما يتطلبه الأمر هو توفر جهاز "الانتينا" لاستقبال قنوات البث الأرضي، التي كانت تبث المباريات عليها بالمجان. ولكن لماذا اختلف الحال اليوم؟
من الملعب إلى التلفاز
يعود ظهور رياضة كرة القدم بشكلها الحديث إلى القرن التاسع عشر، وقد تطورت وأخذت بالانتشار سريعاً خلال النصف الأول من القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت ارتبطت المباراة على أرض الملعب بوجود جمهور كبير في المدرجات المحيطة. وخلال الثلاثينيات بدأت إذاعة المباريات عبر إذاعات الراديو، وهو ما انتشر على نحو أوسع خلال الأربعينيات، ما أكسب رياضة كرة القدم إمكانية أكبر للانتشار بين أوساط أوسع، وخصوصاً مع إتاحة إمكانية المتابعة لمن لا يستطيعون الوصول إلى الملاعب، خاصة عندما تكون المباراة في مدن وبلاد بعيدة.

اقرأ أيضاً: مونديال روسيا 2018: سعادة وسياسة وجنون
ومع دخول عقد الخمسينيات وبداية ظهور وانتشار أجهزة التلفاز، وفي بطولة كأس العالم المقامة في سويسرا عام 1954، حدث لأول مرة أن تم نقل مباريات المونديال عبر التلفاز في عدد من الدول الأوروبية، وكان ذلك يتم باستخدام أشرطة الفيديو المسجلة، وهو ما استمر وأخذ ينتشر بشكل أكبر خلال بطولة عام 1958.

كان كأس العالم عام 1954 أول بطولة يتم تصوير مبارياتها وإذاعتها مسجلة

بيع حقوق البث
وفي ذلك الوقت، وفي عام 1960، حدث لأول مرة أن تم بيع حقوق بث مباراة، وكان ذلك في نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا، بين ريال مدريد الإسباني وأوتريخت الهولندي، حين تم دفع مبلغ 8 آلاف جنيه إسترليني مقابل بثها على شاشات التليفزيون.
وهنا، بدأ الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بتطبيق فكرة بيع حقوق البث التلفزيوني على بطولات كأس العالم؛ حيث وجد فيها مصدراً جيداً للدخل والعوائد المالية على الاتحاد، فبدأ ببيع حقوق بث البطولة العالمية منذ مونديال تشيلي عام 1962، فكانت الفيفا تبيع حقوق البث للتلفزيونات المختلفة. ومع انتشار أجهزة التلفاز وحصول الإذاعات على حقوق البث أخذت شعبية كرة القدم بالازدياد وأخذت أسعار الحقوق هي أيضاً بالارتفاع.

ظهرت تقنيات البث الفضائي المباشر لأول مرة في مونديال المكسيك عام 1970

البث المباشر
ولكن التحوّل الأهم حدث في عام 1970 في مونديال المكسيك ففي تلك البطولة تمّ لأول مرة بث المباريات بشكل مباشر عبر الأقمار الصناعية، كما كانت تقنيات التصوير والعرض الملوّن قد بدأت بالانتشار، وترافق ذلك مع انتشار جهاز التلفاز في مناطق واسعة ودخوله البيوت عند مختلف الشرائح خلال السبعينيات، وقد ساهم كلّ ذلك في رفع تكاليف البث على الإذاعات.

ظهرت تقنيات البث الفضائي المباشر لأول مرة في مونديال المكسيك عام 1970

انتشار واسع في العالم العربي
كان قد ظهر في ذلك الوقت اتحاد الإذاعات العربية والذي تم تأسيسه وإطلاقه في قمة الخرطوم عام 1969، وقد أخذ الاتحاد على عاتقه منذ الانطلاق شراء حقوق بث مختلف البطولات الرياضية العالمية، ومن ثم توزيعها على المحطات الأرضية العربية، لتقوم بعرضها مجاناً، وفي مقدمتها بطولة كأس العالم، ذلك الحدث النادر، الذي لا يتكرر إلا مرّة كل أربعة أعوام، وقد أكسب ذلك انتشاراً عربياً واسعاً خلال عقدَيْ السبعينيات والثمانينيات، فوصلت إلى مختلف الشرائح والطبقات، وتحولت متابعة المباريات إلى طقس تجتمع فيه العائلات والأصدقاء، في البيوت وحول الشاشات، لتشجيع فرقهم المفضلة.

أخذ اتحاد إذاعات الدول العربية على عاتقه شراء حقوق بث مختلف البطولات الرياضية العالمية

قنوات متخصصة وتشفير
في تلك الأثناء كانت قد بدأت تظهر في أوروبا القنوات الرياضية المتخصصة خلال السبعينيات، وبدأت تشتري حقوق البث على مستوى الدوريات المحلية، كما بدأ عدد منها يتجه نحو "التشفير"؛ حيث تحجب القناة شارتها ولا يكون بالإمكان التقاطها ومشاهدتها إلا عبر شراء بطاقة (كرت) خاصّة. ترافق ذلك مع ازدياد شعبية اللعبة، وازدياد اهتمام رجال الأعمال والمستثمرين فيها خلال الثمانينيات والتسعينيات.

اقرأ أيضاً: أردوغان وكرة القدم.. كيف يستغل المستبدون الرياضة؟
وعلى الصعيد العربي، بدأت تظهر في مطلع التسعينيات القنوات الفضائية، ذات القدرة على البث في نطاقات إقليمية واسعة، خلافاً للأرضية المقتصرة على النطاق المحلي. وفي عام 1993 انطلقت من روما شبكة راديو وتلفزيون العرب الفضائية (ART)، والتي أطلقت ضمن باقتها قنوات رياضية متخصصة، بدأت بنقل وشراء حقوق بث عدد من البطولات العالمية، كدوري أبطال أوروبا والدوري الإنجليزي، قبل أن تتجه نحو تشفير باقة قنواتها عام 1996، فيما ظهرت قنوات عربية أخرى منافسة لها كـ "أبوظبي الرياضية" التي حصلت على حقوق بث الدوري الإيطالي، و"شو تايم" التي حصلت على الدوري الإنجليزي.

أخذ اتحاد إذاعات الدول العربية على عاتقه شراء حقوق بث مختلف البطولات الرياضية العالمية

عرضت ART بطولتي كأس العالم عام 1994 و1998، ولكن ذلك لم يجلب انتباهاً مهماً ؛حيث كانت الغالبية العظمى تتابع المباريات عبر البث الأرضي، وذلك بفضل العقد الذي أبرمه اتحاد الإذاعات العربية مع الاتحاد الدولي لكرة القدم وحصل بموجبه على حقوق بث بطولة كأس العالم لمدة 20 سنة عبر الأعوام 1978 - 1998.
بطولة 2006.. التشفير يصل كأس العالم
في عام 1998 كان سعر حقوق بث البطولة قد وصل إلى 107 مليون دولار، وفي عام 2002 اتجه الاتحاد الدولي إلى التعاقد مع شركة واحدة يبيع لها الحقوق وتقوم بدورها ببيعها للفضائيات حول العالم؛ حيث رست الصفقة على شركة "انفرونت" وبلغت قيمتها نحو 1.2 مليار دولار، وهنا لم يتمكن اتحاد الإذاعات العربية من المنافسة واستطاعت شبكة ART شراء حقوق البث لبطولتي 2002 و2006، وهكذا، وبعد نحو ثلاث عقود من المتابعة المجانية، وجد المشاهد العربي نفسه فجأةً مضطراً للاشتراك والدفع حتى يتمكن من مشاهدة وتشجيع فريقه، وهو ما لم يكن في استطاعة الشريحة الأوسع.
بي إن سبورت.. من التشفير إلى الاحتكار
وفي العام 2003، ومن العاصمة القطرية الدوحة، أعلنت شبكة الجزيرة عن إطلاق قناة الجزيرة الرياضية، والتي كانت اسماً للقناة التابعة لشبكة "بي إن سبورت" الإعلامية، التي يترأسها رجل الأعمال ناصر الخليفي، حيث استمرت بهذا الاسم مدة 11 عاماً، قبل انفصالها عن شبكة الجزيرة عام 2014.

ناصر الخليفي رئيس شبكة بي إن سبورت

سعت القناة منذ انطلاقها للدخول بقوة في سوق التنافس على بث البطولات الكبرى، وبدأت ببث بطولة الدوري الاسباني حصرياً منذ الموسم 2003/2004. وقد حاولت القناة شراء حقوق بطولة كأس العالم عام 2006، ولكنها لم تتمكن من ذلك بسبب امتلاك الحقوق من قِبل شبكة ART، وفي العام 2009 حصلت قناة الجزيرة الرياضية على حقوق بث بطولتي كأس العالم لعامي 2010 و2014. وكان إجمالي مبيعات حقوق بث مباريات مونديال 2010 في جنوب أفريقيا قد وصلت إلى ما يقارب ثلاثة مليارات دولار، بينما بلغت حقوق البث لمونديال البرازيل 2014 ما يقارب أربعة مليارات.

تم اتهام السكرتير السابق للفيفا بتلقي رشاوي من مدير شبكة بي إن سبورت

وفي عام 2015 أتمت القناة -بمسماها الجديد- صفقة الحصول على حقوق بث بطولات كأس العالم من 2018 وحتى 2030، وهو ما أثار علامات استفهام كثيرة حول الصفقة، وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2017 أعلن مكتب المدعي العام السويسري أنّ هناك شبه فساد تتعلق بالسويسري جيروم فالكه، السكرتير السابق للفيفا، والمدير التنفيذي لشبكة "بي إن سبورت" ناصر الخليفي، حول صفقة منح حقوق بث كأس العالم. حيث أشار الادعاء العام إلى أنّ الشخصين هما محور قضية فساد ورشوة وتزوير. وقال نص الادعاء: "يشتبه في أن جيروم فالكه قبل امتيازات لم يكن يستحقها من رجل أعمال في قطاع حقوق البث الرياضي فيما له صلة بمنح الحقوق الإعلامية لبطولة كأس العالم أعوام 2018 و2022 و2026 و2030 لدول بعينها"، وهو ما سارع الخليفي إلى نفيه. وكانت الفيفا  بادرت إلى إقالة فالكه من منصبه في كانون الثاني (يناير) 2016، مع إيقافه 12 عاماً عن جميع الأنشطة الكروية، على خلفية قضايا أخرى.

جيروم فالكه السكرتير السابق للفيفا والمتهم بتلقي رشاوي من مدير شبكة بي إن سبورت

دعوات لإنهاء الاحتكار
وقد أدت هذه الاتهامات مع طول مدة استحواذ القناة على حقوق البث إلى تصاعد الأصوات العربية المعارضة لاحتكار القناة بث كأس العالم طوال هذه المدة، خاصّة وأنها تحتكر البث لـ 22 دولة مع التشفير؛ حيث تطالب العديد من الجهات الاعلامية والكروية بأن تكون المزايدة علنية، ومنهم من يدعو إلى أن تكون حقوق البث منفصلة لكل دولة، كما هو الحال في أغلب بلدان العالم، وباعتبار أنّه حين تم التعامل مع المنطقة العربية كإقليم واحد، كان ذلك بطلب من جهة تابعة لجامعة الدول العربية، وبرضا من جميع الدول الأعضاء، وبالاخص أن اتحاد الإذاعات كان يوفر المباريات بشكل مجاني للجميع عبر القنوات الأرضية.
وتخشى شبكة بي إن سبورت مثل هذه المطالب؛ حيث إن فصل أي دولة يعني فقدان ملايين الزبائن وخسارة ملايين الدولارات من الاشتراكات، فلو استقلت مصر وحدها بحقوق خاصّة فإنّ ذلك يعني خسارة قد تصل إلى نحو 10 مليون مشترك محتمل! وبالطبع فإنّ الفيفا يعارض مثل هذه المطالب بسبب المبالغ الطائلة التي تبدي بي إن سبورت استعداداً لدفعها.

اقرأ أيضاً: هل تؤثر مشاهدة مباريات كرة القدم على صحة القلب؟
وقد تزايدت الدعوات العربية المعارضة للاحتكار مع صدور قرار عن محكمة العدل الأوروبية عام 2013، والذي أيّد دول الاتحاد الأوروبي في إصرارها على بث مباريات كأس العالم عام 2010، في مقابل رفض بلاتر - رئيس الفيفا آنذاك - ذلك وإصراره على بثّها عبر القنوات المشفرة والتي تدفع مبالغ طائلة للفيفا، وهكذا قامت دول عدة ببث مباريات كأس العالم 2014 على قنوات محلية.
البحث عن البدائل
تصل اليوم كلفة الاشتراك في باقة القنوات الخاصة بكأس العالم لعام 2018 (مدة شهر) من دون شراء الجهاز إلى 130 دولاراً في دول الخليج، و90 دولاراً لباقي الدول العربية، في حين تصل كلفة الاشتراك السنوي إلى 300 دولار. ورغم أنّ هذا الرقم قد يبدو في المتناول للبعض إلا أنه يعتبر للملايين تكلفة لا يمكنهم تحملها، وهو ما يدفع بهم للبحث عن بدائل أخرى أوفر، فمنهم من يذهب إلى محاولة التقاط أقمار صناعية تبث عبر قنواتها المباريات مجاناً بتعليق غير عربي، ومنهم من يبحث عن روابط البث المباشر على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من يلجأ لشراء أجهزة استقبال خاصة تكون متصلة بالانترنت ولا تتجاوز كلفة تركيبها الـ 15 دولاراً مع عدم وجود حاجة لتجديدها، في حين يختار كثيرون مشاهدة المباريات في المقاهي وهو ما لا يكون من الممكن عادةً فعله في جميع المباريات بسبب التكلفة، كما وتقوم عدة بلديات بتوفير عدد من الشاشات في الشوارع والأماكن العامة.

يختار كثيرون مشاهدة المباريات في المقاهي كبديل عن الاشتراك

تتزايد اليوم وتيرة التنبيه والتحذير من تحول رياضة كرة القدم إلى تجارة ومجال للاستثمار وجني الأرباح، فخلافاً لرياضات الطبقات العليا كالغولف، والبولو، بدأت كرة القدم كرياضة بسيطة لا تحتاج أي تكلفة لممارستها أو مشاهدتها، مما جعلها ترتبط دائماً بالفقراء وعامة الشعب، ولكن يبدو أنّ الأمور لم تعد كذلك في عالم اليوم.

الصفحة الرئيسية