"سارة" عبّاس محمود العقاد: رواية الفتنة والغموض والأسرار

العقاد

"سارة" عبّاس محمود العقاد: رواية الفتنة والغموض والأسرار


08/05/2018

من بين مؤلفاته التي تقارب المائة، تبقى رواية "سارة" للأديب المصري عبّاس محمود العقاد، الأكثر جدلاً، لا بسبب بنيتها الفنية، وإنما بسبب شخصيتها النسائية التي أثارت أسئلة وبحوثاً وسجالات وكتباً عمن تكون هذه المرأة التي شغف بها العقاد.

الرواية صدرت عن دار المعارف بمصر عام 1938، ثم أعيد طبعها في طبعات كثيرة. وفي الطبعة الثانية الصادرة عام 1943، قال العقاد: "كتبت هذه القصة ـ فيما زعم بعضهم ـ لغير شيء، إلا أنّني أردت أن أجرب قلمي في القصة. لهذا السبب وحده كتبت سارة. وهو سبب قد يصح أو يكون له نصيب من الصحة لو أنّني اعتقدت أنّ القصة ضريبة على كل كاتب، أو اعتقدت أنّ القصة أشرف أبواب الكتابة في الفنون الأدبية، أو اعتقدت أنني مطالب بالكتابة في كل موضوع تجول فيه أقلام المؤلفين".

من بين مؤلفاته التي تقارب المائة، تبقى رواية "سارة" للعقاد الأكثر جدلاً بسبب شخصيتها النسائية

لكنّ العقاد اعترف، قبل وفاته بسنوات، بأنّ "سارة" تعبر عن شخصية حقيقية، وتجربة خاصة في حياته. ومع ذلك لامه القراء على الاسم، مشيرين إلى أنّ "سارة" يعود لفتاة إسرائيلية أو يهودية أو أجنبية، وهو ما نفاه العقاد قطعياً.

قسّم العقاد روايته "سارة" إلى 16 فصلاً تدل عناوينها على هوية كل فصل "أهو أنت، موعد، الشكوك، الرقابة، وكيف الرقابة، مضحكات الرقابة، القطيعة، من هي، وجوه، كيف عرفها، أيام، لماذا هام بها، حبان، لماذا شك فيها، جلاء الحقيقة".

"سارة" بطلة الرواية امرأة شابة يتعرف إليها بطل الرواية "همام" في نزل مفروش تديره امرأة فرنسية تدعى ماريانا، فأعجب همام بسارة وبطريقة حديثها ولباسها وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما لتتحول إلى مواعيد وخلوات بعثت السرور في قلب "همام"، وهو رجل شاب ميسور الحال غير متزوج يعيش في حي حديث، ويتردد على أماكن الترفيه، ولديه شلة من الأصدقاء الذين يتسامر معهم على طريقة حياة الثلاثينيات في مصر التي قدمتها السينما العربية، فكان يحدثهم عن حبه الجديد، وكانوا بدورهم يزرعون في نفسه الشك، لأنها امرأة لعوب، وهو ليس أكثر من عابر سبيل في حياتها سرعان ما ستهجره.

لكنّ همام لم يكن يرى فيها ذلك الجانب الذي حذره منه الأصدقاء؛ فهي فتاة متعلمة في الغرب، وتنتمي إلى الحياة العصرية ولديها روح مرحة محبة للحياة.

كانت تدور بين العاشقين حوارات فلسفية عميقة تكشف عن جانب ثقافي لدى كل منهما، وكانت أغلب مواعيدهما تتم في السينما، حيث يشاهدان فيلماً ثم يخرجان للتنزه على الطرقات الخلفية، أو يجلسان في مكان قصي يراقبان غروب الشمس مثل أي عاشقين ذائبين في بحر الحب.

رواية "سارة" للأديب المصري عبّاس محمود العقاد

ومن القسم الأول من الرواية نقتطف ما يأتي:

أهو أنت

مضت خمسة أشهر قبل أن يجرؤ على عبور ذلك الشارع مشياً على قدميه. ليس الشارع مقفراً أو مخيفاً؛ لأنه محاط بالعمار مزدحم في جوانبه بالسابلة والسكان، وليس هو بالبعيد عن طريقه لأنه يوشك أن يحتاج إليه في ذهابه وإيابه إلى حيث يقيم في ضاحية المدينة.

ولكنه كان شارعاً يلتقيان فيه عند ذهابهما إلى دار الصور المتحركة (السينما) ثم يلتقيان عند خروجهما منها.

وكانا يجلسان إذا دخلا تلك الدار في مكانين متجاورين، ولكنهما لا يدخلان إليها ولا يخرجان منها متجاورين، بل يرسل هو إلى نافذة التذاكر من يبتاع التذكرتين لكرسيين في مكان قلما يتغير ثم يلقاها في ذلك الشارع، فتأخذ إحدى التذكرتين وتسبقه إلى الدار، ويظل هو بضع دقائق في بعض الأندية العامة ثم يلحق بها إلى المكان المعروف.

وكان من عادتها أن تقارن بينها وبين بطلة الرواية إذا أحست منه إعجاباً بها أو ثناء عليها وتسأله في ذلك أسئلة ذكية خبيثة لا تسهل المغالطة في جوابها إلا على سبيل المزاح والمداعبة.

سألته مرة وقد لمحت منه اهتماماً بالروايات التي تظهر فيها إحدى الممثلات:

-إذا سمحت لك هذه الممثلة بقبلة. أتقبلها منها؟

فعلم أن الجواب الجادّ عن هذا السؤال غير سليم العواقب وعمد إلى العبث والمراوغة.

العقاد اعترف بأنّ "سارة" تعبر عن شخصية حقيقية، ومع ذلك لامه القراء على الاسم

وقال:

- وهل من الأدب أن أرفض قبلة تعرضها سيدة؟

قالت:

- دعنا من حديث الأدب فما عن هذا أسأل.. أنا أسألك عن دخيلة نفسك.. أسألك عن رغبتك فهل ترحب بتلك القبلة إذا وجدتها؟

فعاد مرة ثانية إلى العبث والمراوغة وطفق يقول:

أما إن كنت أمثل معها على الستار الأبيض، فأنت تعلمين أنّ القبلة لا غنى عنها، تلك واجبات الفن يا صديقتي ولا تتم الفنون إلا ببعض التضحية.

قالت:

أوَتضحية هي؟

قال:

نعم. كل قبلة غير قبلة المرأة التي يحبها الرجل هي تضحية، بل هي إن شئتِ سخرة.

فرضيتْ، وهي تعلم أنه يغالط ويراوغ في الجواب وأحبت أن تشعر أنه لا يقبل تلك الممثلة الجميلة إذا أُتيح له تقبيلها، وهي تعلم أنه لا يقول صدقاً ولا يعمد إلى الصراحة. وقالت وهي تضحك:

لقد نجوت! إنّ قبلة تتمناها لهي خيانة الضمير، لا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ.

وإذا خرجنا للرياضة بعد الفراغ من الصور المتحركة، فكثيراً ما كانت تمدّ يدها إلى مفكرته في جيبه، فتكتب فيها كلمةً تناسب رواية الليلة أو تناسب الرياضة التي خرجا لها إن كانت لها مناسبة ملحوظة.

فكتبت مرة وقد شاهدا رواية المرأة المترجلة "هل أعجبتك رواية المرأة المترجلة ؟ أما أنا فسأكون لك امرأة فقط"..

وكتبت مرة أخرى، وقد شهدا رواية المرأة المحتالة "أرجو ألا ترى المرأة المحتالة إلا في السينما. أما في الحياة، فحسبك المخلصة: فلانة".

وربما مضت سنة أو سنتان على مشاهدة الرواية، هي تذكر كل كلمة قالها في التعليق عليها أو في انتقادها .

فاتفق يوماً أنّهما حضرا الصور المتحركة في إحدى الضواحي الصيفية، حيث تعرض المشاهد القديمة بعد سنة أو سنتين من عرضها في المسارح الكبيرة، وشهدا هنالك رواية هزلية عن صياد فاشل يستعيض من فشله في الصيد بالمبالغة في الوصف والحكاية، فكان يرفع البندقية ويطلق الطلقة الواحدة في اتجاه واحد فيقع الطير عن يمينه وشماله من جميع الجوانب، ويظل يتساقط من هنا وهناك إلى ما بعد إطلاق البندقية بلحظة غير قصيرة.

فقال لها:

- أليس الأحسن والأبرع، أن يسقط هذا الطير مشوياً على الأطباق؟

فضحكت طويلا، وقالت:

- أتذكر؟ إنك قلت هذه الكلمة بعينها عندما شهدنا هذه الرواية في البلد للمرة الأولى!

ولا يندر أن يسمع منها أثناء التمثيل كلمات سريعة وتعليقات متبدرة تكشف بها على غير قصد عن أعمق أعماق المرأة وتهزأ فيها بالرياء الأنثوي الذي يبدو في خجل المرأة وامتناعها.

من ذلك أنهما شهدا رواية من روايات الثورات يبدو فيها طريد جريح مهدد الحياة بجراحه ومهدد الحياة بمطاردة أعدائه، وقد لاذ بأحد البيوت فأكرمه أهل البيت وكتموا أمره وتعهدته بالعلاج فتاة دون العشرين من العمر سليمة القلب وسيمة الطلعة ممشوقة القوام، فمالت إليه شفقة، ثم مالت إليه حباً ثم تمالك نفسه بعد طول العلاج حتى انفردا في بعض الجلسات فبلغ سرورها به وسروره بها أن نظر إليها ونظرت إليه وعيونهما تومض بالمحبة، ثم اعتنقا في قبلة طويلة جارفة.

وكان بين المتفرجين على المقربة منهما سيدة في نحو الأربعين من عمرها وفتيات ناهدات في مثل سن الفتاة فصاحت السيدة:

- انظرن إلى الخائن! إنه خدعهــا!

فمالت صاحبتنا وهمست ساخرة:

- أتقول خدعها؟! إنه كافأها أحسن مكافأة يستطيعها!

****

العقاد في شبابه

وهكذا كانت دار الصور المتحركة عندهما شيئاً أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء كانت محور حياتهما الغرامية، وهل كانت لهما من حياة في ذلك الحين إلا الحياة الغرامية؟ وكانت ملتقى الذكريات والعواطف ووسيلة التقارب والتفاهم فيما يشعران به وما يلاحظانه من أحوال المحبين والمحبات، وكانت ذخيرة من المناظر التي يقترن كل منظر منها بكلمة أو بخاطر أو بمناقشة أو بأمنية يملكان تحقيقها أو بأمنية يكتفيان منها بالحلم والخيال.

فلما وقعت الجفوة بينهما وانقطع طريقهما إلى تلك الدار، كانت كل خطوة في تلك الطريق كأنما تثقل النفس بآكام فوق آكام من الذكريات والآلام، وكانت كل زاوية من الزوايا كأنما تخفي فيها الشياطين الثائرة والعقبان الكاسرة وكان اجتناب تلك الطريق أسلم الأمور وأهون المحذورات.

ثم مضت الأشهر وخُيّل إلى صاحبنا أنه لم يعد يخشى أو يذكر، فاجترأ على العبور بالطريق مرة بعد مرة، وعبر بها ثلاث مرات أو أربع على الأكثر، وكانت الرابعة هي التي فوجئ فيها بهذه المفاجأة التي لم تكن فيالحسبان.

إنه لم ير صاحبته بعد اللقاء الأخير في أثناء الأشهر الوحشة. إنه اجتنب الأماكن التي عساه أن يراها فيها، ولزم بيته في معظم الأيام، وعلم أنه ما من مرتاد أو متنزه يقصد إليه إلا وهو خليق أو يعاوده ببعض الذكريات إن لم يعاوده ببعض ما يسوؤه أن يراه.

فلما عبر الشارع المهجور في تلك الليلة مطرقاً كعادته حين يسير على غير قصد إلى مكان معلوم .. سمع من جانبه صوتاً يناديه.. صوتاً يعرفه بين ألف صوت. بل بين جميع ما خلق الله من الأصوات والأصداء:

صوتها هي بعينها يهنف به:

- أهو أنت؟

أهو أنت.. سمع هاتين الكلمتين، فأحسّ لهما صدى كانفجار الهاوية تحت السفينة في البحر اللجيّ من أثرعاصفة أو زلزال، وقبل أن يجيب ذلك السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب وفي أقل من رجع الصدى بل في أقل من اللمحة الخاطفة التي انقضت بين ارتفاع راسه إليها والتقاء نظره بنظرها.. هجم على نفسه طوفان من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسم في اللغات الإنسانية، لأن اللغات الإنسانية لا تستطيع أن تضع اسما لألوف النقائض والمفاجآت التي يجتمع فيها الرعب والسرور والشوق والنفور والهيام والاشمئزاز، وتريد فيها النفس أن تقف، وتريد فيها القدم أن تسير، بل تريد فيها النفس أن تقف لأنها لا تقوى على أن تريد.

ولو أنه رآها عند أول الطريق قبل أن يفاجئه من صوتها هذا الهاتف الطارئ، لعله كان يعرف ما هو مقبل عليه ويستعيد في نفسه شيئاً من ذلك العزم الذي أعانه على القطيعة، وأمدّه بدواعي الإصرار عليها، كلما جنح إلى اللين والإغضاء والمغالطة.

سألته مرة وقد لمحت منه اهتماماً بالروايات التي تظهر فيها إحدى الممثلات: إذا سمحت لك هذه الممثلة بقبلة. أتقبلها منها؟

ولكنه أخذ على حين غرة.

فوقف هنيهة لا يدري ما يقول.

ووقفت هي أيضاً لا تدري ما تقول، وكأنما ندمت على الكلمة، لأنها لم تسمع لها جواباً سريعاً ولم تزل تخشى ما يجيء به ذلك الجواب، فأومأت إلى مركبة قريبة واقفة بين المركبات الكثيرة، وإذا بهما يسيران معا إلى تلك المركبة فتجلس فيها ويجلس هو إلى جانبها، وهي تقول:

هذا خير من أن يرانا الناس مشدوهين كالصنمين!

والواقع أنّ الناس التفتوا، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويتهامسون .

فقال لها:

صدقت، هو خير.

ثم صاح الحوذي: إلى أين يا بيك؟.

فلمّا لم يسمع رداً من البيك عاد يسأل: إلى أين يا سيدتي؟

فهمست صاحبتنا: ألا تقول للحوذي إلى أين؟

فأجابها وهو يوجه خطابه إلى حيث تشاء.

وكأنما ندمت مرة أخرى على الركوب وعلى اللقاء وعلى السؤال، لأنها كانت تنتظر من صاحبها لهفة على مكان من أماكن الرياضة المعهودة التي ألفا أن يتردّدا عليها.. فجلست صامتة.

وجلس كذلك صامتاً.

وطال الصمت. لا لأنه كان يريده، أو لأنه كان يأبى الكلام .. ولكن لأنه كان يفتش عن كل كلام في الدنيا، فإذا هو يهرب أو يستعصي ولا ينقاد.

وكان الكلام الذي يريده هو التواعد إلى غد، حيث يلتقيان في المنزل، وحيث يقولان ويعيدان ويتأهبان للعذر ويتأهبان للملام.

ولكن هذا هو بعينه الكلام الذي لا يريده!

يمنعه أن يفوه به مانع الكبرياء، ومانع الخوف من تجديد ما فات، ومانع الشك فيمن تصاحب وفيما تضمر وفيما عسى أن تلقى به كلامه في دخيلة نفسها من الزراية والاستخفاف.

الصفحة الرئيسية