خليفة السيستاني الذي يدق أبواب العراق

خليفة السيستاني الذي يدق أبواب العراق


12/11/2017

مختارات حفريات

محمود شاهرودي خليفة السيستاني الذي يدق أبواب العراق

تكررت زيارات مبعوث مرشد ما تسمى بالثورة الإيرانية علي خامنئي غير المعلنة إلى العراق في الأشهر الأخيرة، لكن الزيارة الأخيرة لمحمود هاشمي شاهرودي إلى النجف قد أظهرت إلى العلن منذ الخميس الماضي بدء مرحلة الخلافات الحادة بين مرجعية النجف الشيعية ومرجعية ولاية الفقيه في طهران.

فرفض السيستاني لقاء خليفته الشاهرودي، المعد إيرانيا على نيران مختلفة ومتشعبة، يصعب تجاوزه وتهدئته، يضاف إلى ذلك رفض المراجع الشيعية الثلاث الأخرى: بشير النجفي، محمد إسحاق الفياض، محمد سعيد الحكيم، استقباله.

الشاهرودي سعى إلى لقاء مقتدى الصدر الذي رفض استقباله أيضا معلقا بأنه “يحمل مشروعا طائفيا سيضعف العراق”، مستنكرا التدخل السافر من قبل إيران في الشأن العراقي.

ومن يرصد ردود الفعل على الشخصية المفروضة إيرانيا سيلاحظ تطورا لافتا في الخطاب الشيعي العراقي لم تشهده السنوات الماضية بعد سقوط بغداد في العام 2003، فالقيادي في كتلة الصدر أمير الكناني يقول عن تلك الزيارة إنها “لا تصب في مصلحة الشعب العراقي، لأنها تدفع فقط باتجاه التخندقات الطائفية”، ويضيف أن إيران “ليس لها مشروع جديد في البلاد سوى تشكيل كتل شيعية مسلحة، أما مسألة الخلافات داخل التحالفات السياسية العراقية فهي خلافات داخلية وانتخابية لا شأن لطهران فيها”.

ولكن هل من السهولة بمكان أن تبتلع إيران عودة مبعوثها وخليفتها شاهرودي بنفس اليوم الذي رفض فيه الجميع استقباله؟ فكيف إن كان مبعوث إيران هو رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس الهيئة العليا لحل النزاعات بين السلطات الثلاث في البلاد، والمرشح الأوفر حظا كذلك لخلافة خامنئي؟


مشروع جديد للحرس الثوري

لتخفيف الوطء، صدر عن مكتب شاهرودي في النجف بيان غير مقنع لأحد يقول فيه إن زيارته جاءت شخصية فقط ولزيارة العتبات المقدسة، وقد رافق زيارته الأخيرة إطلاق مشروع ضخم لشركة إنشائية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني لتوسيع مرقد الإمام علي في النجف بتكلفة 300 مليون دولار أميركي، ليصبح ثاني أكبر موقع بعد الحرم المكي في السعودية، لأغراض ليست طائفية وحسب، إنما لخلق نوع من التبعية غير المنظورة لإيران، بحكم وصول التبرعات المالية والمساعدات والنذور إلى الشركة المشرفة على البناء والإعمار، والتي بدورها تعتبر مرتبطة بالحرس الثوري الساعي إلى دمج البنية التحتية العراقية بالبنية الإيرانية التي ستكون متحكمة بالأموال والقرارات لاحقا.

رافق زيارة الشاهرودي عدد غير قليل من كبار رجال الأمن الإيراني والرئيس السابق للحرس الثوري، وقام بزيارة ميليشيا “النجباء” في محافظة صلاح الدين، وسمّاها بالمقاومة الإسلامية، وحثها على القتال في سوريا، وصرّح ممثل تلك الجماعة له بأنهم تابعون لولاية الفقيه بكل شيء، ولا يعترفون بالحدود الوطنية التي يتحدث عنها الآخرون. بعدها عاد الشاهرودي إلى مكتبه في النجف ليوزع المنح الدراسية على الطلبة الدارسين في المعاهد والحوزات الدينية، لضمان ولائهم وأصواتهم لصالح مرجعيته المحتملة لخلافة السيستاني بدعم مباشر من طهران.

قام  الشاهرودي بزيارة ميليشيا “النجباء” في محافظة صلاح الدين، وسمّاها بالمقاومة الإسلامية، وحثها على القتال في سوريا

الداينمو الخطر

ولد شاهرودي في مدينة النجف عام 1948 من أبوين إيرانيين فارسيين ترجع أصولهما إلى مدينة شاهرود في إقليم سمنان، وقد هاجر جده علي أكبر هاشمي من شاهرود إلى كربلاء في العراق.

درس الابتدائية والثانوية في النجف، وتلقى دروسه الدينية على يد الشيخ هادي السيستاني، ودخل الحوزة وهو ابن ستة عشر عاما، وتتلمذ على يد محمد باقر الصدر وأبو القاسم الخوئي، نال درجة الاجتهاد بعد أن أنهى مرحلتي المقدمات والسطوح، والأصول والفقه.

اعتقل عام 1974 لنشاطاته السياسية، وحين أطلق سراحه كانت ما تسمى بالثورة الإيرانية قد اندلعت عام 1979 فأعلن مناصرته لها، وقاد التظاهرات من أجلها.

قبل أن يلقى القبض عليه ثانية هرب شاهرودي إلى إيران عبر الكويت، وأصبح بعد وصوله وكيلا وممثلا لمحمد باقر الصدر لدى الخميني. ثم أسس جماعة “العلماء المجاهدين”، وشارك بتأسيس “المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، وقاده من طهران لأربع دورات متتالية.

وفي العام 1994 عين عضوا في مجلس صيانة الدستور الإيراني، وكلف بالإشراف على مجلس الشورى، ثم عينه خامنئي رئيسا للسلطة القضائية لعشر سنوات متتالية، ثم رئيسا للهيئة العليا لحل الخلافات بين السلطات الثلاث، ثم أخيرا رئيسا لمجمع تشخيص مصلحة النظام.

وفي الشأن العراقي في زمن المعارضات المقيمة في إيران، كان يلقب شاهرودي بـ”داينمو المعارضة العراقية”، فهو مؤسس تشكيلاتها ومجالسها، والمشرف العام المباشر على نشاطاتها، وهو مهندس الارتباط بينها وبين السلطات الإيرانية الفاعلة، وقد استمر كذلك منذ أوائل الثمانينات حتى احتلال بغداد عام 2003.

وهو واحد من مجموعة يطلق عليها في الوسط الإيراني “مجموعة العراقيين”، ويقصدون بها كلا من مرتضى العسكري مؤسس حزب الدعوة في إيران وعلاء بروجودي رئيس لجنة الدفاع والأمن في البرلمان وأكبر صالحي في الخارجية وشفيق لاريجاني رئيس لجنة القضاء العليا مؤخرا. والامتعاض في الوسط الديني والسياسي الإيراني من كل هؤلاء ليس بسبب ولادتهم في العراق، إنما بحكم قربهم إلى السلطات العليا الفاعلة في طهران وقم.


تضارب المصالح والمرجعيات

في الوقت الذي رحل فيه محمد حسين فضل الله في بيروت، وقد كان المرجع المقلَّد من قبل حزب الدعوة العراقي، ولم يكن تابعا أو مقلدا لولاية الفقيه الإيراني، سارع حزب الدعوة وزعيمه المالكي إلى تقليد شاهرودي في إيران بحجة امتلاكه للدرجة الدينية المؤهلة وبذات الوقت يقترب المالكي من صانع القرار الأول في إيران، خامنئي، بحكم اقتراب شاهرودي من الأخير.

وبتلك الطريقة فك المالكي على يدي شاهرودي مسألة ضرورة ارتباط حزب الدعوة العراقي بمرجعية عربية كتقليد سائد وينقلها إلى أحضان بلاد فارس.

سارع شاهرودي بعدها إلى افتتاح مكاتب له في النجف وكربلاء وبغداد لدعم سلطة المالكي وحزب الدعوة بمساندة إيرانية مطلقة، وفي زيارته قبل الأخيرة والتي رافقها كذلك الكثير من الاستنفار في الأوساط الدينية في النجف وكربلاء، والتي كان غرضها تمرير صفقة حزب الله اللبناني مع عناصر داعش ونقلهم في باصات مكيفة إلى الحدود السورية العراقية بإشراف وإدارة النظام السوري، جرت محاولة اغتيال المرجع الديني العربي العراقي فاضل البديري لنشره بيانا يدعو فيه الشعب العراقي إلى رفض صفقة حزب الله اللبناني المشبوهة.

الغير المعلن من  زيارة شاهرودي وبعثته الخاصة من قبل خامنئي هو سعي إيران لاحتواء رئيس الوزراء حيدر العبادي وتحذير الأطراف العراقية الأخرى من التقارب مع البلدان العربية والخليجية

رافقت زيارة الشاهرودي تلك مخاوف بين كبار المراجع والأوساط السياسية من تمكين آل الحكيم، الأسرة الفارسية الأصل، كمرجعية دينية بديلة للسيستاني عبر شخصية محمد سعيد الحكيم، مقابل إصرار الصدريين على أن تكون المرجعية المقبلة عربية عراقية.

ومازالت التوجسات محتدمة والحروب السريّة غير المعلنة سارية المفعول هي الأخرى في الغرف المغلقة، يوازيها اشتعال النقاشات والخلافات بين طلبة المعاهد والحوزات الدينية ومثقفي الشيعة والكثير من العارفين والمتابعين لخفايا الأمور ومن نفوذ وتكرار زيارات شاهرودي إلى العراق، وهو المؤمن إيمانا مطلقا بمشروع ولاية الفقيه.

في الطرف الآخر من تلك المعادلة الملتهبة يقف محمد رضا السيستاني، نجل المرجع السيستاني، وبيده المال ودار الفتوى، والتي يقول عنها إنها ليست فتوى من رجل عليل جالس في بيته، في أواخر الثمانينات من العمر، إنما هي بضعة جمل كلامية يمكنها أن تخرج الملايين إلى الشارع وتقلب كل المتغيرات إلى صالحه والصالح العام.

لكن مسألة انتقال المكانة الدينية من الأب إلى الابن ستكون حدثا غير مسبوق في التقاليد الشيعية في العراق. وفي خضم هذه الخلافات والتنافسات لا يمكن لإيران أن تفوت فرصة اقتناص المرجعية في النجف مهما كلفها الأمر في ذلك، وبوجود شاهرودي كمرجع أعلى في العراق، تظل الفرصة قائمة لإحكام إيران قبضتها على القرار الشيعي بعد تأكيد نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في العراق.

وباحتمالية خلافة شاهرودي للسيستاني ستغيب تماما إمكانية وجود منافس لخامنئي الذي يتلخص طموحه بأن يكون هو الزعيم الأوحد لكل الشيعة في العالم، وتكون إيران قد ضمنت كامل سلطتها في العراق لسنوات لا حصر لها.


ماذا غير المرجعية؟

في الشكل العام تأتي زيارة شاهرودي الأخيرة للعراق في سياق ترتيب وترطيب الخلافات بين الأحزاب والتحالفات الشيعية في هذا البلد الذي يغلي على الجمر. التقى مثلا عمار الحكيم الذي أعلن انفصاله عن التحالف الشيعي وكوّن لوحده “تيار الحكمة”، كما التقى العديد من المسؤولين السياسيين ومن ضمنهم رئيس الوزراء حيدر العبادي وسواه.

ولكن غير المعلن من فحوى زيارته وبعثته الخاصة من قبل خامنئي هو محاولة احتواء العبادي وترويضه للابتعاد عن دوائر القرار الأميركي، وتحذير الأطراف الأخرى كذلك من التقارب مع البلدان العربية والخليجية، وتأكيد دعم خامنئي شخصيا لنائب الرئيس الحالي المالكي، ودعم الحرس الثوري له لإنشاء تيار سياسي شيعي أكثر يمينية، وأكثر اعتمادا على تضحياته وسلاحه في نيل الأصوات الانتخابية، ومرتبط عقائديا بطهران التي سوف لن تبخل عليه في الدعم والمساندة في الحصول على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان المقبل، عبر دعمهم أيضا لتيار سنّي.

بدأ يتشكل منذ أشهر ويدعى “سنّة الحشد”، يضم شخصيات مدجنة متحالفة مع هذه الميليشيات لمصالح شتى، وتكون على شاكلة “سنّة المالكي” السابقة، وتكون معتمدة على سلاحها أيضا في جلب الأصوات الانتخابية وحصد مقاعد البرلمان المقبل، وبتحالفها مع زعماء شيعة السلاح، ستضمن مقعد رئيس الوزراء المقبل.

فهل سيتمكن شاهرودي من تنفيذ برنامج خامنئي المقبل في العراق، في الوقت الذي بات معلنا فيه في الأوساط غير الرسمية امتعاض المرجعية وكبار رجال الدين من دعم إيران المفضوح للمالكي الذي يتحمل كل ما وصل إليه العراق من انتهاكات وخروقات وتخريب ونزوح وهجرة ودمار المدن؟

إيران تحاول من خلال شاهرودي تمرير دعم الحرس الثوري لنائب الرئيس الحالي نوري المالكي لإنشاء تيار سياسي شيعي أكثر يمينية ودعم ما سمي بـ"سنة الحشد"

من بين النقاط غير المعلنة للخلافات مع طهران رفض السيستاني السماح لفصائل الحشد الشيعي من القتال في سوريا، ورفضه كذلك لصفقة حزب الله اللبناني مع داعش الإرهابي، ونقطة خلافية أخرى متصلة بهذا كله وهي استغلال إيران لفتوى السيستاني “الجهاد الكفائي” المعلنة لقتال داعش في الموصل والمدن العراقية، وتوظيفها وتسخيرها لصالح فروعها وفصائلها المسلحة عبر زج العراقيين فيها ونقلهم إلى سوريا بذريعة تلبية نداء فتوى الجهاد، وتلك خديعة كبرى في التعبئة والإعداد والتأهيل والتجنيد.

لقد حاولت إيران توظيف توابعها في العراق لابتلاع قيادات الحشد الشيعي وربطها بطريقة أو بأخرى بالقرار الإيراني، ولذا سعت المرجعية في النجف منذ فترة إلى تشكيل حشد موال لها، وداعم للمؤسسة العسكرية الرسمية، فكانت الفصائل المرتبطة بالعتبات الحسينية والعباسية والعلوية، ومن هنا يبدو الخلاف محتدما في الأيام المقبلة بين مشروع ولاية الفقيه الإيراني في العراق، الذي يمثله ويدعو له على الأرض شاهرودي، وبين المراجع الدينية العراقية في أجواء يسودها الغموض وشائعات عن احتمال مباغت لرحيل السيستاني.

ولكن لا يجب أن يغيب عن البال أيضا أن صراعا آخر يجري في قم لمنع شاهرودي من الوصول إلى موقع خليفة خامنئي، فهل سيكون الحل لدى البقية الخمسة المرشحين لخلافة المرشد هو إبعاد شاهرودي عن قم بتقريبه من النجف أم إبعاده عنهما معا؟

سمير السعيدي

صحيفة العرب 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية