الإسلام السياسيّ يعكس أزمة الصناعة وتداعيات الحرب العالمية الأولى

الإسلام السياسيّ يعكس أزمة الصناعة وتداعيات الحرب العالمية الأولى


30/09/2018

كانت "الخلافة" جزءاً من أنظمة سياسية سائدة في العالم، وهي الإمبراطوريات؛ إذ كان العالم منذ ظهور الزراعة ونشوء المدن والجيوش، وتدجين الخيول، واكتشاف الحديد، ثمّ صناعة السيوف والدروع، تتوزّعه مجموعة من الإمبراطوريات، التي يعمل في ظلّها ممالك صغيرة ذات حكمٍ محليّ، وفي ذلك؛ إنّ مصطلح "ملك الملوك" يعبّر عن ائتلاف الممالك الصغيرة في إمبراطورية صغيرة أو كبيرة، يرأسها حاكم يُسمّى أحياناً ملك الملوك أو الرأس، أو قيصر، أو كسرى، أو الخليفة، ...إلخ.

وعلى سبيل المثال؛ فإنّ بلدة بيت راس، شمال الأردن، كانت مركزاً سياسياً لمجموعة من الممالك المدينية المحيطة، وهي العاصمة السياسية، ومقرّ "الرأس" الذي يرأس هذه الممالك، وظلّ مصطلح "الرأس"، مستخدماً باللفظ والواقع في إثيوبيا حتى تحوّلها إلى جمهورية العام 1974.

الجماعات الدينية يفترض أن تطوّر نفسها استجابة لمرحلة الشبكية أو تختفي لأنّ العالم الذي ظهرت فيه اختفى

كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة نهاية الإمبراطوريات، ومنها الإمبراطورية/ الخلافة العثمانية، لتنشأ على أنقاضها دول مركزية، وفي حين كان عدد الدول، عشية الحرب العالمية الأولى، حوالي 25 دولة؛ فإنّ عدد الدول الأعضاء اليوم في هيئة الأمم المتحدة يناهز المائتي دولة.

وبطبيعة الحال؛ فقد ظلّت استعادة الخلافة حلماً يراود كثيراً من القادة والأمم والجماعات في العالم الإسلامي، باعتبارها ترمز إلى مرحلة من التفوّق والقوة، كما أنشأت الهزيمة بقسوتها ومرارتها حالة من الرغبة الجارفة، بالردّ عليها، وتباينت الاستجابات وردود الفعل بعد الحرب العالمية الأولى، وكان منها الجماعات التي نشأت، أو استأنفت عملها لاستعادة الخلافة، وتنصّ أهداف جماعة الإخوان المسلمين، كما في رسائل حسن البنا، على أنّ استئناف الخلافة يمثّل مبرّر قيام الجماعة وغايتها الأساسية.

اقرأ أيضاً: الإسلام في أوروبا: هل يحتكر الإسلام السياسي تمثيل المسلمين؟

لكنّ الهدف تضاءل عملياً، ليحلّ مكانه هدف الدولة الإسلامية، وفي ذلك؛ فإنّ الإسلام السياسي بدأ ينتقل ويتكيف، خاصّة بعد الحرب العالمية الثانية باتجاه الدولة المركزية، بما هي تعكس عالم ومجتمعات "الصناعة" التي سادت في عالم العرب والمسلمين من غير صناعة، منشئة في ذلك أزمة اقتصادية واجتماعية، ثمّ بدأت الصناعة نفسها تواجه تحديات كبرى في مواجهة اقتصاد المعرفة والشبكية الذي يكتسح العالم اليوم، ومعها (الصناعة) تنشأ أزمات سياسية واجتماعية جديدة، والحال؛ أنّ أزمة الإسلام السياسي اليوم، هي أيضاً أزمة الدول والمجتمعات العربية والإسلامية في استيعابها، وتحولاتها لما بعد الصناعة، التي لم تمكث طويلاً؛ إذ وصلت إلينا بعد ثلاثمئة عام من تشكّلها وازدهارها في بلاد المنشأ.

الإسلام السياسي بدأ ينتقل ويتكيف خاصّة بعد الحرب العالمية الثانية باتجاه الدولة المركزية

هبطت "الصناعة" بلا استئذان أو توقّع، وغيّرت عالماً راسخاً لآلاف السنين من قبل ذلك، ومثلها تعصف الشبكية بعالم الصناعة، ولن تحتاج لأجل ذلك إلى موافقة سياسية أو فتوى! نتذكر جدالات التسعينيات في مناهضة العولمة، وكأنها (العولمة) سياسة أو قرار حكومي، مثل قانون الضريبة على سبيل المثال! والحال أنّ مناهضي العولمة كانوا الأكثر انخراطاً فيها.

السلفيون؛ الذين كانوا يحرّمون الصور والتصوير، أنشؤوا سلسلة من الفضائيات، والإخوان المسلمون الذين وعدوا في برنامجهم الانتخابي، عام 1993، بإصدار قانون لحظر التقاط المحطات الفضائية، وألزموا أعضاء الجماعة بعدم مشاهدة القنوات الفضائية، صارت لهم فضائيات كثيرة، واليساريون الذين وحدتهم مناهضة العولمة اعترفوا بأنّ العولمة حالة ملائمة لليسار، وغيّرنا اسم جمعية مناهضة العولمة إلى المنتدى الاجتماعي!

اقرا أيضاً: ما بعد الإسلام السياسي: هل انتهى الشكل التقليدي للحركات الإسلامية؟

لا نتذكر اليوم، ونحن نرفض مقولة العقد الاجتماعي الجديد، وكأنّها رجس من عمل الشيطان، أنّنا تغيّرنا كثيراً من قبل، ولا نلاحظ أننا نفكر بعد أعوام قليلة في اتجاه معاكس تماماً لما كنا متحمسين لعدائه ومواجهته، ولا نعترف أننا كنا في نضال "دونكيشوتي"، لا يختلف عن مواجهة وتحريم المنخفضات الجوية! وعلى أيّة حال؛ لا بأس بتكرار القول والدعوة إلى الاستماع العميق، ومشاركة العالم في عمليات الاستماع الطويلة الجارية اليوم، لنفهم ونعيد فهم العلاقات بين مكوّنات الأمة (السلطات والمجتمعات والأسواق والأفراد)، وكيف تشكلت عبر المراحل والموارد، وكيف يمكن أن تتشكّل اليوم في مرحلة جديدة، وهذا هو العقد الاجتماعي الجديد!

هبطت "الصناعة" بلا استئذان أو توقّع وغيّرت عالماً راسخاً لآلاف السنين من قبل ذلك

المسألة على نحو عمليّ؛ أنّ هذه العلاقات تتخذ طابعاً أقرب إلى التسوية، مستمدّاً من وعي الأطراف بمصالحها وأهدافها وقدراتها، هكذا -على سبيل المثال- تمكّنت السلطة، بفضل المطبعة، من أن تنشئ وعياً مركزياً بمجموعة من القيم والأفكار والاتجاهات، واستبعدت مجموعة أخرى من القيم والمعارف والاتجاهات التي لا تلائمها، وأمكنها أن تنظم هذه العمليات، وتسيطر عليها بفعل سيادتها على حدودها وترابها، ثم ساعدتها وسائل الإعلام (الصحافة والإذاعة والتلفزة)، والمدارس، والجامعات، في تكريس وتنظيم المجتمعات والمدارس، والسيطرة على عمليات التنشئة والتوجيه.

لقد انتهى ذلك كلّه، اليوم، وتشكّلت حاجة ملحّة إلى إعادة تنظيم القيم والاتجاهات، وفق مؤثرات وفرص جديدة، تملكها أطراف فاعلة غير السلطة السياسية، العالم الخارجي، والمجتمعات والشركات والأفراد.

اقرأ أيضاً: جماعات الإسلام السياسي إذ تجعل من الدين عبئا على الدنيا

السؤال اليوم، على نحو واقعي وواضح: كيف تحدّد الأمم القيم المنظمة للسياسة والمجتمعات والأسواق؟ وليكن السؤال على نحو أكثر واقعية وصراحة؛ فإنّ السلطات، بما هي الطبقة والنخب والحلفاء والشركاء، تُفكِّر وتُسائِل نفسها بإلحاح: كيف تحتفظ بقدرتها على تمكين فاعل اجتماعي من التأثير بشكل غير متناسب على قرارات فاعلين اجتماعيين آخرين؟ كيف تحابي إرادة الفاعل المتمتع بالسلطة ومصالحه وقيمه؟

وبالطبع؛ فإنّ الفاعلين الاجتماعيين الآخرين من المجتمعات والأفراد، والجماعات، والنقابات، والتجمّعات، والمدن، والمحافظات، والمهمّشين، والمستبعدين من جنّة السلطة وطبقتها المتحكمة، يفكرون كيف يؤثرون في القرارات والاتجاهات والسياسات، ويغيّرون في اللعبة باتجاه مصالحهم وأهدافهم؟

الإخوان الذين وعدوا ذات برنامج انتخابي بإصدار قانون لحظر التقاط المحطات الفضائية صارت لهم فضائيات كثيرة

العمليات المنشئة للعقد الاجتماعي الجديد، تؤسّسها مجموعة من الأسئلة التي تعمل وتؤثر، شئنا أم أبينا، في اللعبة، ماذا لدى الطبقات والفاعلين من فرص مؤثرة جديدة لم تكن متاحة من قبل؟ وكيف توظّف هذه الفرص؟ كيف تدير السلطة ونخبتها اللعبة الجديدة باتجاه قدرتها على المركزية والتأثير الحاسم؟

تنظم السلطة المجتمعات والأسواق والأفراد، بالقوة والمال والمعنى (الثقة والقيم)، كيف تجري هذه العمليات في ظلّ التحولات التقنية والاقتصادية والاجتماعية الجارية اليوم؟ أو كيف يتشكل العقد الاجتماعي الجديد؟ هكذا أيضاً؛ فإنّ الجماعات الدينية في حاجة إلى أن تكيف نفسها وأوضاعها وأفكارها في مرحلة جديدة مختلفة، وكما نشأت استجابة لنتائج الحرب العالمية الأولى، يفترض أن تطوّر نفسها استجابة لمرحلة الشبكية، أو تختفي، لأنّ العالم الذي ظهرت فيه اختفى أيضاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية