حروب القبائل الأيديولوجية

حروب القبائل الأيديولوجية


08/11/2017


حين يتأمل البشر ماضيهم البعيد أو ماضيهم القريب، أو واقعهم المعيش، فإنهم يقيمون مع هذا كله علاقة ما، علاقة ذم أو مدح، علاقة تبنٍ أو إنكار، علاقة حب أو كره، غير أنّ كل هذه العلاقات لا تفضي إلا إلى مواقف، وليس إلى فهم وتفسير وتجاوز. والنقد في حقيقته عملية فهم  وتفسير وتجاوز، وهذه مهمة من أعقد المهام وأصعبها من جهة، وهي مهمة تقوم بها نخبة توافرت لديها العدة المعرفية المنهجية من جهة ثانية. كما يتطلب هذا تجاوز القيل النقدي اليومي القائم على المناكفة والذم والذي يحلو لبعض الأقلام أن تمارسه، ويبدو أن ليس باستطاعتها ممارسة سواه. 
ففي قراءتنا للخطابات الأيديولوجية العربية التي لم ينج منه مثقف عربي في مرحلة مراحل حياته، والتي مازال هناك نمط من المثقفين العرب غارقاً فيها، سنجد بأنّ الأيديولوجيات العربية الكبرى، مع كل ما فيها من اختلاف، هي ذات روح دينية واحدة. فعفلق وبكداش وقطب وسعادة الرموز الأربعة الدالة على الأيديولوجيات التي وجدت طريقها إلى الناس وإلى عالم المثقفين بخاصة، وما زالت حاضرة على نحو ما.
من أين تأتّت هذه الروح الدينية التي وسمت هذه الأيديولوجيات الآنفة الذكر؟
الجواب هو أن جميع هذه الأيديولوجيات تنطوي على الحقيقي المطلق الكامن فيها والذي أخذ شكل المقدس .فالمقدس في الأيديولوجيا يمنح الأيديولوجيا روحاً دينياً.
الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة بالنسبة للمؤسس وأتباعة فكرة مقدسة، ونافية لأية فكرة ما عداها، وبعث الأمة  حقيقة لا شك فيها من وجهة نظر أصحابها، فيما فكرة سوريا للسوريين والسوريون أمة تامة هي الفكرة المقدسة لأنها الحقيقة المطلقة عند سعادة. وقس على ذلك فكرة حتمية الانتقال إلى الشيوعية التي ورثها بكداش عن لينين وستالين، ولم تختلف الفكرة الإسلامية - السياسية التي طورها سيد قطب وطبع حركته بها، حيث نعيش عصر الجاهلية الذي يجب تجاوزه بفكرة الحاكمية لله بوصفها فكرة مقدسة مطلقة .

الأيديولوجيات العربية الكبرى، رغم ما فيها من اختلاف، ذات روح دينية واحدة، من عفلق إلى بكداش وقطب وسعادة

وكل هذه الأفكار تعينت بأحزاب أيديولوجية متقاتلة وهي: البعث، والصورة المصرية له في الناصرية، السوري القومي - الاجتماعي، الشيوعي، الإخوان المسلمون.
كان الصراع بين هذه الأحزاب دموياً. لم يكن صراعاً على السلطة فقط، وإنما صراع أفكار مقدسة متناقضة. حسبنا أن نذكر الصراع الدموي بين الشيوعي والبعث في العراق، والصراع بين السوري - القومي والبعث، بين البعث والأخوان المسلمين، وبين الأخوان المسلمين والناصرية ... وهكذا.
لقد حول أصحاب الحقيقة المطلقة أحزابهم إلى ديانات، والأهداف إلى مقدسات، والمقدسات إلى أداة نفي الآخر، بهذا الوعي الديني بالحياة والسياسية يموت الحوار، لأن المقدسات لا تتحاور .
القضية الأخطر تكمن في أنّ جميع هذه الأيديولوجيات ذات وعي - فاشي دكتاتوري بالسلطة كما دللت التجربة التاريخية. لقد حكم البعث بلدين من أهم بلدان العرب- سوريا والعراق، وأقام نظامين دكتاتوريين أمنيين عسكريين مغلفين بمبدأ الحزب الواحد. بل وظهر الصراع على السلطة داخلهما بأبشع صوره. صراع وصل حد إعدام الرفاق للرفاق. لم يتوانَ حكم الأسد من زج الرفاق في السجون لمدة ربع قرن، ليموت بعضهم داخل السجن. ويقال بأن صدام أعدم بيده رفاقه الذين اختلفوا معه عبر الكلام.
ولقد شهد اليمن الجنوبي حرباً بين القبائل الماركسية التي اصطف بعضها مع على ناصر، وبعضها الآخر مع سالم البيض. وكان أن أعدم الرفاق قبلها سالم ربيع علي.
وما أن جاء الإخوان المسلمون إلى السلطة حتى راحوا يأخونون مصر، وهكذا. ولم تختلف فاشية داعش والنصرة في الحكم عن أية فاشيات أخرى.
القضية لم تعد تتعلق بتحرير الأيديولوجيا من المقدس، بل التحرر من الأيديولوجيات.
فعملية النقد، عليها أن تطال جوهر هذه الأيديولوجيات لتجاوزها وليس لإصلاحها استناداً إلى رؤية واقعية تاريخية لعالمنا العربي.
ففكرة الحاكمية لله التي طرحها سيد قطب، وأصبحت حاضرة في جميع أشكال الأيديولوجيات الدينية من الإخوان إلى داعش، وهي غير قابلة للإصلاح، بل قابلة للتجاوز وإقامة القطيعة معها، إذ لا يمكن أن تقوم دولة على أساس ديني ولا على أساس فكرة الحاكمية لله. ولا يمكن أن تقوم دولة بناء على حكم الحزب الواحد مهما كانت أيديولوجيته.

قس على ذلك موت الفكرة الشيوعية التي لن تعود للحياة مرة أخرى، فالعدالة والإنصاف ما عادا مرتبطين بالدعوة إلى الفكرة الشيوعية. والأمر ينطبق على الرسالة الخالدة والسوريين أمة تامة .

لكن البديل عن هذه الأيديولوجيات الكبرى ليس بديلاً طائفياً كما هو حاصل في العراق، وكما هو حال الحوثيين في اليمن.

‏نشهد ظهور أخطر أشكال الأيديولوجيات الدينية – السياسية، كأحزاب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن، وداعش

إنّ استعادة أهداف العرب الدنيوية عبر السياسية المعبرة عن مصالح العرب، مصالح الإنسان العربي في خطاب خالٍ من الأوهام الأيديولوجية ذات الإهاب الديني هي مهمة المفكر المهجوس بحياة العرب ومستقبلهم الآن. أي إن نقد الأيديولوجيات لا تعني الإطاحة بتناول مشكلات الواقع العربي، بل في إعادتها إلى جدل الإمكانية والواقع والاختلاف والحوار والتفكير العقلي.
وما زاد الطين بِلة أننا، ونحن نشهد مأزق هذه الأيديولوجيات الكلاسيكية التي حركت الشارع العربي بمثقفيه، فإننا نشهد ظهور أخطر أشكال الأيديولوجيات الدينية – السياسية، كأحزاب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن وجند الله وداعش والنصرة والقاعدة، فضلاً عن قيام دولة ولاية الفقيه  الدينية في إيران التي تغذي هذا الانحطاط بشكل مباشر وغير مباشر.
المشكلة التي نواجه هي أنّ بعض الناس يقاتلون ويُقتلون ويَقتلون ويموتون من أجل أوهامهم، بل ويخربون الحياة.
على العقل أن يعتلي منصة الحياة، واضعاً نصب عينيه الكفاح من أجل الحياة. الحياة فقط، وليس جعل الحياة في خدمة الأوهام.
‏‫‬

 

الصفحة الرئيسية