"ليلة المعاطف الرئاسية".. رواية عراقية جديدة ترسّخ اتجاهاً متنامياً للأدب الوحشي

"ليلة المعاطف الرئاسية".. رواية عراقية جديدة ترسّخ اتجاهاً متنامياً للأدب الوحشي


22/09/2018

تبدو رواية الكاتب العراقي محمد غازي الأخرس (ليلة المعاطف الرئاسية) كما لو كانت رواية تخبّئ في متنها بذور روايات كثيرة وتدّخر وعوداً روائية أخرى. إنها من الروايات الناجحة التي تمنح كاتبها فرص كتابة مثل هذه الأعمال الأخرى المتوقَّعة، وتحفّز مؤلفها على مواصلة خطوط أخرى كثيرة هي نتاج لهذه الرواية التي صدرت مؤخراً عن دار الحكمة في لندن والتي حظيت باهتمام قرائي لافت داخل العراق.

موضوع الرواية نفسه يسمح بمثل هذا الوعد الذي يكون معه النص الأدبي مثل شجرة تحمل في عمقها بذور تكاثرها. فالرواية تتخذ من الحرب (ما قبل 2003) والعنف (ما بعد 2003) موضوعاً يستلّ منه الكاتب ثيمة (الخوف) ليبني منه عملا روائيا مركباً، شديداً بتوتراته، ومكتظاً بفواجعه، وآسراً باجتذابه القارئ وهو يتيه مع الكاتب وأبطاله الروائيين الساحقين والمسحوقين في دوامة من الرعب والخوف والسخرية السوداء، إنها (رواية وحشية) بكل ما يعنيه هذا التوصيف.

الرواية صدرت مؤخراً عن دار الحكمة في لندن

(ليلة المعاطف الرئاسية) رواية مركّبة على أكثر من مستوى؛ يندرج فيها البطل الراوي بدورين يكون معهما هو (القارئ) وهو (الكاتب)، والقارئ والكاتب هما صفتا الراوي وهما طبيعة دورَيه في السرد الروائي، بينما تتداخل الحياة في ثيمة العمل الروائي بتماس مباشر حيناً وبتقاطع واضح حيناً آخر ما بين زمنين؛ الحياة السياسية والحربية قبل 2003 وحياة العنف ما بعد هذا العام الجذري في تاريخ العراق المعاصر.

ليلة المعاطف الرئاسية سعي أدبي لبلوغ عالم الطريق إلى الانتصار على الخوف

ولهذا التداخل تأثير شديد على وقائع الرواية وهي تتوتر ما بين الزمن الروائي، الذي لا يزيد على 12 ساعة تبدأ من منتصف الليل وتنتهي ضحى اليوم التالي، بينما الزمن الواقعي ينيف على الثلاثة عقود، من ثمانينيات الحرب العراقية الإيرانية حتى ألفينيات عنف ما بعد 2003. لكن الشخصية الرئيسة في هذه الرواية هو (الجنرال كوكز) الجندي المتقدم في الرُتب والمسؤوليات أثناء حرب الثمانينيات وما رافقها من تمجيد للبطولة الخارقة للفرد هو شخصية مركبة من كثيرين وبما يتيح لها اختصار كثير من أدوار الوحشية والقسوة والكراهية والعنف، إنها أدوار يعلو شأنها في ظروف الهياج الحربي، وهي ظروف تخلق مثل هذه التقاليد وتدعمها وترسخها حتى تأخذ، بموجب رواية الأخرس، إطاراً مؤسسياً يتم بموجبه استحداث (فوج الانتصار على الخوف) الذي لا يلبث حتى يتحول إلى هيئة مدعمة بأبحاث ودراسات، وبعلماء وخبراء، تعمل على دراسة جوانب الخوف في الحرب لقتلها والتحرر منها وصولاً لشجاعة نظرية تجد صورتها ومثالها في الشعر والغناء والأهازيج.

في هذا العمل يكون القتلى والقتلة بانتظار لحظة بدت ممكنة من أجل الخلاص من عذاب متواصل

هذه الرواية هي سعي أدبي لبلوغ عالم الطريق إلى الانتصار على الخوف؛ حيث تنطلق دبابة الجنرال كوكز في ليل بغداد ومعه (القارئ) بعد محاولة إقناعه أو قسره على الخروج من منزله منتصف الليل من أجل مهمة المساعدة في فك شفرات كتاب شعري كان يجري البحث عنه وقد وضعته الشاعرة (الخاتون)، وهي عالمة نالت اهتماماً استثنائياً بعد بحثها للدكتوراه (المقاييس السوسيوكولوجية الثابتة لنمط الشخصية العراقية الشجاعة). فكان الطريق إلى الكتاب وفك رموز نصوصه الشعرية هو الطريق الذي اعتمده السرد الروائي للمرور بهوائل الحرب وبضحاياها ومآسيها.

اقرأ أيضاً: رواية آلموت.. رحلة أدبية في مجاهل الإرهاب المقدس

تتكدس جثث القتلى في معكسر لتواصل رحلتها مع عذاب لا ينتهي. في هذه الرواية يكون القتلى والقتلة بانتظار لحظة بدت ممكنة من أجل الخلاص من عذاب متواصل، إنها لحظة الوقوف على نصوص ذلك الكتاب وفك رموزه والانتهاء من ذلك، لكن ما أتعس الأثمان التي يجري تقديمها في هذا الطريق الموحش.

يستفيد الكاتب في عمله الروائي كثيراً من خبرة الشعر في تكريس عوالم وحشية مترعة بالخوف والترقب، وبخلاف المتوقع فإنّ هذه الأجواء الكابوسية التي تبدأ الرواية وتنتهي بها هي أجواء ينجح الأدب بجعلها مناخات سوداء تظل جاذبة وممسكة بقارئها.

اقرأ أيضاً: "وحوش بلا وطن".. السياحة في متحف الحرب

ويستفيد الكاتب من وقائع حرب الثمانينيات. فكرة القضاء على الخوف وتكريس الشجاعة وحدها والقضاء على الخائفين ليست فكرة مستعارة من الثقافة، من نيتشه مثلاً، إنها فكرة تجد امتداداتها بفرق الإعدام التي جرى اعتمادها بعد تقدم الحرب واستطالتها، وبعد وقوع عشرات الجنود ضحايا لعمل هذه الفرق التي كانت توضع في الخلف من القوات المتقدمة. الواقع أشد غرابةً من الخيال، لكن مهمة الأدب، في الرواية بشكل أساس، تظل مضاعفة في ضبط هذا الانسجام الصعب ما بين الواقع والخيال.، وهو ما تنجح به كثيراً رواية محمد غازي الأخرس.

وتنفتح الرواية بمسار آخر موازٍ لمسار الرحلة  الليلية للجنرال كوكز والقارئ بدبابة.. إنه مسار حيوي في وقوفه على حياة العنف الطائفي والإرهابي ما بعد 2003 وذلك من خلال حركة سيارة يمضي فيها التلميذ القديم مع مدير مدرسته السابق الذي استنجد به للمساعدة في تحري مصير أولاده المختطفين في ليل بغداد، هذا التلميذ القديم هو ذاته الراوي (القارئ، الكاتب) في محور دبابة الجنرال كوكز.

الأجواء الكابوسية التي تبدأ الرواية وتنتهي بها هي أجواء ينجح الأدب بجعلها مناخات سوداء تظل جاذبة وممسكة بقارئها

العالمان؛ عالما الحرب المنتهية والعنف التالي، متداخلان ويتماسان في أكثر من موضع بموجب منطق الرواية، مما يشحن العمل الروائي بتوترات عميقة تظل تديم مشاعر الخوف والترقب والانتهاء من ثم إلى مصائر مفجعة.

لا تستسلم الرواية للطبيعة الشعرية المفترضة في عمل كهذا، لكنها رواية تستثمر طاقة الشعر على الخيال، فكان خيالاً سائحاً في الفواجع والمآسي برؤية وحشية كابوسية جديرة بهذه الحياة، وكان الكاتب ماهراً في تطويع سخريته فلا يعرف القارئ ما إذا كان الكاتب وأبطاله في معرض السخرية أم النواح وهو ينجز من الوقائع ومن هذه الشخصيات عمله الروائي الأول والمبهر.

اقرأ أيضاً: "العراق الجديد" إذ ينقطع عن جذوره ويكره الموسيقى

رواية ليلة المعاطف الرئاسية تقدّم مثالاً حيوياً آخر في إطار الأدب والفن الوحشيين؛ حيث قدّم الشعر العراقي والتشكيل والرواية خلال الأعوام الأخيرة ما يؤسس ويرسّخ هذا الاتجاه في الإنتاج الإبداعي كصدى خلاق لحياة بقيت لعقود مأزومة بالقتل والخراب والفواجع، وهو اتجاه يتوقع له أن يمتد إلى الأدب والفن في بلدان عربية أخرى عانت وتعاني المصير ذاته في مطالع هذا القرن.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية