تيسير السبول: سار مع الوهم وانتحر بعد هزيمة العروبة

تيسير السبول: سار مع الوهم وانتحر بعد هزيمة العروبة


10/07/2018

"أنا يا صديقي
أسير مع الوهم، أدري
أيمم نحو تخوم النهايةْ
نبياً غريب الملامح أمضي
إلى غير غاية
"..

في صبيحة يوم خريفي هادئ، وفي منزله في حيّ ماركا شمال عمّان، أطلق تيسير السبول رصاصة الانتحار، لتكون زوجته "مي" أول المصدومين بالمشهد، مشهد انتحاره، الذي سرعان ما انتشر خبره وشكّل صدمةً للمجتمع الأردني والأوساط الثقافية والأدبية؛ أردنياً وعربياً.
كيف لا يشكّل انتحار السبول صدمةً وهو الشاعر الموهوب المبدع، صاحب النسب، ميسور الحال، المتزوج من طبيبة معروفة، والأب لطفلين في مقتبل العمر، غير أنّ طموح تيسير وآماله كانت مختلفة، لم يكن يطلب شيئاً من ذلك؛ بل كان يسعى لما هو أسمى، يركض وراء حلمٍ أكبر، وعندما تأكّد من تلاشيه، اختار الموت؛ إذ لم يجد من بعده معنىً للحياة!
النشأة.. بين الطفيلة والزرقاء
في قرية هادئة بين جبال الطفيلة جنوبي الأردن، ولد تيسير لعائلة ريفية العام 1939، وبين جبال الطفيلة الشاهقة ووديانها السحيقة، كانت نشأته الأولى؛ حيث أتمّ دراسته الابتدائية في إحدى مدارسها، انتقل بعدها مع شوكت، أخيه الأكبر، إلى الزرقاء، وهناك أتمّ دراسته الإعدادية، في فترة كانت الأحداث السياسية في الأردن والعالم العربي تتصاعد فيها وتتأجج، وفي العام 1955 اجتاحت الأردن مظاهرات احتجاجية واسعة عارضت مشروع انضمام المملكة إلى حلف بغداد، لتكون صدمة تيسير الأولى في تلك الفترة، عندما اعتُقل أخوه شوكت وأودع السجن بسبب نشاطه السياسي، الأمر الذي ترك أثراً في قلبه لشدة تعلّقه بأخيه، وكان دافعاً مبكراً لارتباطه بالقضايا القومية، ليكتب تيسير لاحقاً قصيدة "النسب الغائب" في أخيه شوكت.

اقرأ أيضاً: زكريا تامر: حدّاد شرس في وطن من الفخار

رحل مع أخيه للزرقاء حيث درس الإعدادية

ضَجِراً في بيروت
توجّه تيسير إلى عمّان، وهناك أتمّ دراسة المرحلة الثانوية في كليّة الحسين بالقرب من قلعتها؛ حيث تخرج العام 1957 متفوّقاً على مستوى العاصمة، ليحصل بذلك على منحة دراسية في الجامعة الأمريكية ببيروت.
توجه صاحب "أنت منذ اليوم" إلى بيروت لدراسة الفلسفة، وبعد مضيّ أشهر قليلة، كانت المفاجأة، لم يحتمل تيسير مجتمع الجامعة الأمريكية؛ فقد وجد طلاباً غير مبالين بالقضايا القومية المشتعلة آنذاك، منشغلين بطلب نجاحات شخصية رآها السبول "زائفة بلا معنى".
وبعد قراره بالانسحاب من الجامعة، الخطوة المفاجئة للأصدقاء، يسأله أقرب أصدقائه، صادق عبد الحق، عن السبب، فيجيبه: "إنها لا شيء يا صديقي، إنها كذب.. كذب.. وزيف.. وتمثيل.. صدقني إنها لم تكن إلا كذبة: أشباه رجال، وبنات فارغات…".
وبعد أعوام، وتحديداً في العام 1962، كتب تيسير قصيدته "الهندي الأحمر"، التي سخر فيها من المجتمع "البيروتي المتأمرِك".
اقرأ أيضاً: غسان كنفاني: رواية لم تكتمل

من بيروت إلى دمشق
توجّه تيسير من بيروت إلى دمشق، وهناك التحق بجامعة دمشق لدراسة الحقوق، وكان ذلك في نفس العام الذي أُعلن فيه عن الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة (1958)؛ حيث انضمّ لحزب البعث وتبنّى آراء ناقدة لسياسات عبد الناصر، وفي ذلك المناخ المتأجج كانت الحياة الطلابية قد بلغت ذروتها، والخلافات بين الطلاب القوميين والشيوعيين طغت على المشهد، واستدعت من كل طرف حشد ما لديه من تنظير ودعاية، وفي هذا المناخ أيضاً برزت الموهبة الشعرية لتيسير، فانطلق يعبر عن الهموم والآمال، التي تداخل فيها الذاتي بالجماعي يتعلق بقضايا الأمة ومصيرها، وكان تيسير لا يفصل بين خلاص الذات الفردي، ونهضة الأمة وتحقق الآمال القومية.

كانت هزيمة 67 بالنسبة لتيسير نهاية الآمال إذ لم يستطع خيانة أحلامه القومية فانتحر معبراً عن مأساة جيل بأكمله

بدأ تيسير يكتب الشعر في المجلات و دوريات الأشهر آنذاك كـ: "الثقافة"، و"الآداب"، و"الأديب"، خلال السنوات الجامعية الأربع (1958 -1962)، وقد جمعت حصيلة نتاجه الشعري في الجامعة لاحقاً في ديوانه الوحيد "أحزان صحراوية".
وكانت قصيدته "غجرية" من أشهر قصائده التي نشرها خلال تلك الفترة؛ حيث كتبها في طالبة جميلة أُعجب بها، ونشرت في مجلة الآداب اللبنانية، إذ يقول في مطلعها:

"وحشة الليل على العينين تجثم..
ونداء الغاب في البؤبؤ مبهم..
غجرية..
‏كعمود النار قد يتلوى
وشفاه مترعات عنجهية
".

برزت موهبة تيسير الشعرية خلال سنوات دراسته الجامعية في دمشق

العودة إلى الأردن
تخرّج تيسير من جامعة دمشق العام 1962، ليعود بعدها إلى الأردن مع حصوله على وظيفة في دائرة ضريبة الدخل، وتزوج من الطبيبة مي اليتيم، وهي البحرينية من أم دمشقية، وكان تعارفهما في دمشق، وقد أصبحت مي من أشهر الأطباء في مدينة الزرقاء لاحقاً، ورزق منها تيسير بطفلين: صبا وعتبة.

لم يحتمل السبول مجتمع الجامعة الأمريكية فقد وجد طلاباً غير مبالين بالقضايا القومية منشغلين بنجاحات رآها زائفة

قرر تيسير ترك الوظيفة الحكومية، وبدأ التدريب في المحاماة، ثم قطع تدريبه وانتقل مع عائلته للعمل في البحرين ثم السعودية.
لم يحتمل السبول طول الغربة والبعد عن النشاط السياسي والثقافي في الأردن، فقرر العودة العام 1964، وأكمل تدريبه في المحاماة، ثم فتح مكتباً في الزرقاء، قبل أن تتاح فرصة المشاركة كضيف في الإذاعة الأردنية، ثم فرصة تقديم برنامجه الأدبي "مع الجيل الجديد"؛ حيث قرر ترك المحاماة والاستقرار في وظيفته الجديدة في الإذاعة، والتي عمل بها حتى وفاته العام 1973.

مي وتيسير مع طفليهما

الهزيمة.. صدمة جيل!
في صبيحة الخامس من حزيران (يونيو) العام 1967، حلّت الكارثة، الضفة الغربية، والجولان، وسيناء، كلّها تسقط خلال أيام في أيدي جيش الاحتلال، وحالة من الصدمة والذهول تصيب الأمّة؛ لقد تسببت الهزيمة بصدمة وجدانية كبرى لجيل بأكمله، وبالنسبة لتيسير، كانت الهزيمة نهاية الأحلام والآمال الكبرى؛ حيث عجز عن مواصلة الكتابة بعدها.

كانت هزيمة العام 67 بالنسبة لتيسير نهاية الأحلام والآمال الكبرى

أحزان صحراوية
في العام 1968 نشرت دار النهار في بيروت ديوانه "أحزان صحراوية"، والذي جمع حصيلة إبداعه خلال سنوات الجامعة، وكان ديوانه الأول والأخير؛ فقد خيّم شعور الهزيمة المرّ على حياة تيسير، وشعر بالعجز عن كتابة أيّ نصّ بعدها، لقد فقد الجدوى والمعنى بعد أن انتهت الآمال والأحلام. عبّر تيسير في رسائله مع صديقه الروائي العراقي فؤاد التكرلي خلال عامَيْ 1969 و1970 عن هذه الحالة من عدم القدرة على ممارسة الكتابة والعزوف عنها.
ورغم هذا التوقف إلا أنّ هذا الديوان جعل من تيسير رائد الشعر الحرّ في الأردن، في نفس الفترة التي كان فيها "علي أحمد سعيد" (أدونيس)، رائد هذا الاتجاه في سوريا.

اقرأ أيضاً: "مذيع النكسة" أحمد سعيد يرحل في ذكرى الهزيمة
روايته الوحيدة "أنت منذ اليوم"، والتي فازت بجائزة دار النهار للرواية

أنت منذ اليوم
وفي العام 1968 أيضاً، كتب السبول روايته الوحيدة "أنت منذ اليوم"، والتي فازت بجائزة دار النهار للرواية، التي كانت تعتبر أهم جوائز الإبداع العربية آنذاك، وقد بثّ فيها تيسير سيرته الذاتية عبر بطل الرواية "عربي"، الذي جاء اسمه دلالةً على الهموم والقضايا التي آمن بها.
عبرت الرواية عن الحالة العربية وصدمة الهزيمة، وقد اشتق تيسير اسمها من مطلع النشيد الوطني الشهير في الستينيات: "أنت منذ اليوم لي يا وطني…". وفي نهاية الرواية، يصرخ البطل قائلاً: "ما لي نفس…"، وكأنّ تيسير يتحدث عن نفسه وعن حالة فقدان المعنى والأمل من كل شيء بعد الهزيمة.

كانت رواية السبول "أنت منذ اليوم" من بواكير أدب التشاؤم الذي سيطر على المشهد الأدبي العربي تعبيراً الهزيمة

وكانت هذه الرواية من بواكير أدب التشاؤم واليأس والحزن، والذي سيطر على المشهد الأدبي العربي في نهاية الستينيات وخلال السبعينيات، تعبيراً عن حالة الهزيمة وفقدان الأمل، ونهاية مرحلة الآمال القومية الكبرى التي سيطرت خلال الخمسينيات وحتى العام 1967.
حرب رمضان.. انتهى كل شيء!
تركت هزيمة العام 1967 في نفس تيسير حزناً عميقاً حتى آخر حياته، فظلّ طوال ستة أعوام يتملكه اليأس والإحباط، وفي العام 1973، ومع اندلاع أحداث حرب رمضان، ومع تقدم المصريين واجتيازهم خطّ بارليف، بدأت لوهلة تعود الحياة للتدفق في وجدان السبول، وبدا أنّ الأمل يمكن له أن يبعث من جديد، غير أنّ لقاء المصريين بالإسرائيليين عند "الكيلو 101"، وإعلان بدء المحادثات بين الطرفين، وبعدما تيّقن من أنّ النصر المصري لم يكن "نصراً" عربياً عاماً، بقدر ما كان "استعادة" أراضٍ، تقف عند حدود سيناء، لا تجاوزها، فقد الأمل مجدداً، ولكن هذه المرّة حملت الأحداث رسائل اليأس وفقدان الآمال بالمطلق.

بالنسبة لتيسير كانت تبعات حرب العام 1973 رسالة فقدان الأمل بالمطلق

 الانتحار.. هزيمة جيل بأكمله!

وفي ليلة الخامس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، كان تيسير في سهرة مع صديقَيْه: عدي مدانات، وفايز محمود، وكانوا يخططون ثلاثتهم للانتحار جماعةً، ويتدربون على إطلاق رصاصة من مسدس فارغ، وبعد انتصاف تلك الليلة، غادر عدي عائداً إلى منزله، ثم أوصل تيسير، فايز، إلى منزله، وبعد عودته، كانت زوجة السبول قد غادرت المنزل إلى عملها في مستشفى ماركا العسكري القريب من منزلهما، فانتظرها تيسير لحين عودتها في الصباح، وعندما عادت جلس إلى جانبها، في لقاء أخير بينهما، وحدثها بآخر كلماته، ممسكاً بقلادتها المكتوب عليها لفظ الجلالة "الله"، وسألها: "تؤمنين به؟"، قالت: نعم. أخبرها وقتها أنه ليس لديهم غاز وطلب منها الذهاب إلى منزل الجيران كي تستخدم هاتفهم وتتصل بوكالة الغاز، وعندما خرجت، أخذ ينظر إليها من النافذة وما لبث أن أطلق الرصاصة على رأسه، سمعت دويّها، وكانت أول المفجوعين.
قصيدته الأخيرة، التي وجدتها أخته في متعلقاته، نشرت لاحقاً تحت عنوان "بلا عنوان" عبّر فيها عن آخر ما جال في خاطره من معانٍ، يقول في مطلعها:
"أنا يا صديقي
أسير مع الوهم، أدري
أيمم نحو تخوم النهايةْ
نبياً غريب الملامح أمضي
إلى غير غايةْ
".

هكذا كان تيسير، حالماً بفجر العروبة والانتصار، والعدالة الاجتماعية، وحين نزلت الهزيمة وتبددت الآمال، لم يستطع خيانة أحلامه، فقرر مغادرة الحياة عن كامل وعي وإرادة، ليعبر مشهد انتحاره عن مأساة جيل بأكمله.

الصفحة الرئيسية