الهجرة غير الشرعية.. جغرافيا سماسرة الموت

تحقيقات

الهجرة غير الشرعية.. جغرافيا سماسرة الموت


02/07/2018

تحقيق: خالد بشير


هل تبدد قوارب الموت أوهام الوصول إلى الجنة؟

ظلّت سفينة "لايف لاين"، التي تقلّ على ظهرها 239 مهاجراً، عالقةً في مياه البحر المتوسط الدولية عدّة أيام، بعد أن رفضت كل من فرنسا وإيطاليا ومالطا منحها الإذن بالرسوّ في أحد موانئها؛ حيث صرّح وزير الداخلية الإيطالي: "الوصول إلى إيطاليا مستحيل، وأريد أن انتهي من ممارسات التهريب والمافيا"، وصدرت تصريحات مماثلة عن الجهات الرسمية الفرنسية والمالطية.
حرّكت هذه السفينة قضية الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي من جديد، ما دفع بها لعقد قمة مخصصة في بروكسل لمناقشة القضية المتفاقمة في السنوات الأخيرة، والتي تعتبر إحدى أهم التحديات التي تواجه القارّة العجوز.
قرارات متشددة
جاءت قرارات القمة مشددةً على رفض استقبال المزيد من المهاجرين؛ وأكدت على تشديد الحراسة والرقابة على حدود دول الاتحاد الأوروبي الخارجية، وعلى إلقاء القبض على قوارب وبواخر اللاجئين وإرجاعها إلى أماكن قدومها، باعتبار أنّ ذلك يوصل رسالة إلى المهربين بإفشال عملهم ونهاية مصدر دخلهم.
كما خرجت القمة بقرار يقضي بإنشاء مراكز استقبال إقليمية للاجئين، خارج الاتحاد الأوروبي، من دون تحديد الأراضي التي ستقام عليها، وإن كان المكان المتوقع هو دول شمال إفريقيا، وهو ما دفع، حتى الآن، بجهات رسمية في تونس إلى التعبير عن رفض وجود المنصّات على أراضيها.

حرّكت سفينة "لايف لاين" قضية الهجرة إلى دول الإتحاد الأوروبي من جديد

رحلة نحو الحلم
تتعدد الأسباب التي تدفع بالمهاجرين لمغادرة أوطانهم والتوافد إلى القارّة بطرق غير شرعية، ويبقى المحرّك الأساس وراء هذا الخيار الصعب هو الظروف الأصعب التي تعيشها اقتصادات بلدانهم، فيكفي النظر إلى الفرق بين مجموع حجم الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لاقتصادات دول الاتحاد الأوروبي الـ 28 والبالغ نحو 17.3 ترليون دولار، والتي يبلغ مجموع تعداد سكانها نحو نصف المليار، وبين مجموع حجم الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد الإفريقي الـ 55 مجتمعةً، والذي لا يتجاوز 2.24 تريليون دولار، مع عدد سكان يتخطى الـ 1.3 مليار نسمة، بل إنه يقلّ عن حجم الاقتصاد الفرنسي وحده، والبالغ نحو 2.5 تريليون دولار، مع عدد سكان لا يتجاوز الـ 66.9 مليون نسمة!
وبطبيعة الحال فإنّ حجم الناتج المحلي الإجمالي ينعكس بانخفاض نسب البطالة، وارتفاع معدّلات الأجور، وارتفاع حصيلة الضرائب وبالتالي مستوى الخدمات والرفاه المقدّم من الدولة، ما يجعل من القارّة الأوروبية "جنة على الأرض" قياساً بما هو الحال عليه في البلدان النامية، التي تعاني من ارتفاع مستويات البطالة، وتدني الأجور، وغياب وضعف الخدمات والرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة. كلّ ذلك يفسّر كيف تغدو رحلة الوصول إلى أوروبا رحلة للوصول إلى "الجنة الأرضية".

حرّكت سفينة "لايف لاين" قضية الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي من جديد

ولا تقف الأسباب الدافعة للهجرة عند الاقتصاد، وإنما تتعدى ذلك إلى المستوى السياسي؛ حيث تعطّل مسيرة الإصلاح والتنمية في معظم البلدان النامية، وارتفاع مستويات الفساد، مع اليأس والإحباط من إمكان التغيير، وتراجع الثقة الشعبية في القادة والأحزاب، ما ينعكس في ضعف مستويات الإقبال على المشاركة السياسية، وهو ما يرسّخ القناعة لدى فئات الشباب بأنّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة لا يمكن أن تتغير ضمن المدى المنظور، وأن شبابهم سينتهي قبل أن يحدث أي تغيير يرجونه.
وينضاف إلى الأسباب: الإعلام والدعاية، وما لها من أثر في تشكيل وتعزيز حضور الصورة الجاذبة للقارة العجوز، وخصوصاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يتم التعرض بشكل متكرر لمشاهدة صور الرفاه في الاقتصادات الغنية، وخصوصاً مع مشاهدتهم وسماعهم أخبار وأحوال من يعرفون ممن تمكنوا من الذهاب والاستقرار في المَهجر، ويغذي كل ذلك دافع الأمل لدى المهاجر بإمكان أن تكون الهجرة سبباً لإحداث التغيير الجوهري في حياته الصعبة. 
"الشنغن".. الدخول لم يعد سهلاً
لم تعرف أزمة الهجرة السريّة تصاعداً لافتاً إلا مع مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، ويعود ذلك بالأساس إلى توقيع دول اليتحاد اتفاقية "الشنغن" العام 1985، والتي ألغت عمليات المراقبة والقيود على حركة انتقال المواطنين داخل الاتحاد، بالتزامن مع تشديدها على الحدود الخارجية للقادمين من خارجه.
وهو ما أدى إلى تعقيد إجراءات السفر والدخول إلى القارّة، وبعد أن كان جواز السفر كافياً لمواطني الكثير من الدول حول العالم لدخول الدول الأوروبية، أصبح ذلك يتطلب الحصول على تأشيرة "الشنغن"، والتي وُضعت لها شروط وقيود ليست سهلة، ما دفع الراغبين بالهجرة إلى اللجوء إلى الوسائل غير الشرعية والهجرة السريّة.
تصاعدت أعداد المهاجرين سريّاً سريعاً خلال السنوات الأولى التالية، وفي العام 1995، تحرّك الاتحاد الأوروبي وأصدر قانوناً للحدّ من تدفق المهاجرين إلى أراضيه، رافقه تشديد الإجراءات الأمنية المضادة، ولكن حركة الهجرة غير الشرعية استمرت بالتصاعد، ما دفع بالاتحاد إلى الاتجاه نحو تعزيز التنسيق وتوقيع الإتفاقات الأمنية مع الدول التي ينطلق منها المهاجرون.

شددت اتفاقية "الشنغن" على مراقبة الحدود الخارجية لدول الاتحاد وقّيدت إجراءات دخول القادمين من خارجه

وفي العام 2004، قُدّرت حاجة دول الاتحاد الأوروبي من المهاجرين بـ 44 مليون مهاجر خلال الخمسين السنة القادمة، ولكن ونتيجة لعوامل عدّة في مقدمتها صعود أحزاب اليمين، فضلّ الاتحاد في العام ذاته الاتجاه نحو التوسّع ليصل عدد دوله إلى 24 دولة، حيث تم ترجيح خيار استقبال العاملين من شرق أوروبا وتفضيلهم على القادمين من إفريقيا، وذلك لاعتبارات تتعلق بالهوية بالدرجة الأولى. تزامن ذلك مع إقرار قمة إشبيلية العام 2004 فرض إجراءات وعقوبات على الدول التي تتساهل مع الهجرة غير الشرعية.
ازداد التنسيق الأمني مع دول عبور المهاجرين، تحكمت حكومات دول شمال إفريقيا بعمليات الهجرة، وشكلت ورقة ضغط من قبلهم في مواجهة الاتحاد الأوروبي، الذي استجاب الدول لمطالب هذه الدول عبر إبرام اتفاقيات التعاون المختلفة. وهو ما ظهر في تناقص أعداد المهاجرين بفعل التنسيق والتعاون الأمني، حتى وصلت العام 2010 في ليبيا إلى 234 مهاجراً فقط.
ولكن، ومع اندلاع أحداث "الربيع العربي"، وما أدت إليه من موجات اللجوء السوري، وانهيار المؤسسة الأمنية في ليبيا وتراجعها في تونس، عادت أعداد المهاجرين لتتصاعد وتتضاعف على نحو غير مسبوق حتى وصلت في العام 2015 إلى مليون مهاجر.

قيدت "الشنغن" (عام 1985) إجراءات الدخول للقادمين من خارجها

ما بعد 2011.. الفيضان
تشير التقارير الصادرة عن "المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود" المعروفة بـ "فرونتكس" إلى أنّ أعداد المهاجرين غير الشرعيين القادمين عبر المتوسط من شمال أفريقيا قد وصل خلال العام 2013 إلى 100 ألف مهاجر غير شرعي، بينما ارتفع في العام 2014 ليصل إلى 274 ألف مهاجر، وفي العام 2015 حطّمت أعداد المهاجرين كلّ الأرقام لتصل إلى حوالي المليون مهاجر خلال عام واحد، كان معظمهم من المهاجرين السوريين القادمين عبر اليونان من تركيا.

اقرأ أيضاً: مسؤولون إيطاليون يحذرون من تسلل مقاتلي داعش بين المهاجرين
وتشير تقديرات "اليوروبول" إلى أنّ أرباح عصابات الهجرة غير الشرعية قد وصلت إلى حوالي الـ 5 مليارات جنيه إسترليني مع بلوغ موجة الهجرة ذروتها خلال العام 2015، قبل أن تنخفض إلى حدود الـ 1.6 مليار في العام التالي، بفعل تراجع أعداد المهاجرين وتزايد الاجراءات الأمنية. أما أكثر ثلاث دول تتم الهجرة منها، فهي: المغرب (باتجاه إسبانيا)، وتونس وليبيا (باتجاه ايطاليا).

من المغرب إلى إسبانيا
تعتبر المغرب من أكثر الوجهات تفضيلاً لانطلاق رحلات الهجرة؛ حيث يتم العبور نحو أوروبا بأكثر من اتجاه، قد يكون أقصرها هو العبور إلى إحدى المدينتين: "سبتة"، و"مليلة"، الواقعتين على الساحل المغربي، ولكن التابعتين للدول الإسبانية. أو يتم الانطلاق من إحدى النقاط على الساحل الشمالي تجاه السواحل الإسبانية الجنوبية؛ حيث يقترب الساحلين من بعضهما حتى يكادا يتلامسان في مضيق جبل طارق والذي تبلغ أقصر مسافة بين ضفتيه 14 كلم. كما تعتبر جزيرة "الصفيحة" الإسبانية من الوجهات المفضلة للمهاجرين، نظراً لقربها الشديد من "الحُسيمة" في الريف المغربي؛ حيث تُعرف مغربياً باسم "صخرة الحُسيمة" لقربها من ساحلها.

اقرأ أيضاً: بعد "مأساة تونس".. غرق عشرات المهاجرين في خليج عدن
وفي هذا السياق، يشير الباحث الاقتصادي المغربي، عبد الإله سطي، في تصريح لـ "حفريات" إلى أنّ "سواحل مدينة طنجة والعرائش والقصر الصغير بشمال المغرب تعتبر البؤر الرئيسية التي يستخدمها سماسرة الهجرة السرية من أجل تنفيذ حملات الهجرة التي تستغل الظروف الجوية والهفوات الأمنية لفرق خفر السواحل، من أجل اختراق الأقاليم الدولية والدخول للأراضي الإسبانية".
ونتيجة لتزايد الرقابة على السواحل الشمالية اتجه عدد متزايد من المهاجرين نحو خط جديد، وهذه المرة باتجاه الجنوب، وبالتحديد من سواحل مدينتي "طرفاية"، و"طانطان"، جنوبي المغرب، بسبب ضعف المراقبة على حدودها البحرية؛ حيث تنطلق الرحلة من هناك إلى جزر الخالدات (جزر الكناري)، وتصل تكلفتها على الراكب الواحد إلى 10 آلاف درهم مغربي (حوالي 950 دولاراً).

وإذا تتبعنا هذا الخط الأخير، فإنّ المرحلة الأولى فيه تكون بقيام السماسرة بتجميع زبائنهم في مختلف المدن المغربية، ثم السفر بهم عبر حافلات أو شاحنات إلى جنوب المغرب، وتحديداً إلى مدينتي "طرفاية" و"طانطان"، ثم تنتظر المافيا حلول الليل للقيام بتهجير أعداد كبيرة؛ حيث يجري تجميعهم وتكديسهم في قوارب صغيرة والإبحار بهم نحو "الكناري".

وتبقى الوسيلة الأشهر للهجرة هي القوارب المطاطية الصغيرة، وأحياناً تتم الهجرة عبر الاختباء في الشاحنات التي تقلّ بضائع، ومؤخراً تم الكشف عن وسيلة جديدة، وهذه المرة بواسطة "الجيت سكي"، وذلك عبر تنظيم رحلات خاصة من مدينة "القصر الصغير" نحو شاطئ "طرفاية" في إسبانيا؛ حيث لا تتجاوز مدة الرحلة الـ 15 دقيقة، وتصل كلفتها إلى 40 ألف درهم (ما يعادل 4000 دولار).

أصبحت ليبيا الوجهة المفضلة لطالبي الهجرة السريّة بعد انهيار مؤسسات الدولة العام 2011

ومعظم المهاجرين المنطلقين من السواحل المغربية، ليسوا من المغرب، بل هم بالغالب مهاجرين أفارقة (من دول جنوب الصحراء) يدخلون إلى المغرب من منافذ مختلفة وبطرق غير شرعية، حيث يوجد في المغرب بحدود 25 – 40 ألف مهاجر غير شرعي من دول جنوب الصحراء، وعن ذلك يقول سطي: "أضحت مافيات التهجير مختصّة في استقطاب المهاجرين المنحدرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وذلك لما يشكّله من دخل مادي كبير نظراً للأفواج العديدة التي تأتي من هذه البلدان رغبة في العبور إلى الدول الأوروبية".
وتبلغ نسبة المغاربة من المهاجرين حوالي الخُمس، وفي حزيران (يونيو) من العام 2013 عمدت دول الاتحاد الأوروبي إلى توقيع اتفاقية مع المغرب، يتم بموجبها تسهيل عملية إعطاء تأشيرات الدخول والانفتاح أكثر على الهجرة المنظمة مقابل تصدي المملكة للهجرة غير الشرعية.
وتشير تقارير وزارة الداخلية الإسبانية إلى أن الهجرة السرية من المغرب حطمت كل الأرقام القياسية العام 2017 مقارنةً مع السنوات العشر الماضية. وهو ما تواصل في العام الجاري، حيث أشارت صحيفة "لا فانغارديا" الإسبانية في تقرير لها، أن عدد المهاجرين الذين تمكنوا من الوصول إلى السواحل الإسبانية قادمين من المغرب قد ارتفع بنسبة 17% خلال الأشهر الثلاث الأولى من سنة 2018. وفي شباط (فبراير) 2018.. سجّل "مرصد الشمال لحقوق الإنسان" 1712 محاولة عبور نحو أوروبا انطلاقاً من المغرب، نجح منهم 280 في الوصول في حين تم إيقاف الباقين.
وعن التحديات التي تفرضها مسألة الهجرة في المغرب، أوضح سطي، بأن مسألة الهجرة في المغرب "تشكل واحدة من المشاكل العويصة التي تعترض مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المغرب؛ لما تشكله من انعكاسات سلبية سواء على مستوى أمن الحدود وإشكالية تصدير المتطرفين أو على مستوى هجرة الكفاءات من جهة أخرى".

صخرة الحُسيمة كما تبدو من الشواطئ المحيطة بالحُسيمة

الجزائر.. أرقام متنامية
اشتهرت في الجزائر أغاني عديدة تتحدث عن الهجرة والمهاجرين، لعلّ أشهرها الأغنية  يا الرَايح وين مسافر تروح تعيّا وتولي"، التي كتبها وغنّاها المطرب الشعبي الجزائري دحمان الحراشي، ثم اكتسبت شهرة واسعة بعدما غناها عام 1993 رشيد طه، مغني الراي الجزائري الشهير. كما نجد أغنية "وهران"، ومطلعها: "وهران وهران رحتي خسارة... هجروا منك ناس شطارى" لمغني الراي الشهير الشاب خالد.
وبالرغم من أنّ الجالية الجزائرية الأكبر موجودة في فرنسا، إلا أن الجغرافيا تفرض خطوط هجرة لا توصل مباشرة إلى فرنسا؛ حيث تنطلق معظم الرحلات إما من سواحل المدن الشرقية إلى سواحل جزيرة سردينيا الإيطالية، أو من سواحل المدن الغربية، مثل: وهران وتلمسان، إلى سواحل إسبانيا الجنوبية الشرقية، مثل سواحل ألميريا.

اقرأ أيضاً: مقتل 3116 مهاجراً في البحر عام 2017
وتعتبر أرقام المهاجرين المنطلقين من الجزائر أقلّ مما هو الحال عليه في جارتيْها "تونس" و"المغرب". وقد سنّت السلطات الجزائرية قوانين صارمة سنة 2008 لمحاربة الهجرة غير الشرعية؛ حيث تم تجريم كل من يحاول الهجرة بالسجن لفترة من 3 إلى 9 أشهر، أما عناصر شبكات الهجرة فتصل عقوبتهم إلى 5 أعوام سجن.
أما عن أحدث الأرقام والتقارير، فقد أعلنت السلطات في أيلول (سبتمبر) من العام 2017، عن إيقاف أكثر من 600 شاب جزائري، وحوالي 2630 منذ بداية العام.
وفي يوم 26 من الشهر ذاته، نشرت الصحف الإيطالية خبراً عن وصول قرابة 100 مهاجر جزائري إلى سواحل سردينيا، أعقب ذلك تصريح حاكم سردينيا، فرانشيسكو بيغليارو، بأن "موجة المهاجرين قد تنامت حيث تجاوزت الأرقام المسجلة في العام 2017 أعداد المهاجرين خلال السنوات السابقة".
فيما بلغ عدد المهاجرين من الجزائر إلى إسبانيا خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2017 1244 مهاجراً.
من تونس إلى إيطاليا
أثار حادث قرقنة الأخير (بتاريخ 9/6/2018) مجدداً مسألة الهجرة السرية في تونس؛ حيث راح ضحيته حوالي 110 غرقى، ما جعل منه الأسوأ في تاريخ الهجرة السريّة المنطلقة من تونس.
ويبلغ طول الساحل التونسي نحو 1300 كلم، ولا تبعد عنه كثيراً سواحل الجزر الإيطالية؛ حيث تنطلق رحلات الهجرة السريّة من السواحل الشرقية التونسية تجاه جزيرتي "لامبيدوزا" و"صقلية" الإيطاليتين، أو تجاه جزيرة مالطا (دولة مستقلة وعضو في الاتحاد الأوروبي)، ومن السواحل الشمالية للبلاد تجاه جزيرة "سردينيا" الإيطالية.

تُعلن السلطات المصرية عن ضبطها بشكل تامّ للهجرة غير الشرعية منذ حادثة غرق القارب في أيلول العام 2016

ويفضل الكثير من التونسيين الراغبين بالهجرة الدخول نحو ليبيا ومن ثم الانطلاق منها، نظراً للحالة الأمنية وغياب الرقابة بعد نهاية حكم نظام القذافي. ولكن ذلك لم يمنع الكثير منهم من الانطلاق من نقاط على السواحل التونسية، خاصّة مع وجود حالة من الضعف والتواطؤ الأمني خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد انهيار نظام بن علي الأمني في تونس؛ حيث فقدت أجهزة الأمن علاقاتها السابقة مع عصابات التهريب.
وفي آذار (مارس) من العام 2014 وقعت دول الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع تونس، مماثلة للتي وقعتها قبل ذلك بعام مع المغرب، بحيث يتم بموجبها أيضاً تسهيل منح تأشيرات الدخول للتونسيين مقابل التصدي للهجرة غير الشرعية. ويشار إلى أنّ أعداد التونسيين الذين تقدموا بطلبات الحصول على تأشيرة "شنغن" قد وصل خلال العام 2012 إلى أكثر من 125 ألف شخص، وهو ما مثل ارتفاعاً بنسبة 14% عمّا وصلت إليه الأعداد خلال العام 2010، في مؤشر على تزايد رغبة الشباب التونسي وسعيه للهجرة. 
ليبيا.. الطريق الأمثل
كما تقدم، وصلت أعداد المهاجرين المنطلقين من ليبيا العام 2010 إلى 234 مهاجراً فقط! ولكن الأمور انقلبت تماماً بعد انهيار مؤسسات الدولة الليبية مع سقوط نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي؛ فنتيجة لحالة الانفلات الأمني التي تمر بها البلاد خلال السنوات الأخيرة، تضاعفت الأعداد على نحو كبير، فأصبح طالبو الهجرة السرية يتجهون إليها من جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط باعتبارها منطقة عبور رخوة.
وتشير التقديرات إلى عبور نحو 600 ألف مهاجر من ليبيا إلى إيطاليا خلال الفترة من العام 2014 وحتى العام 2018. وفي آذار (مارس) من العام 2015، أعلنت المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود (فرونتكس) التابعة للاتحاد الأوروبي بأن نسبة المهاجرين غير الشرعيين قد زادت خلال شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) من العام 2015 بنسبة تصل إلى 250% مقارنة بنفس الفترة من العام 2014، وقد عزا فابريس ليجري، رئيس المنظمة، سبب الارتفاع إلى زيادة أعداد الوافدين من ليبيا إلى جنوب إيطاليا وتحديداً جزيرتي صقلية ولامبيدوزا إضافة إلى جزيرة مالطا، حيث أشار إلى أن: "ليبيا تعيش حالة من التفكّك، وقد أصبحت الطريق الأمثل للهجرة غير الشرعية". وخلال العام 2016، وصل عدد المهاجرين من السواحل الليبية إلى جزيرة مالطا إلى حوالي الـ 300 ألف مهاجر، القليل منهم من الليبيين، ومعظمهم من دول إفريقية وشرق أوسطية.
ويأتي المهاجرون إلى ليبيا من القرن الإفريقي (إثيوبيا، إرتيريا، الصومال، السودان)، عبر التجمع بدايةً في مدينة "كسلا" السودانية، ومن ثم يقوم مهربون سودانيون بنقلهم إلى "دارفور" غربي السودان، بتكلفة لا تتجاوز الـ 30 – 80 دولاراً، ليصلوا منها إلى الحدود الليبية – السودانية عبر طرق ترابية غير ممهدة وفي شاحنات متهالكة، ويقدم المهربون رشاوى لحرس الحدود السوداني في حال تصادفوا معهم، بعدها يتم الانتقال من المنطقة الحدودية إلى "الكُفرة"، في شاحنات يتكدّس فيها المهاجرين بالعشرات، يشرف على نقلهم مهجِّرون من قبيلتي "التبو" و"الزوية"، بالعادة ما يكونون تابعين لمليشيات مسلحة أو تحت حماية ميليشيات معينة يدفعون لها إتاوات مقابل الحماية، بتكلفة بحدود الـ 150 دولاراً.
أما المهاجرون القادمون من النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، فيتجمعون بدايةً في مدينة "أغاديس" شمال النيجر، ثم يقوم مهربون من الطوارق أو من تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي بنقلهم من مدن الجنوب الليبي (القطرون، أم الأرانب) إلى الشمال، وتكلّف رحلة العبور من الجنوب إلى الشمال المهاجر من 150 إلى 300 دولار.
في حين يدخل المهاجرون القادمون من نيجيريا، والكاميرون، إلى ليبيا عبر المرور بـتشاد، أما التوانسة فيدخلون بشكل طبيعي من المنافذ الحدودية من تونس، بينما يتسلل القادمون من المغرب والجزائر عبر طرق التهريب الغربية والجنوبية.
وبعد الدخول إلى ليبيا يتم اعتقال كل من لا يملك المال من قبل المليشيات، حيث يتم استغلالهم ويعملون تحت السُخرة، أما من يملك المال، فتقوم المليشيات بإيصالهم إلى مدن الساحل الليبي، وتضطر نسبة كبيرة من المهاجرين إلى العمل لمدة تتراوح بين أشهر إلى سنوات في ليبيا، بغية جني المال اللازم.
وفي الساحل الليبي، يتجمع المهاجرون في مزارع، واستراحات، في الأغلب كانت شاليهات وأماكن استجمام وممتلكات لرجال النظام السابق، في مدن: الخمس، القربوللي، طرابلس، صبراتة، زوارة، وبعد اكتمال العدد يصعدون إلى القوارب للوصول إلى جزيرة لامبيدوزا أو صقلية في إيطاليا في رحلة تستغرق من يوم إلى أربعة أيام حسب القارب والظروف الجوية ومسار الرحلة..وتبلغ تكلفة الرحلة الأخيرة من 700 – 3000 دولار (حسب المركب والجهة). وتتراوح تقديرات أرباح المليشيات في ليبيا سنوياً (خلال السنوات الأخيرة) بين 500 – 1000 مليون دولار أمريكي.
وقد تضاعفت الأخطار والتهديدات الأمنية الناجمة عن الهجرة غير السريّة القادمة من ليبيا مع قيام عدد من الميليشيات الجهادية (كميليشيا أنصار الشريعة) بدسّ عناصر تابعة لها بين المهاجرين. وفي أيلول (سبتمبر) 2017، أعلنت وزارة الدفاع الإيطالية إنشاء قاعدة وإرسال بعثة عسكرية إلى ليبيا لمساعدة حرس الحدود الليبي في فرض الرقابة والتصدي لمحاولات الهجرة.

خطوط الهجرة القادمة من مختلف الدول الإفريقية عبر ليبيا ومن ثم إلى إيطاليا

مصر.. هل انتهت الظاهرة؟
يؤكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على اعتبار ملف الهجرة وإنهائه من أهم المنجزات في عهده. وقد تصاعد الاهتمام الرسمي بهذا الملف منذ فاجعة غرق مركب مصري (بتاريخ 21/9/2016) على متنه 600 مهاجر غير شرعي، من جنسيات مصرية وسودانية وصومالية وإريترية، وقبل هذه الحادثة، وفي نيسان (أبريل) من العام 2015، غرق قارب كان على متنه 200 شخص، انطلق من مدينة "برج البرلس" في محافظة كفر الشيخ، وكان أغلب ركابه من الصوماليين. حيث كشفت هاتان الحادثتان عن حجم هذا النشاط في دولة تعتبر الأقل تصديراً للمهاجرين بين جاراتها في شمال إفريقيا.  
وتنطلق رحلات الهجرة غير الشرعية من السواحل الشمالية في مصر، وتحديداً ساحل محافظتَيْ: الإسكندرية، وكفر الشيخ، باتجاه سواحل الجزر اليونانية والإيطالية (جزيرتي صقلية ولامبيدوزا).
وللكشف عن واقع الهجرة السريّة من الناحية التنظيمية في مصر، يمكننا الوقوف عند التفاصيل التي كشفتها السُلُطات المصرية في آذار (مارس) من العام 2017، بعد قيامها بضبط عصابة لتسفير المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عبر المراكب في البحر المتوسط انطلاقاً من مدينة الإسكندرية، حيث كانت تستخدم العصابة المراكب غير الآمنة وغير المعدّة لنقل الركاب مقابل حصولهم على مبالغ مالية منهم، تتراوح ما بين 20 و35 ألف جنيه مصري. وكشفت التحريّات عن قيام العصابة بدايةً بتسكين المهاجرين في وحدات سكنية تمتلكها العصابة في منطقة "كينج مريوط"، قبل نقلهم إلى سماسرة مراكب الصيد لنقلهم فيها.
وفي نهاية العام 2016 أشارت التقارير الرسمية الصادرة إلى ضبط ما مجموعه 603 مهاجرين، 411 منهم في المنطقة الشمالية العسكرية بمناطق رشيد وأبو قير، و183 في المنطقة الغربية العسكرية، و9 في المنطقة الجنوبية العسكرية. واليوم تعلن السلطات المصرية عن ضبطها بشكل تامّ للهجرة غير الشرعية منذ حادثة غرق القارب في أيلول (سبتمبر) في العام 2016.

مركب المهاجرين لحظة غرقه قبالة السواحل المصرية (عام 2016)

تكشف عمليات الهجرة غير الشرعية والأعداد الكبيرة للمهاجرين عن بنية الاقتصاد العالمي، ومدى التفاوت بين الاقتصادات حول العالم. ومهما تم تشديد الإجراءات والقيود، يبقى إنهاء الظاهرة تماماً غير ممكن في المدى المنظور، فستبقى هذه الظاهرة طالما بقي هناك من يشعر بأن رحلة الهجرة بكل مخاطرها لا تقل سوءاً عن ظروف الحياة في وطنه.

الصفحة الرئيسية