قول في أيديولوجيا القتل: نزع الطبيعة الذئبية عن الإنسان

قول في أيديولوجيا القتل: نزع الطبيعة الذئبية عن الإنسان


01/07/2018

هل قتل الإنسان أو النزعة الاعتدائية لدى الإنسان هي نزعة مؤصلة في طبيعته، هل هي جزء من جبلّته، أم أنها أمر طارئ؛ إذ إنّ ما نراه أمامنا من حالات القتل يجعلنا على يقين، من أنّ العدوان جزء أصيل في بنية الذات البشرية. وأنتم على دراية بأنّ فرويد قد قال بأنّ هنالك غريزة اسمها غريزة العدوان، وقبله تحدث هوبس عن الطبيعة الذئبية للإنسان، وقالت العرب قديماً إنّ "الإنسان عدو الإنسان". ويحضرني هنا بيت من الشعر يقول: (عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى، وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطير).
تُرى ما الذي يجعل الإنسان يستأنس بصوت الذئب، ويخاف من صوت الإنسان، مع أنّ الحالة الطبيعية تقضي بأن يستأنس المرء بصوت أخيه الإنسان؟ ذلك لأنه يعرف كل ردود فعل الذئب، ويعرف كيف يمكن أن يواجه سلوك الذئب الذي إذا كان جائعاً سيهجم على ضحيته، وإن كان شبعان فسيمر مرور الكرام من أمام الإنسان من دون أن يلتفت إليه. لكن من ذا الذي يستطيع أن يتوقّع ما سيكون عليه سلوك الإنسان؟ ربما ابتسم بوجهه ليطعنه بخنجر ما، أو قد يسرقه. باختصار، إنه يخاف منه لأنه لا يدري كيف سيكون سلوكه. غير أنّ هذه الحالة مختلفة كل الاختلاف عن القتل من أجل القتل، أو بالمقابل عن القتل دفاعاً عن النفس.

عندما نتحدث عن الجانب المأساوي التراجيدي في حياة البشر سنجد أنّ أيديولوجيا القتل هي بذاتها أيديولوجيتان

لكن، ما القيمة التي تتفوق على قيمة الإنسان ليقتل أو يُقتل من أجلها؟ ما هي أيديولوجيا القتل؟ ما هي تلك القيمة التي تجعل لدى المرء دافعاً مصاغاً صياغة أيديولوجية يجعله في حالة القتل؟
عندما نتحدث عن هذا الجانب المأساوي التراجيدي في حياة البشر، سنجد أنّ أيديولوجيا القتل هي بذاتها أيديولوجيتان: أيديولوجيا ظاهرة وأخرى خفية، أما أيديولوجيا القتل الظاهرة فلا تقول للإنسان اذهب واقتل من أجل أن تسلب الآخر أرضه. لا تقول له اقتل من أجل أن تحتل بلداً من البلدان. لا تقول له اقتل من أجل الحفاظ على سلطة الحاكم، بل تقول له: قاتل من أجل كرامة الأمة أو الدولة والأمان، إلخ من مفاهيم أسيرة لُدَى البشر. وهذه الأيديولوجيا الظاهرة تكمن وراءها الأيديولوجيا الخفية الحقيقية: اقتل من أجل أن تعود. اقتل من أجل الثروة والاحتلال والسلطة. خذوا الأيديولوجيا الصهيونية، على سبيل المثال، إنها أيديولوجيا قتل بامتياز، تأسست على فكرة نفي الآخر بالمطلق، الآخر الذي يعيش على أرضه عبر آلاف السنين، ويمتلك هُويته، ويشعر بانتمائه للآخر الذي هو نحن.

اقرأ أيضاً: الأيديولوجيا ليست ديناً ولا علماً ولا فكراً

الصهيونية في حقيقتها أيديولوجيا استعمارية استيطانية إجلائية، وهي تربط عقيدتها المستبدة بجذر ديني خطابه الدائم: اقتل لأن هنالك وعداً إلهياً بأن أرض فلسطين لك، ولا وجود لك على هذه الأرض إلا بنفي الآخر الفلسطيني. ولذلك، فالتعايش مع هذه الأيديولوجيا وتطبيقاتها الدموية مسألة خارجة عن سنن الحياة الطبيعة، لأنّ فكرة المصالحة مع أيديولوجيا القتل مستحيلة، لاسيما عندما تتعزز هذه الأيديولوجيا بوظيفة أخرى تملي على أصحابها أن يمارسوا من خلالها قتل الشعوب تحت عنوان قيمي يخفي نهماً شرساً إلى الثروات والمغانم، ويجعل اضطهاد القتيل وتدميره وجهاً لرسالة "إنسانية".

في أيديولوجيا القتل لا قيمة للإنسان لا للقاتل ولا للمقتول لأنها تستبطن نزعة عدمية باتجاه فكرة الإنسان

ما الخطاب الذي قالته الدولة الأمريكية لجنودها الذاهبين لاحتلال العراق؟ لم تقل لهم اذهبوا واقتلوا من أجل النفط في العراق، ولا من أجل تمزيق هذا البلد، بل اذهبوا من أجل القضاء على هذا الديكتاتور لرفع راية الديمقراطية عالياً، ومن أجل أمن أمريكا.
ماذا يقول حكام إيران ونصرالله للذاهبين للقتال في سوريا؟ لا تقول لهم اذهبوا للحفاظ على نظام الطاغية، الذي لولاه لم صار لإيران وجود مهيمن في سوريا، بل اذهبوا من أجل الحسين والمراقد، ومن أجل أن لا تُسبى زينب مرتين .
إذاً، في أيديولوجيا القتل هنالك خطاب معلن، وآخر خفي. المشكلة حين تنطلي هذه الأكذوبة الأيديولوجية على البشر، وحين تنطلي على القاتل والقتيل بالكيفية ذاتها، سيما أنّ أيديولوجيا القتل تتزين بخطابات الشرف والكرامة. أقول "تتزين"، لكن، لا الشرف ولا الكرامة يمكن أن يشكلا أساس أيديولوجيا القتل؛ لأنها تقوم على نفي الآخر. إنها أيديولوجيا الأقوياء في مواجهة الضعفاء. بالمناسبة، الحروب الصليبية هي في حقيقتها وأساسها حروب مجتمعات غزو وسلب لما هو خارج حدودها انطلاقاً من أيديولوجيا زائفة تقول لأصحابها اقتلوا من أجل المسيح، تصوروا مدى ذرائعية من هم وراء هذه الغزوات، فالمسيح الفادي، وهذا أحد أسمائه، يتحول في أيديولوجيا القتل إلى دافع للقتل. ما من أحد يقول للآخرين موتوا من أجل أسباب وضيعة، إذ يجب أن يكون الموت في سبيل أهداف نبيلة، فالإنسان يرى في الفكرة النبيلة ما هو أسمى من وجوده، فيقاتل من أجل تحقيقها.

اقرأ أيضاً: حروب القبائل الأيديولوجية

لكن الحقيقي في أيديولوجيا القتل أنّ القتال يجري عملياً من أجل أهداف وضيعة جداً، في حين يقتنع الإنسان أنه يقاتل من أجل مهمة نبيلة.
وما يهمنا هنا أيديولوجيا القتل بوصفها أيديولوجيا الحرب العدوانية، حرب دولة ضد شعب آخر باسم المدنية، باسم التحديث والازدهار، حرب ميليشيات ضد مجتمع يريد العيش بحرية. الإنسان يتحوّل إلى قاتل ومن أجل أهداف وضيعة؟ دون أن يدري، فيما الذي يدري هو الذي يصوغ الخطاب الزائف الدافع للقتل.

في أيديولوجيا القتل هنالك خطاب معلن وآخر خفي المشكلة حين تنطلي هذه الأكذوبة الأيديولوجية على البشر

في القصة الدينية أنّ إبراهيم قرّر أن يذبح ابنه اسماعيل امتثالاً للوعد الذي قطعه للإله. أخذ إبراهيم ابنه إلى أسفل الجبل، وشحذ سكينه وهمّ أن يذبحه، تقول الرواية الدينية أنّ إبراهيم قد حزّ رقبة ابنه إسماعيل، فوجد أنها سوّرت بصفيح من النحاس (وهذه إشارة تنطوي على دلالات)، لكن إسماعيل، الذي كان عالي التربية، قال لأبيه: كبني على وجهي حتى لا تراني فتحزن، واشحذ شفرتك شحذاً قوياً حتى لا أتألم، وهكذا فعل. كبّه على وجهه وحزّ السكين أيضاً، لكن السكين لم تفعل شيئاً، ثم قال له: انزع يا أبت القميص عني حتى لا تسقط قطرات من دمي على قميصي فتحزن أمي. المهمّ في هذه الصورة التراجيدية أنّ أباً يقتل ابنه، هذا طبعاً شيء خارج عن حدود العقل والطبيعة الإنسانيين، لكن بما أنّ ابراهيم تقيّ يمتثل لأوامر الإله، فإنّ الله قد فدى إسماعيل بالكبش، فكان عيد الأضحى. لكن دلالة القصة، من وجهة النظر الدنيوية وليس الدينية، أنّ الله قد غيّر أوامره بالنسبة لإسماعيل لأنّ الله، الذي يحيي ويميت، لا يطيق أن يرى طفلاً يُذبح، الإله نفسه فدى الطفل. المهم أنّ دلالة القصة تنطوي على هذه القيمة الكبرى للنفس البشرية التي جرى ترميزها في قصة إسماعيل.

اقرأ أيضاً: الإيمان الأعمى وعبادة القتل!

في مقابل هذه الأيديولوجيا هناك فلسفة الدفاع عن النفس، لماذا قلنا أيديولوجيا القتل مقابل فلسفة الدفاع عن النفس؟ فلسفة الدفاع عن النفس فعل في مواجهة العدوان على النفس. أمامي، على سبيل المثال، شخصيتان: غورو الفرنسي، ويوسف العظمة السوري، غورو يمثل رمزاً فاقعاً للقاتل المسلح بأيديولوجيا القتل، والقادم من خلف البحار لتنفيذ مهمة استعمارية هي احتلال الشام. يأتي غورو ويحتل لبنان ثم دمشق. فعل غورو هو فعل عدواني بامتياز، بينما القبول بالفعل العدواني هو فعل خانع بامتياز. يوسف العظمة رافض للفعلين معاً؛ لأنه صاحب كرامة إنسانية ووطنية بامتياز؛ إذ لا معنى لحياته ولا قيمة لها إلا بوصفها حياة حرة كريمة عزيزة، وكانت أمامه ثلاثة مواقف: موقف من المعتدي، وموقف القابل بالاعتداء لأسباب عديدة، وموقف الرافض للاعتداء، الأول هو موقف إيديولوجيا القتل. والثاني موقف الخنوع. أما الأخير فموقف فلسفة الدفاع عن النفس.
من هنا قرر يوسف العظمة أن فكرة العيش في وطن مستعمر من قبل غورو مستحيلة، أما أن يكون وزيراً للدفاع في بلد مستقل فهو الشيء الذي يستحق الحياة.
لذلك ذهب يوسف العظمة بكل اعتزاز لملاقاة الغزو الفرنسي، لا ليقتله غورو، بل ليدفع عن نفسه وشعبه رافضاً الخنوع، فضحى بحياته من أجل الفكرة السامية التي هي فكرة الوطن الحر الكريم. وهذا معنى  فلسفة الحياة؛ الحياة دفاعاً عن الحياة الكريمة، أما غورو، بوصفه رمزاً لأيديولوجيا القتل، فقد ضحّى بالآخر، وهذا الآخر بالنسبة له هو آخران: سوري وفرنسي يقتتلان، لأنّ القتل هو قاتل ومقتول، وكل منهما وسيلة لا قيمة كبيرة لها أمام الغاية، ففي أيديولوجيا القتل لا قيمة للإنسان، لا للقاتل ولا للمقتول، ذلك لأنها تستبطن نزعة عدمية باتجاه فكرة الإنسان.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية