خرافة تأثير اللوبي الصهيوني في السياسة الخارجية الأمريكية

خرافة تأثير اللوبي الصهيوني في السياسة الخارجية الأمريكية


03/06/2018

تتعدد الآراء حول مسألة ما يسمى "اللوبي الصهيوني"، وتأثيره على السياسة الخارجية الأمريكية، بين رأي يؤكد أن هذا الأمر حقيقة واقعة، براهينها ساطعة، وآخر لا يرى ذلك إلا خرافة أمريكية، ولعبة صهيوينة.
وقد رغبت بإعادة طرح هذا الموضوع، لما له من أهمية بالغة في إحداث الوعي السياسي لدى المنشغلين بالأمر، حتى لا يبقوا فريسة سهلة للمؤامرات التي تحاك ضدهم، وكي يفهموا واقع ما يجري فعلاً في السياسة الدولية.
وقبل أن نخوض في هذه المسألة، لا بد من إدراك أمرين بالغي الأهمية في ميدان السياسة والإحاطة بقانونها، يتمثل أولهما في ضرورة إدراك القاعدة الشهيرة "اعرف عدوك"، أي أنه لا بد من فهم واقع الدول المؤثرة في العالم، من حيث الخطوط العريضة التي تبنى عليها سياساتها، ومعرفة قوة العدو وتقديرها تقديراً واقعياً حقيقياً، وذلك أن معرفة العدو هي حجر الزاوية في كيفية التعامل معه، حتى لا تقع فريسة له، أو لتضليله السياسي، وهذه هي النقطة الثانية، فالغرب بطبيعة تكوينه، مضلل سياسياً، ولا نبالغ إن قلنا إن أمريكا هي أبرع دولة في تاريخ الإنسانية في ميدان التضليل السياسي، إذ سجلت في هذا المضمار نجاحاً باهراً، فاق ما حققه أجدادهم الانجليز والفرنسيون مجتمعين، حتى لقد قال أحدهم إن الغرب على استعداد لتضليل نفسه، في سبيل تضليل الآخرين!
ولكي نفهم الطبيعة السياسية لواقع "اللوبي الصهيوني" في الولايات المتحدة، من حيث مدى تأثيره في السياسة الخارجية الأمريكية، لا بد أولاً، وقبل كل شيء، أن نفهم أمرين مهمين هما: واقع الدولة الأمريكية بوصفها دولة تحولت من دولة مستعمَرة، إلى أن أصبحت دولة كبرى، بل الدولة الأولى في العالم .

ما شاع في الأدبيات السياسية والأبحاث المضللة حول قوة اليهود ونفوذهم في العالم ما هو إلا وهم وزيف

لذا وجب علينا أن نفهم وندرس واقع هذه الدولة، التي أصبحت قوة عاتية مرعبة، تبطش بكل من تسول له نفسه الوقوف أمامها، وأمام مشاريعها الاستعمارية في العالم أجمع.
والأمر الثاني هو أن ندرك واقع "دولة إسرائيل"، وكيف ظهرت فكرة إيجادها، ثم كيف انتقلت من فكرة في ذهن الأوروبيين، إلى أن أصبحت دولة على أرض الواقع، بعد أن كانت خيالاً، وسراباً بقيعة.
هاتان نقطتان لا بد من فهمهما، حتى يتسنى لنا إدراك هذه المسألة، بعيداً عن ماكينة الإعلام المتلاعبة بالعقول ولوثتها التي أغرقت أمماً وشعوباً في مستنقعاتها الآسنة.
لقد خاضت أمريكا حرب الاستقلال، وانتصرت فيها، ثم سارت سيراً طبيعياً في النمو، وتوسعت في القارة الأمريكية، وسيطرت على ما تريد من أراضٍ وممتلكات، وأنهت الاستعمار الإسباني والفرنسي والإنجليزي على أراضيها، واستقطبت علماء العالم وأغرتهم بكل غالٍ ونفيس، حتى تحقق ثورة علمية، بعد ثورتها الفكرية السياسية، ثم وضعت "مبدأ مونرو" لحماية نفسها من الأطماع الأوروبية، وفرضت على نفسها سياسة العزلة أو الحيادية طيلة قرون، حتى تنأى بنفسها عن النزاعات الأوروبية والأحلاف الدولية، ولكي تبني نفسها بهدوء فلسفي ضمن مخطط مدروس بعمق واستنارة، فغدت قوة عظيمة قادرة على استعمار العالم فكرياً وسياسياً وعسكرياً.
إذاً، والحالة هذه، فإن قادة أمريكا السياسيين، ومفكري النخبة فيها، أدركوا طريق تقدم الأمم، وفهموا كيف تتحقق النهضة، وكيف تكسب القوة، وتنمي الدولة نفسها، حتى تكون قادرة على الدفاع عن كيانها، وحتى تتمكن من التقدم لبسط سيطرتها وهيمنتها على باقي شعوب العالم. وإن دولة تمتلك هذه الصفات، وعلى رأسها النخبة المبدعة التي تسير فيها من علٍ إلى أعلى، من حيث الإطاحة بالقوى العظمى كافة من طريقها، وبسط سيطرتها على ربوع العالم، لا يمكن أن تسمح لشرذمة، أو حفنة من اليهود، ولا غير اليهود، باختراق ساستها وسياستها، والسيطرة عليها. وإن من الطبيعي، بل إن من السنن الكونية، أن اللاعب الأقوى هو الذي يسيّر غيره ويبسط نفوذه عليه، لا ذلك اللاعب الأضعف.
إن أمريكا وقادتها، بمختلف توجهاتهم وعقائدهم السياسية، لا يمكن أن يسمحوا لدولة، فضلاً عن ثلة من اليهود، أن يتحكموا بمصيرها وقراراتها، فالدولة الأمريكية التي  سارت هذا السير الرائع في معترك الحياة الدولية، لا يمكن أن تضحي بتاريخها وعلاقاتها ومصالحها، من أجل اليهود فقط، ولا يمكن كذلك أن تسمح لهم أن يقبضوا على عقلها السياسي وأن يحركوه كيفما شاؤوا.

السياسة الأمريكية سياسة ثابتة ومرسومة بعناية قبل أن توجد فكرة تجميع اليهود على أرض فلسطين

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد نجح قادة أمريكا في تحويل المجتمع الأمريكي إلى قِدر يغلي، قادرٍ على صهر كل من يدخله في بوتقة الحضارة الأمريكية، فكل من يعيش في تلك البلاد يصبح ولاؤه لأمريكا فوق ولائه لبلده الأصلي! ولو سلمنا جدلاً بوجود ساسة في مراكز حساسة من خلفيات يهودية، فإن ولاءهم سيكون لصالح أمريكا، وسيبقى مسيَّراً ومجبراً على أن يخدم بلده ومصالحه، أي مصالح أمريكا، ولا يخرج عن فلكها في أي حال من الأحوال.
على أن السياسة الأمريكية سياسة ثابتة – لا سيما الخارجية منها - مرسومة بعناية ودقة، قبل أن يوجد اليهود، وقبل أن توجد فكرة تجميعهم على أرض فلسطين، فصناعة القرار السياسي الأمريكي هي أمر أمريكي، لا علاقة لليهود به، وما يتحكم به هو مصالح أمريكا في العالم، ولا يمكن لدولة بحجم أمريكا، بوصفها الدولة الأولى في العالم، أن تتخلى عن مصالحها، وسياستها العالمية، وسيادتها، من أجل اليهود، بل إن طبيعة فكر الرأسمالية تحتم أن تكون المصلحة هي الأساس، وأن تسخر كل شيء في هذا الكون من أجل ذلك، فأمريكا تسخر اليهود وغيرهم من شعوب العالم، خدمة لها ولمصالحها، تماماً كما كانت تفعل بريطانيا في سياستها المشهورة، وهي القتال حتى آخر جندي فرنسي!
أما فكرة إيجاد "إسرائيل"، وبدء العمل عليها، فلم تكن أمريكا حاضرة في العالم في ذلك الوقت، وإنما كانت تعيش في شرنقة العزلة، ولم تلعب الولايات المتحدة أي دور سياسي فعال في إيجاد إسرائيل، فالفكرة من ألفها إلى يائها هي فكرة الإنجليز ليس غير، ولو كان هناك لوبي صهيوني متحكماً بسياسة أمريكا، لرأينا على الأقل أعمالاً تقوم بها أمريكا من أجل إنشاء وطن قومي لهم، ما يعطينا مؤشراً واضحاً على أن يهود أمريكا ليس لهم تأثير في سياستها.
وقد ظهرت فكرة إيجاد إسرائيل وتحولت لدولة، وأمريكا بعيدة عن مجريات الأمور، في مطلع القرن التاسع عشر، ولم يكن لليهود الأمريكان أي دور في هذا الأمر، إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، ورأت أمريكا في إسرائيل طفلا لقيطاً في حاجة للتبني، حتى يبقى على قيد الحياة، فكسبت ولاءه سريعاً، وأخذته من والدته الشرعية، وهي بريطانيا.

فكرة إيجاد وطن لليهود هي فكرة إنجليزية وليست أمريكية ولا هي بطبيعة الحال فكرة يهودية

ومن المعروف بداهة، أن فكرة إيجاد وطن لليهود هي فكرة إنجليزية، وليست فكرة أمريكية، ولا هي بطبيعة الحال فكرة من بنات أفكار اليهود، فإنشاء وطن لليهود ليس جزءاً من التاريخ اليهودي. ويتضح هنا أن اللاعب الوحيد تقريباً في إيجاد إسرائيل، والعنصر الفعال في هذا هو المصالح البريطانية، وليس قوة اليهود ونفوذهم. وإن فكرة إيجاد وطن قومي لليهود هي فكرة إنجليزية أملتها المصالح البريطانية المتعلقة بالمنطقة، ولم يكن الدافع هو العطف على اليهود، لأن أوروبا كلها، ومعها روسيا، اضطهدت اليهود على مر العصور.
وعليه، فإن فكرة إيجاد اليهود كانت ضمن المشاريع الاستعمارية الغربية، وكانت الصهيونية تدور في فلك مصالح الغرب الاستعمارية في بلاد المسلمين. وقد وجدت هذه الفكرة - أي صناعة اليهود وتجميعهم في منطقة واحدة - قبل ظهور الجماعات والتجمعات اليهودية، وقبل أن يصبح لهم قوة فاعلة في العالم، فلم تظهر هذه الفكرة عند يهود العراق أو اليمن أو المغرب، ولم تظهر كذلك في العصور الوسطى، بل كان ظهورها في القرن الميلادي التاسع عشر، تزامناً مع بداية استعمار العالم الإسلامي. ولم تكن هذه الفكرة لتتحقق واقعاً، لولا الإنجليز ودعمهم لها.
ولقد حار المفكرون والساسة العرب - وقبلهم الأوربيون - في سبب إيجاد إسرائيل. فذهب بعض المراقبين إلى أن ذلك كان بهدف خلق جسر للحضارة الغربية، وللدول الغربية، في حال وجود خطر يهدد أمن الغرب، أو هي قاعدة انطلاق متقدمة، من أجل ضمان السيطرة على العالم الإسلامي. وذهب البعض الآخر إلى أن إيجاد إسرائيل كان لتوفير الحماية لمصالح الغرب في العالم الإسلامي، فيما يذهب رأي ثالث إلى القول إن إيجاد إسرائيل إنما كان بغية فصل مشرق العالم الإسلامي عن مغربه، حتى يحال دون الوحدة فيما بينهما.

يهود أمريكا ليس لهم تأثير كبير داخلها ولا يسيطرون على مقدراتها الاقتصادية ولا حتى الإعلامية 

والحقيقة الواقعة هي أن الغرب هو شريان الحياة الذي يبقي "إسرائيل" على قيد الحياة، فإسرائيل، منذ وجودها، لم تؤمن للغرب أية مصالح في العالم الإسلامي، ولم تكن قاعدة انطلاق للغرب في هذا العالم، بل كانت أراضي العالم الإسلامي هي قاعدة الانطلاق، في الهجوم على العراق، ولم تنطلق من إسرائيل، وكذلك في احتلال العراق لاحقاً. وفي سوريا وغير سوريا، كانت بلاد العرب هي منطلق الغرب في معظم أعماله الاستعمارية.
يقول الأستاذ عثمان صالحية في أطروحته الباهرة "ملاحظات على السياسة الخارجية الأمريكية" إن "إيجاد إسرائيل كان الهدف منه هو إيجاد كيان معادٍ للأمة، يعمل فيها عمل الفيروسات الممرضة sickening viruses سنين طويلة، لا يعلم مداها إلا الله تعالى".
أما يهود أمريكا، فليس لهم هذا التأثير داخل الولايات المتحدة، وهم لا يسيطرون على مقدرات أمريكا الاقتصادية، ولا حتى الإعلامية منها، حتى يكون لهم نفوذ ذو أثر على القرار الأمريكي، بل إن الواقع يقول إنهم ليسوا كتلة واحدة، بل حركات مختلفة ومنظمات شتى، ومعظمهم لا ينتمي إلى أي تنظيم يهودي، وحتى لو كانت أصواتهم في الانتخابات الأمريكية موحدة، فهي أصوات لا قيمة لها، لأن من يعين الرؤساء في أمريكا هم الرأسماليون، حكام أمريكا الحقيقيون، وما الانتخابات الرئاسية إلا خدعة ضحيتها الشعب الأمريكي، في لعبة ديمقراطية مزيفة وقذرة.
إنّ ما شاع في الأدبيات السياسية، والأبحاث السياسية الخادعة المضللة، حول قوة اليهود ونفوذهم في العالم، وفي أمريكا على وجه الخصوص، ما هو إلا وهم وزيف، صوّر أمريكا دولة لا أهل لها يقودونها، أرادت أمريكا منه إخراج نفسها من دائرة الاتهام، وإظهار أنها مسلوبة الإرادة، أمام حفنة من اليهود، حتى تلقي اللوم عليهم أمام العالم.
وقد انتفع اليهود من ذلك الأمر، في سياستهم المشهورة، وهي "صناعة الخوف"، ضمن حملات إعلامية ضخمة ومنظمة، أضفت عليهم هالة واسعة من القوة، من أجل الترويج لفكرة سيطرة اليهود على العالم، وأنهم متحكمون بمقدراته. وما فكرة الحكومة الخفية وبروتوكولات حكام صهيون، إلا أفكار عملت على زرع الرعب والخوف في عقول العالم وقلوبهم، من أجل الاستسلام لليهود، فيصبحون بذلك قدراً محتوماً، لا يمكن أن نواجهه، وعدواً متمكناً، معركتنا معه خاسرة لا محالة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية