أم درمان.. موت مدينة المهدي المقدسة

أم درمان.. موت مدينة المهدي المقدسة


30/05/2018

لئن كانت القاهرة حظيت مع نجيب محفوظ باحتفاء بالمكان (المديني) في عمق تجلياته الشعبية العربية، عبر روايات عديدة مثل: القاهرة الجديدة وبين القصرين، وقصر الشوق والسكرية، كما فعل عبدالرحمن منيف مع عمّان الأربعينيات في "سيرة مدينة"، وصنع الله إبراهيم في "بيروت...بيروت" .. والقائمة تطول.. ظلت أم درمان أول عاصمة لدولة وطنية جامعة في السودان إبان الحكم المهدوي تشكو إهمال الحكاية والتنمية على السواء.

مدينة تشكو ظلم الحكايات

لم تحظ مدينة أُم دُرْمانْ السودانيّة، الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل العظيم إلّا بنزر يسير مبعثر من الحكايات، لم ترق واحدة منها إلى (رواية) تسير بها الركبان، بل وأكثر من ذلك، تعرّضت المدينة التي لم يشفع لها تاريخها إلى وابل من هجاء (شعري) مقذع، يشيح عنه الحطيئة خجلاَ كما فعل الشاعر الراحل محمد الواثق: "لا حبّذا أنت يا أم درمان من بـلد/ أمطرتني نـكداً لا جادك المـطر/ من صحن مسجدها حتى مشارفها / حطّ الخمول بها واستحكم الضجر".

لم تحظ أُم دُرْمانْ إلّا بحكايات خجولة لم ترق واحدة منها إلى رواية تسير بها الركبان

كان قدر المدينة التي أعلنها القائد الثوري، ورجل الدين محمد أحمد، الملقب بالمهدي بديلاً للخرطوم عاصمة السودان (التركي)، بعد تحريرها، وقتل حاكمها الإنجليزي (غوردُن)، في 26 كانون الثاني (يناير) 1885، مركّزاً لدولته الوليدة، أن تقع في مرمى لسان الواثق (هجَّاء المُدُن)، فأحدثت قصيدته الشهيرة (أم درمان تُحتضر) شرخاً كبيراً، بين من يعدّونها رمزاً وطنياً ينبغي ألّا يُمسّ، ومن يرونها غير ذلك.

لكن، ما لم يُدركه الواثق أنّ هجائيته تلك، لن تفتّ من عضد أم درمان الراسخة في وجدان السودانيين، كعاصمة وطنية، ومحفل للانتصارات على الأعداء، وللهزائم أيضاً، إلى جانب أنّها (بقعة) أنصار الإمام المهدي، قاهر الأتراك والإنجليز وحلفائهم.

أم درمان راسخة بوجدان السودانيين كعاصمة وطنية ومحفل للانتصارات وللهزائم أيضاً

أحياء القبائل والزعماء

المدينة حديثة النشأة، مقارنة برفيقتها (الخرطوم)، الأكثر حداثة، التي تشاطرها ضفاف النيل ولقب العاصمة، كانت أول أمرها قرية صغيرة، سرعان ما تمددت بعد أن أطلق عليها المهدويون اسم "البُقعة"، وسمّوها عاصمة للبلاد، فيما لم يجهدوا أنفسهم في تطويرها، فظلت مبانيها إلى وقت قريب، وما يزال بعضها كذلك، مبنية من اللبن (الطين)، وببوابة واحدة فقط "بوابة عبد القيوم" جنوب شرقها.

وتضمّ المدينة القديمة أحياء محدودة، أطلق على معظمها أسماء القبائل التي شاركت في الثورة المهدية، أو انضمت إليها لاحقاً، مثل: "الركابية، الهاشماب، العبابدة، اليهود، والمسالمة"، علاوة على أحياء سمّيت بأسماء أمراء المهدية، مثل: "أبو عنجة، ود نوباوي، وأبو روف".

كانت أول أمرها قرية صغيرة تمدّدت بعد أن أطلق عليها المهدويون اسم البُقعة وسمّوها عاصمة للبلاد

لم تتطور المدينة كثيراً، إبان الحكم المهدوي؛ ظلت قرية كبيرة وبائسة، يقطنها خليط من محاربي القبائل المؤمنين بعقيدة المهدي المنتظر، الزاهدين في الحياة "الدنيا" والمتطلعين إلى الآخرة؛ كانوا يلبسون الثياب المرقعة البالية، ويأكلون الخشن من الطعام، في انتظار الرحيل والشهادة، فلم يهتموا بتطوير مدينتهم ونمط حيواتهم، فقد كانوا يتوقون إلى الموت لا إلى الحياة.

وكتاب "حرب النهر" لضابط الاستعلامات في الجيش البريطاني الغازي حينها، ورئيس بريطانيا العظمى فيما بعد، ونستون تشرشل، الذي يوثّق شجاعة أنصار المهدي معركة "كرري" الفاصلة العام 1898، التي ضمّت بريطانيا بموجبها السودان إلى مستعمراتها، وعينت كتنشر قائماً عليها، يشهد إلى جانب كلّ ذلك، على توق سكان أم درمان إلى الموت لا إلى الحياة، ولربما كان لذلك أثر كبير في بطء نمو المدينة حتى الآن.

سوق صغيرة بائسة

لربما اتسعت مدينة المهدويين المقدسة قليلاً، لكن كثيراً من البؤس لم يبرح أحياءها، حتى بعد التطوير النسبي الذي ابتدره الإنجليز فيها، فسوق المدينة المركزية (داون تاون) ما تزال محتشدة بالأزقة ومزدحمة بالناس.

والناظر لأقدم خريطة لها، من رسم أسير المهدية الإيطالي "باليو روزقنولي" 1886، لا يجد فرقاً كبيراً بينها وبين السوق الحالية، فلم تزد أقسام السوق الــ(30) الواردة في خريطة "روزقنولي" كثيراً، إن لم تنقص؛ فما يزال قسم مواد البناء والوقود (الخشب)، وقسم الخضار واللحوم، والحدادين، والنجارين، والتمور، والذرة، والجلود، قائمة إلى الآن، مع تطور نسبي في معمارها.

سوق المدينة المركزية (داون تاون) ما تزال محتشدة بالأزقة والناس

تجار ومقهى

التطور النسبي نفسه، أسهم فيه بشكل كبير التجار الذين وفدوا مع المستعمر الإنجليزي؛ مصريون، وشاميون، ويونانيون، ويمنيون، ويهود، وأرمن، بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي، مثل: إلياهو، ويعقوب، إبراهيم سرويس، إلياس بنوى، وسليمان بنوي، نسيم شالوم، خضر داؤود ومن الأقباط، تادرس عبدالمسيح، وعيسى عبدالمسيح ودانيال خير، سليمان الوزان، عزت بسادة، حبيب مرقص سمعان، فرح يسى، نخلة عبد المسيح، رامجي سامجي، شقلال سامجي، صاركنداس.

اتسعت المدينة قليلاً لكن البؤس لم يبرح أحياءها حتى بعد التطوير النسبي الذي ابتدره الإنجليز فيها

ومن الشوام: نجيب وإبراهيم كباشي، وشاكر وجورج (حلاق إخوان)، وأنطوان فتح الله بشارة، وجورج زكريا، إلى جانب قلة من التجار الوطنيين، مثل آل البرير، وآل حسن عبدالمنعم وعثمان صالح، والبرقدار، وسوار الدهب، وعبدالمنعم محمد، وود بكار، والأمين عبدالرحمن، وبشير الشيخ، وآل البلك.

وكان لمقهى جورج مشرقي القبطي المصري الجذور، أثر كبير في الحياة السياسية والاجتماعية، والخريطة الغنائية الحديثة في السودان، الذي تأسس العام 1940، وصار ملتقى لرموز المجتمع؛ من سياسيين ومثقفين وفنانيين ورياضيين، ومن لدنه انطلقت كثير من الأحداث التي أدت إلى استقلال السودان فيما بعد.

مركز الحركة الوطنية

كما كانت أم درمان، إبان الحكم الإنجليزي، مركزاً للحركة الأدبية والغنائية، وللمسرح والإذاعة، ولشعراء الأناشيد الوطنية، مثل محمود أبوبكر، صاحب النشيد الأشهر: "صه يا كنار"؛ حيث يقول: "سأزود عن وطني وأهلك دونه/ يوماً يجيء فيا ملائكة اشهدي"، وكان له أثر بالغ في الوجدان الجمعي للسودانيين؛ في مقارعة المستعمر، والمطالبة بالاستقلال والحرية.

رغم تاريخها الوطني الزاخر ما تزال متوعّكة عليلة لا هي قرية ولا مدينة على الأعراف تمضي إلى قدرها المحتوم

وغنّى كثيرون لأم درمان؛ مجّدوها كعاصمة وطنية، ورمز للنضال والحرية والانعتاق، لكنّهم، من ناحية أخرى، تركوها وحيدة للقفر واليباب، فرغم تمددها على ضفاف أطول أنهار العالم، ونومها على ساعده القوي، لكنّها الآن شحيحة الماء والخضرة، تبدو كصحراء ضيقة لا رئة لها تتنفس بها؛ فالمدينة تبدو الآن كقرية كبيرة، مزدحمة بالسكان، ومتسخة المركز والأركان، لم يقدم لها أحد ما يجعلها تحوز على لقب مدينة حقيقية، فأم درمان، رغم تاريخها الوطني الزاخر، ما تزال متوعّكة عليلة، لا هي قرية ولا مدينة، على الأعراف تمضي إلى قدرها المحتوم، لم يتبقَّ منها غير الذكريات الخوالي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية