القرامطة سبقوا ماركس وأسسوا أول نظام اشتراكي منتخب

الاشتراكية

القرامطة سبقوا ماركس وأسسوا أول نظام اشتراكي منتخب


07/05/2018

"التاريخ يكتبه المنتصرون"؛ عبارة شائعة يردّدها كثيرون في أحاديثهم اليومية، تحمل دلالات مهمّة تستحق الوقوف عندها، هي صيرورة السجلات التاريخية، التي غالباً ما تسطر أخبار الحكام والملوك والفاتحين، لكنْ؛ خلف تلك الصورة السطحية للتاريخ، تقف حركات اجتماعية، وصولات وجولات دارتْ رحاها بين الحكام والمحكومين، لتظلّ الجموع الشعبية وتمرداتها، أسيرة سجلات التاريخ الخفي، و"القرامطة" وحركتهم الاجتماعية هم أحد أسطر ذلك التاريخ الخفيّ، في التاريخ الإسلامي.

اختلال الدولة العباسية

تنشأ الحركات الاجتماعية في كلّ زمان ومكان، كردّ فعل على ما تمارسه الدولة من سياسات، قد تعصف بحقّ بعض الطوائف المختلفة، كالعمال والفلاحين، والطبقات الأقلّ في المجتمع، وهو ما حدث في الدولة العباسية، التي استمرّ حكمها بين (750- 1517) ميلادياً، امتلأت تلك الفترة بالتقلبات السياسية الشديدة، وقيام الثورات الاجتماعية، ومن أشهرها "ثورة الزنج"، التي اندلعت في البصرة، وامتدت خمسة عشر عاماً، حتى وأدتها الدولة العباسية، ومن هذا الحراك استفاد القرامطة وتعلموا كيف ينظّمون أنفسهم لمواجهة العباسيين، والدليل أنّ ثورة الزنج مع امتدادها قرب عقدين من الزمان، فإنها لم تسطع تحقيق شيء لأصحابها، الذين كانوا مجموعة من زنوج إفريقيا المستعبدين، تم جلبهم من بلدانهم للعمل في مقرّ الخلافة (بغداد).

أفكار حمدان قرمط قاربت اشتراكية ماركس، وسبقتها بقرون، فاستطاع التوصل لآليات تمكّن المجتمع الفكاك من الأزمات الاقتصادية

المفكّر والفيلسوف حسين مروّة، في كتابه "النزعات المادية والفلسفية في الحضارة الإسلامية"، متحدثاً عن تاريخ القرامطة: "إن كانت ثورة الزنج هي ثورة العبيد، فإنّ الثورة القرمطية هي ثورة الفلاحين بلا منازع، ويكاد يجمِع المؤرخون على أنّ بداية هذه الحركة كانت عام 264هـ، إبان ثورة الزنج بالبصرة؛ إذ قدم في هذا العام إلى منطقة الكوفة، أحد دعاة الإسماعيلية، وهو "حسين الأهوازي"، وكان معظم سكان هذه المنطقة من النبط، الذين عرفوا بانشغالهم في الفلاحة منذ القديم، وكانوا آنذاك يعانون من تردي أوضاعهم بسبب كثرة الضرائب المفروضة عليهم، واستغلال كبار الملاكين من الإقطاعيين لهم، ولذلك كانوا مستعدين للوقوف مع من يخلصهم من هذا الوضع، وفي الكوفة التقى حسين الأهوازي بفلاح، وهو حمدان قرمط، فآمن بمذهبه، وإليه يعود الفضل في إرساء أسس الحركة القرمطية، وقد انتشرت حركة القرامطة بسرعة غريبة في أوساط الفلاحين أولاً، ثمّ امتدت لتشمل أهل الحرف والمعدمين من سكان المدن في منطقة الكوفة والبصرة في العراق، وفي منطقة البحرين وبعض مناطق بلاد الشام؛ بل وبعض نواحي اليمن في جنوب الجزيرة".

ويؤكد مروة، أنّه "ما من قائد لأية ثورة أو انتفاضة نهضت في وجه الخلافة العباسية، تاريخياً، رفع شعارات قومية صريحة في المناطق غير العربية؛ بل الذي نعرفه أنّ قيادات هذه الثورات والانتفاضات كانت ترفع شعارات، أو تعلن برامج تتصل بمطالب هذه الجماهير (اقتصادية – اجتماعية)، كي تنجذب هذه الجماهير، وأحياناً كانت ترفعها بواسطة أفكار ذات إطار ديني أو فلسفي، لا يحجب المضمون الواقعي لهذه المطالب".

مروّة: إن كانت ثورة الزنج هي ثورة العبيد، فإنّ الثورة القرمطية هي ثورة الفلاحين

مبادئ الاشتراكية الأولى

بينما انشغل العباسيون بحرب الزنج، استغل حمدان قرمط الموقف السياسي المشتعل، وحاول نشر دعوته التي تسعى لبناء مجتمع ذي علاقات إنتاج مغايرة للمجتمع الذي يعرفه المسلمون، فأفكاره التي قاربت اشتراكية كارل ماركس، وسبقتها بقرون، استطاعت التوصل لآليات تمكّن المجتمع من الفكاك من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة في العصر العباسي، ليتدرج في طرحه، مطالباً أتباعه بالتنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة.

اقتضت الحركة أن يتبرع كلّ من أتباعها، سواء كان رجلاً أو امرأة، بدينار، وقد استجاب الأتباع عن طيب خاطر؛ حيث كان يوظف ما يجمعه منهم في الإنفاق على المصالح العامة، خاصة على الفقراء والمحتاجين، ليتطور الأمر، بجمع كلّ الثروات، وإعادة توزيعها طبقاً لمبدأ "من كلّ حسب طاقته لكلّ حسب حاجته".

استطاع المستشرق الهولندي "ميكال يان دي خويه"، في كتابه "القرامطة نشأتهم وعلاقتهم بالفاطميين"، رصد تطور الحركة القرمطية، ووضعها في إطار سيسيولوجي بعيد عن الإطار الديني الذي تحوطه بها قوى الإسلام السلفي وأتباع المذهب الوهابي، وممّا جاء في كتابه: "أقام الدعاة في كلّ قرية رجلاً مختاراً من ثقاتها، يكلّف بجمع كلّ ما يملكه أهل القرية من ماشية وحُلي ومتاع وما إليها، في المقابل كان على هذا المدبّر أن يوفّر الكساء للعراة، وينفق على سائرهم ما يكفيهم، حتى لم يبقَ فقير واحد من المستجيبين للدعوة".

دار الهجرة وتسليح الثورة

عُرف عن القرامطة الأوائل مبدأ الشراكة في المال؛ حيث علموا أنّ القوة المالية والقدرة الاقتصادية مفتاح انتصار قوى المعارضة على سلطة الدولة، وعن طريق الأموال التي تشارك الناس في جمعها، استطاعوا بناء قلعة حصينة سُميّت "دار الهجرة"، عام 277هـ، بالقرب من الكوفة، ليسلحوا أبناء الحركة ويدرّبوهم، وساعدهم في ذلك عدم اهتمام الدولة العباسية، طيلة عام كامل، إلى أن قام الخليفة المعتضد العباسي بمطاردتهم، عام 278هـ، حين شعر بقوتهم وتأثير حراكهم على الأرض، وعدّه خطراً محدقاً بدولة الخلافة العباسية التي افتعل العباسيون لأجل إقامتها حروباً ضارية.

السمة المميزة لحركة القرامطة، أنّها حركة تمثل طبقة محددة وتدافع عن مصالحها، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية

وقد ألقى الشاعر السوري "أدونيس"، في كتابه "الثابت والمتحول"، الضوء على حركة القرامطة، وأبعادها السيسيولوجية، مبيّناً أنّ السمة المميزة لحركة القرامطة، هي أنّها "حركة تمثل طبقة محددة وتدافع عن مصالحها، وتضع من أجل ذلك برنامجاً اقتصادياً – سياسياً، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية التي ادّعى العباسيون حربهم لأجلها".   

من جهة أُخرى، أثبتت رواية ابن الأثير عن أول مواجهة بين القرامطة والخلفية المعتضد؛ حيث فاجأ جيش المعتضد القرامطة، قرب الكوفة، في أحد معاقلهم، فقتل بعضاً من رؤسائهم، وأسر الباقين، لكنّه أمر بتسريحهم سريعاً، فاعتقالهم يعني شلّ الحركة الزراعية في جميع أنحاء البلاد، ما دلّ على الجانب الطبقي من القضية أولاً، وكثرة الفلاحين الداخلين في الدعوة القرمطية ثانياً، إلى درجة أنّ غيابهم عن الأرض سيؤدي لتعطيل حركة الزراعة، وهو ما يعني أزمة حقيقية تواجه الدولة التي تحاربهم، وتتابعت الهجمات المسلحة التي شنّها القرامطة في العراق، بينما يحلقون براياتهم البيضاء مكتوب عليها آية: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص 5).

أصبحت الحركة شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، المرتبط بتاريخ نشأتها، هذا ما أكّده مروّة، قائلاً: "لقد أعطت للدين وتعاليمه مفهوماً مادياً، وفي حين كانت الدولة تقول "الحقيقة بنت المطلق الثابت"، والحركة القرمطية تقول، بسلوكها وممارستها، "الحقيقة هي بنت المتغير النسبي"، فأفكار هذه الحركة نتاج تاريخي في مرحلة محددة ضمن انتماء طبقي محدد، وهي تمثل تطلعات الطبقة المسحوقة وأهدافها، وهي لذلك حركة نقدية ثورية تهدف إلى تمويل المجتمع، لقد تمكن الجيش الشعبي للقرامطة من إلحاق هزائم كبيرة بالجيش العباسي، قبل أن يتمكن من القضاء عليهم نهائياً، في صحراء الشام وسواد العراق، عام 316".

سياسات اقتصادية عادلة

يتحدث الباحث سهيل زكار، في كتابه "الجامع في أخبار القرامطة"، عن السياسات الاقتصادية التي مكّنت الحركة من الصعود؛ حيث كان الفضل لأبي سعيد الجنابي، مؤسس الدولة القرمطية في البحرين، في تطوير نظام التسيير الذاتي للقرامطة، إلى نظام حكم جماعي يتولى السلطة فيه مجلس منتخب من ستة أعضاء، كما طور الجيش الشعبي التطوعي إلى جيش شعبي منظم، خاض به معارك منتصرة ضدّ الدولة العباسية ببغداد، والدولة الفاطمية بالقاهرة، وحاصر ابنه أبي ظاهر مدينة مكة، عام 317هـ، وأخذ منها الحجر الأسود، ونقله إلى الأحساء عاصمة القرامطة بالبحرين.

انتشرت حركة القرامطة بسرعة غريبة في أوساط الفلاحين بنظام يعدّ أول نظام منتخب، قائم على مبدأ الشورى

وقامت دولة القرامطة في البحرين، عام 286هـ، بمساعدة قبيلة عبد القيس بن ربيعة، ومن الناحية الاقتصادية، قام القرامطة بإلغاء ضرائب الأراضي، وإلغاء الرسوم، وسنّ نظام ضريبي لا يرهق المواطن، مثل؛ وضع ضريبة على المراكب التي تمرّ في الخليج، وضريبة على أهل مقاطعة عمان، وضريبة على الحجاج الذين يقصدون مكة والمدينة كل عام، وضريبة على صيادي اللؤلؤ في مياه البحرين والخليج، وتأتي بقية الموارد المالية من الضرائب التي تفرضها الجمهورية سنوياً، إضافة إلى موارد الثروة الداخلية من ثمرات أرض البحرين وعمان، التي كانت من أخصب أراضي جزيرة العرب .

ويعدّ نظام الدولة القرمطية أول نظام منتخب، قائم على مبدأ الشورى؛ حيث تكون مجلس "العقدانية"، وهو القيادة الجماعية لدولة البحرين، ويتكون من ستة أشخاص ينتخبون الموثوق بهم، من أصحاب القدرات العالية في منظمة الحركة، ويروى في سير القرامطة، أنّه كان إذا دخل الأحساء غريب صاحب حرفة، ولا يملك عملاً، تسلفه الدولة ثمن أدوات العمل، حتى يستطيع كسب عيشه وسدّ دينه دون فائدة، وإذا أصاب أحدهم فقراً أو وقع تحت طائلة دين لا يستطيع سداد سلفته، تقرضه العقدانية ويسدّ دينه دون فائدة، والجدير بالذكر؛ أنّ أغلب الثورات والانتفاضات التي قامت في الدولة العباسية، لم تكن لأسباب دينية أو قومية.

الصفحة الرئيسية