ثنائية المهاجرين والأنصار.. هل أسقط الواقع مثالية الهجرة لدى الجماعات الجهادوية؟

الدين والإرهاب

ثنائية المهاجرين والأنصار.. هل أسقط الواقع مثالية الهجرة لدى الجماعات الجهادوية؟


21/03/2018

عاودت التنظيمات الجهادوية إعادة إحياء مفهوم الهجرة المكانية التي كان النبي، عليه السلام، أغلق بابها بعد فتح مكة؛ إذ قال "لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية"، مستندين إلى أنّ الدولة الإسلامية التي دشنها الرسول وصحابته من بعده قد سقطت بسقوط الخلافة، وعلت راية الكفر تلك الديار بعد أن غرقت مجتمعاتها في مستنقعات الجاهلية!

بات من الضرورة إذن عند تلك الجماعات محاولة تمثل تجربة الجماعة الإسلامية الأولى، في خطواتها ومراحلها وبناء دولتها "وفق رؤيتها"، وإعادة تجربة الهجرة المكانية في أرض ما يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لبناء إمارة وليدة تتخذها بعد ذلك قاعدة ومرتكزاً لسلب الأرض، تمهيداً لإعلان الخلافة على منهاج النبوة.

أعادت التنظيمات الجهادوية إحياء مفهوم الهجرة المكانية التي كان النبي عليه السلام أغلق بابها بعد فتح مكة

انقسم المكوّن الجهادي بناء على ذلك إلى قسمين: الأول: هم المهاجرون  الأجانب والثاني: هم الأنصار من سكان البلاد المحليين، وحمل الاسم الثاني من كنى الجهاديين ذلك التصنيف (المهاجر والأنصاري)، أو النسبة إلى المكان الذي ينتمي إليه الشخص (الشامي، العراقي، الجزراوي، التونسي، الأمريكي، المصري ألخ..) ليعرف ما إذا كان من المهاجرين في تلك البلاد أم من السكان المحليين.

إلا أنّ النزعات القومية والعرقية كسرت في نهاية المطاف مفهوم الهجرة المثالي وأسقطته، وآل المهاجرون على وجه الخصوص لمآلات مأساوية لا تشي بشيء من النصرة والتآلف، فبينما قبل الأنصار في عهد النبي  -عليه السلام- إمرة المهاجرين وسيادتهم لم يقبلها العنصر المحلي في التنظيمات الجهادية؛ بل وألحقوا بهم أسباب الفشل والإعاقة مرددين مقولة "أهل مكة أدرى بشعابها".

برز مفهوم الهجرة عند جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى بمصر في سبعينيات القرن الماضي

موسم هجرة الجهاديين

برز مفهوم الهجرة عند جماعة التكفير والهجرة "جماعة المسلمين"، التي أسسها شكري مصطفى في مصر في سبعينيات القرن الماضي، ونفر رجالتها للجبال معتزلين المجتمع، إلا أنّ تلك الجماعة وئدت مبكراً.

وعند اندلاع الحرب الأفغانية العام 1979، تحولت أفغانستان موطئ قدم المهاجرين الذين حاولوا نشر المعنى والمفهوم باعتبارها أرضاً لها قدسية؛ إذ وردت في الأحاديث على أنّها المنطلق الرئيس للزحف نحو الشام والنصر على الكفار وإقامة الخلافة على منهاج النبوة ونزول المهدي.

بيد أنّ الواقع عرض هؤلاء المهاجرين إلى خذلان من الأنصار، ولم يكونوا كسابقيهم من الذي آووا رسول الله -عليه السلام- الذي نجح في التأليف بين قلوب الأوس والخزرج الذين آووا المهاجرين ونصروهم.

النزعات القومية والعرقية كسرت في نهاية المطاف مفهوم الهجرة المثالي عند الجهاديين وأسقطته

لقد انتصرت النزعة العرقية والقبلية والقومية، ولم يقبل الأنصار الجدد أن يتسيدهم المهاجرون الأجانب، باعتبارهم السكان الأصليين للبلاد.

فعندما خرج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، اندلعت الحرب الأهلية، وبات على هؤلاء المهاجرين أن يختاروا أياً من الفرق ينحازون لقتالهم، فذهب بعضهم للقتال بجانب أمير الحرب قلب الدين حكمتيار،  وقليل منهم ذهب للقتال ضد خصمه أحمد شاه مسعود، ومنهم من اعتزل القتال وقبع في بيشاور باكستان، حتى سلمتهم بي نظير بوتو لأنظمتهم، بعد أن اشترطت عليهم تقديم أوراق ثبوتية وجوازات سفر، كانت القاعدة قد انتزعتها منهم حتى تتحكم في مسار تحركاتهم، فآل كثير منهم إلى السجون والترحيل، أو الهرب إلى اليمن ومنها إلى السودان.

لم تمكث تجربة هجرتهم إلى السودان طويلاً فقد تخلت عنهم حكومتها وطردتهم بعد أن استولت على أموال بن لادن.

برز مفهوم الهجرة عند جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى بمصر في السبعينيات

واجه هؤلاء المقاتلون تجربة بائسة في الشيشان، ولاقى زعيمهم خطاب مصيراً تراجيدياً؛ حيث تمكن عدد ممن كان حوله بوضع السم له فمات بعد عدة ساعات.. وهكذا طردوا من البوسنة بعد اتفاقية دايتون... كانت هناك هوة سحيقة بين الواقع ومخيال هؤلاء الجهاديين المهاجرين.

وعندما عاود بن لادن ورفاقه إلى أفغانستان، ما كان له إلا أنّ يخضع لمبايعة الملا عمر أميراً للمؤمنين، مما أدى إلى انشقاقات داخل جماعته التي كانت ترى من الطالبان "الأشعرية" مخالفة للمنهاج السلفي القويم لكن القاعدة تنازلت عن السلطة، وغضت الطرف عن المنهج مقابل الحماية والملاذ.. وفي النهاية أفضى كل ذلك إلى تشريد المهاجرين بعد ضربات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، فقد تكاتل القبليون لأخذ ثأرهم من الطالبان ومعهم هؤلاء المهاجرين التي وضعت الولايات المتحدة على رؤوسهم مكافآت يسيل لها اللعاب.

محرقة العراق

في العراق التحق المهاجرون بفصائل المقاومة لكن الحصة الأكبر، ذهبت للالتحاق بتنظيم أبو مصعب الزرقاوي، وبعد مقتله، وعندما أوشكت القوات الأمريكية على الانسحاب استعد تنظيمه لإعلان دولة في المثلث السني، إلا أنّ الأنصار لم يرضوا للمهاجرين أن يتولى أحدهم الإمامة فقد ذهب أبو حمزة المهاجر إلى تنصيب أبو عمر البغدادي، وظل هو أميراً للحرب، وتعرض المهاجرون إلى القتل والسجن والتعذيب على أيدي الفصائل والعشائر التي ذهبت لتشكيل حلف الصحوات، الذي كان من ضمن أولوياته إنهاء وجود العنصر الأجنبي على أراضي الدولة العراقية، بعد أن شكلوا عليها عبئاً لم يعد من الممكن احتماله، فقتل الآلاف منهم فخرج أبو محمد المقدسي، ليحذر الجهاديين من الذهاب إلى ما أسماه "المحرقة العراقية"، وخرجت شهادات من المهاجرين تكشف عن أنّهم لم يكونوا يجدوا مكاناً يدفون فيه أقرانهم الذين كانوا يُقتلون بالجملة بعد أن تحولوا من حرب الخلايا والعصابات إلى الحرب المواجهة المباشرة والمكشوفة، وانتهى الحال بالتنظيم إلى أن يصبح غالبية قادته من العراقيين المنتمين لحزب البعث المنحل.

تحولت الشام إلى محرقة للجهاديين الأجانب

تصفية المهاجرين في الشام

تحولت الشام إلى محرقة للجهاديين الأجانب، فكانوا كدبابير تجمعوا في خلية، حتى إذا امتلأت بهم أحرقت بهم جميعاً، فلم يتعرضوا للتصفية من أعدائهم؛ بل من الفصائل السورية الإسلامية الذين رأوا فيهم سبباً لما حل بالشام من خراب، فبدأوا سلسلة من التصفيات لقادتهم في خضم الصراع المشتعل بينهم.

خلال الشهر الماضي تزايدت وتيرة استهداف "الأجانب"، في ضوء الاقتتال بين "تحرير الشام" و"الزنكي".

ففي البداية، استهدفت "الزنكي" قيادي بـ "تحرير الشام" يدعي "أبو أيمن المصري"، وتبين أنه "إبراهيم البنا"، أحد مؤسسي فرع تنظيم "القاعدة" في اليمن، و«المزور» الرئيسي لأوراق عناصر التنظيم للتنقل بين دولة وأخرى.

بعد مقتل الزرقاوي الأنصار لم يرضوا للمهاجرين أن يتولى أحدهم الإمامة فتولاها أبو عمر البغدادي

"هيئة تحرير الشام" ردت على استهداف "أبو أيمن" باعتباره أحد قياداته المسؤول عن شؤون التعليم والمهاجرين، باستهداف مسؤول شرعي في حركة "أحرار الشام"، وهو يحمل الجنسية المصرية أيضاً.

وعلى أحد حواجز "تحرير الشام"، طالب عناصرها من "أبو تراب المصري" بالترجل من سيارته التي كان يستقلها، بعد سؤاله عن الجهة التي يتبعها، فأجاب أنه يعمل مع "أحرار الشام"، فما كان من عناصر الهيئة إلا تصفيته.

بدأت تتعالى نبرات استهداف العناصر الأجنبية، من قبل الفصائل السورية وبعضها البعض، حتى إنّ المناصرين لتنظيم "القاعدة" رفضوا مسألة الزج بـ "المهاجرين" في هذا الصراع من قبل "تحرير الشام".

عزم عدد من الأجانب الهروب من سوريا بعد الاستهداف الممنهج لهم من قبل الفصائل وبعضها البعض، مما دعا أصواتاً أخرى للتحذير من ذلك، والتخويف من المصير الذي يمكن أن يلقاه هؤلاء إذا ما فروا في اتجاه دول أخرى.

بدأت الجهادية المعاصرة تشق طريقها نحو الظهور من خلال مناصرة المسلمين في أفغانستان

بين الواقع والخيال

يقول مصطفى زهران، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، إن الهجرة الجهادية القائمة على ثنائية المهاجرين والأنصار من المسائل الأكثر تعقيداً في فهم الحالة الراديكالية الجهادية المعاصرة؛ إذ إنها تمثل محاولة لاستعادة حالة طهرانية في المخيال الإسلامي قل نظيرها، تعود بنا إلى ما حدث في عهد الهجرة النبوية من حيث التآخي بين المهاجرين والأنصار حتى أضحى كياناً واحداً متآلفاً ومنسجماً بصورة يوتوبية ظلت آثارها- وما تناقلته السيرة النبوية من تفاعلات ومواقف كترجمة لها - حتى اللحظة احتلت مساحات كبيرة في المخيال الإسلامي ما تزال  أصداؤها قائمة إلى يومنا هذا.

يكمل "زهران" لـ "حفريات": حينما بدأت الجهادية المعاصرة تشق طريقها نحو الظهور والتعريف بنفسها بداية من خلال مناصرة المسلمين في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفيتي وما تلاها من أحداث البوسنه والهرسك ثم الشيشان وطاجيكستان ..الخ ثم العراق، وتدحرجت الأحداث وترافق معها ظهور تحولات مهمة شهدتها الحالة الراديكالية الجهادية الإسلامية المعاصرة من خلال هجرات لكثير من العرب بدأت من شبه الجزيرة العربية ومصر وغيرها نحو هذه البلدان المتأزمة، طفت على السطح ظاهرة المهاجرين العرب ومثلت إشكالية كبرى في فضاء مغاير سواء أكانت في أفغانستان في بدايتها  وباكستان حيث معسكرات التدريب إلا أنّها ظلت هناك محافظة على مساحة وسط بين هؤلاء المهاجرين والأفغان تتأرجح بين نظرة التوقير من قبل السكان للمحليين كونهم عرباً، والعرفان بالجميل لدورهم المساند لهم قبل تحولاتهم التي بدأها بن لادن وعبدالله عزام ثم الرهبة من أن يحلوا مكانهم في القيادة والرياسة والإمامة . ثم ظهرت بقوة تلك الإشكالية مع خطاب وشامل باساييف في البوسنة والشيشان.

ويستطرد "زهران": يمكننا تأريخ بدء نشوء حالة من الاضطراب وعدم التوافق بين المهاجرين العرب والحاضنة المجتمعية ابتداء في منطقة البلقان والتي شهدت حروب الصرب والروس ضد الأقليات المسلمة، والبلدان الراغبة في التحرر العقدي، وحق تقرير المصير بعد أن تحررت من أغلال الشيوعية بعد أن رزحت تحتها ردحاً من الزمن، تسبب في حجم التعارض والتباين بين تلك المفاهيم والعادات والتقاليد العربية من جهة، وبين واقع مغاير تعايشه تلك المناطق، التي عايشت عقوداً تحت الوصاية الشيوعية ولا تعرف من الإسلام إلا القليل والنادر، خاصة وأنّ طليعة المجاهدين هناك كانوا نواة أولى للسلفية الجهادية في ثوبها المعولم.

ويمضي "زهران" قائلاً: ثم حينما انتقلت مساحات الجهادية العالمية إلى جغرافيات مغايرة مع الغزو الأمريكي للعراقي تبدلت هذه الهجرة وترافقت معها ظاهرة أخرى تمثلت في المقاتلين الأجانب الذين جاؤوا من كل حدب وصوب لمؤازرة إخوانهم المسلمين كما يعتقدون لمواجهة الحملات الصليبية وما شابه حسب تصوراتهم.

عند هذه النقطة يرى "زهران" أنّه: أصبح لدينا ظاهرة لمهاجرين عرب تحولت فيما بعد إلى المقاتلين الأجانب؛ عجماً وليسوا عرباً، وفي كلا المرحلتين كان المخيال الإسلامي النابع من تصورات العهد النبوي هو المحرك الأساسي والرئيس من حيث مسألة المؤازرة والتآخي والتلاحم وما شابه إلا أنها تحولت لمشكلة حقيقية حينما باتت تختلط الأفكار وتتنوع المدارس الفكرية وبدأت تتصارع فيما بينها وبدا الحديث عن إشكالات تمخضت عنها حالات من التشدد الفكري وتبنى تيار سلفي متشدد من الشيشان موقفاً معارضاً حتى لمسألة الخلافة التي تقدم بها أبو بكر البغدادي في الموصل وأعلن عنها في 2014.

مر المقاتلون المهاجرون بتجربة بائسة في الشيشان ولاقي زعيمهم خطاب مصيراً تراجيدياً

يحاول "زهران" توضيح أهم أسباب معضلة المقاتلين الأجانب سواء في مرحلتهم الأولى عندما كانوا عرباً انتقلوا إلى بلاد العجم أو بعد ذلك عندما تبدلت الجغرافيا، وانتقل العجم أنفسهم إلى بلاد العرب.

فالسبب الأول هو تعارض الجغرافيا وتباينات العادات والتقاليد وغلبتها على النمط العربي حتى وإن كان الإسلام هو المشترك بينهما؛ اذ عدم مراعاة ذلك ساهم في ظهور إشكالات عصبية قومية وإثنية مردها عدم فهم محددات السلوك الإنساني النابع من التأثير من البيئة المحيطة والتنشئة المجتمعية.

والسبب الثاني يتمثل في أنّ تيار التشدد جاء على غير المتعارف عليها من الحالة الأعجمية وتحديداً أغلبه من المقاتلين الشيشان، وهو نتيجة لحجم ما تتعرض له الأقليات المسلمة وما تمارسه النخب الحاكمة في هذه المنطقة "البلقان" خاصة النظام الروسي الداعم لتقليم أظفار الحالة الدينية في هذه المنطقة مما ساهم في ردة فعل قوية عززت من تطرف الحالة الإسلامية في ظل سياق محفز لها.

أما الثالث فهو التباين بين المخيال الماضوي اليوتوبي ونظرته المثالية وواقعية الحالة الإسلامية الجهادية التي تختلط فيها المفاهيم والأعراف والتقاليد والفهم المضطرب للإسلام ما يجعل كل ذلك ذا انعكاسات أكثر سلبيه على الواقع الجهادى ومسألة المهاجرين الأجانب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية