أحمد بان: جماعة الإخوان شرعَنت العمليات الإرهابية

أحمد بان: جماعة الإخوان شرعَنت العمليات الإرهابية

أحمد بان: جماعة الإخوان شرعَنت العمليات الإرهابية


16/03/2024

أجرى الحوار: صلاح الدين حسن

ما إن صعدت جماعة الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم في مصر، وظنّت أنّها أمسكت بتلابيب لحظة التّمكين التي حفلت بها أدبيّاتها، حتّى أطاحت بها الجموع الهادرة، وتم تقديم قياداتهم المتطرفة إلى القضاء، وخفُت نجمها بعد أن سطع لنحو عامين، إلّا أنّ مستقبلها ما زال يلفّه الغموض؛ بين مَن يرى أنّها تشظّت وتشرذمت وأوشكت على الموت الإكلينيكيّ، ومَن يرى أنّها قد تعود في ثيابٍ جديدةٍ.

ربّما يؤمن أصحاب الرّأي الأخير بأنّ تلك الجماعة عصيّة على الاندثار، مستندين إلى شواهد تاريخيّة، وجينات بنيويّة يتمتّع بها التّنظيم، وهي التي دخلت في صدامات سابقة مع المجتمع المصري والنّظم السياسيّة، منذ الملكيّة حتّى الآن، ومع ذلك؛ فهي تخرج في كلّ مرّة، كــ "قط بسبعة أرواح"، بعد أن يظنّ الجميع، في كلّ مرّة، أنّه لن تقومَ لها قائمة بعد ذلك.

الجماعة ليست مؤهَّلة للحكم، ولم تربِّ كوادر قادرة على إدارة الدّولة المصريّة

حاولنا استشراف مآلات جماعة الإخوان ورصد أوضاعها الراهنة، مع الخبير المصريّ في شؤون الجماعات الإسلاميّة أحمد بان؛ الذي يتوقع في حواره مع "حفريات" بأنّ تلك الجماعة قد يفضي بها الحال إلى تكوين مذهبٍ جديدٍ على أنقاض الادّعاء بالمظلوميّة، بعد أن نجحت هذه المرّة، أيضاً، في تحويل فشلها إلى محنة وابتلاء، حتّى تتجنّب الصّراعات الدّاخلية وموجات المساءلة والحساب من قبل أعضائها ومن جانب المجتمع المصري.
هنا نصّ الحوار:

رغم تعرّض جماعة الإخوان المسلمين لنكبات كبرى عبر تاريخها، إلّا أنّ هذا التّنظيم كان لديه القدرة، في كلّ مرّة، على إعادة إحياء نفسه، والعودة في شكل جديد. فما هي الشفرة التي يمتلكها حتّى يعيد صياغة نفسه في كلّ مرّة يتعرّض فيها للخناق المطبق، أم يرجع ذلك لمكوّنات ما في بنيته الفكريّة والتنظيميّة؟ وهل يمكن أن تكمن الجماعة حتّى تنتهز الظرفيّة المناسبة لتقفز في حضن المجتمع والدّولة مرّة أخرى، أم إنّ الظّروف التاريخيّة السّابقة لن يكون لها وجود في المستقبل؟

- تاريخيّاً، استطاعت جماعة الإخوان أن تهضم مواجهة الأنظمة لها، وهذا، في تقديري، عائد لسببين؛ الأوّل: أنّ حسن البنا، مؤسّس الجماعة، كان يتوقّع منذ البداية، أنّ فكرته "جالبة للصّراع مع الأنظمة والمجتمعات"، وأنّه سيدفع، هو وجماعته، بجانب ذلك كلفة باهظة، لقد كان يقول ذلك بوضوح، وقبل أن تحدث حالة التّضييق عليه وعلى جماعته، وقبل حصار حركته، كان يقول: "ما زالت دعوتكم مجهولة بين النّاس، ويوم يعرفونها، ويدركون مراميها، ستلقى منهم عداوةً شديدةً، وستدخلون في طور الامتحان". لقد كان نجاح هذا الرّجل في أنّه حوّل فكرة الفشل إلى ابتلاء في وعي الأفراد من وقت مبكّر، فالفشل الذي هو "نتاج طبيعيّ لسلوك طريقٍ خاطئ يستدعي المساءلة، والمراجعة، وإعادة النّظر في الأفكار والسّلوك" أغلق البنّا الطّريق عليه باكراً، قبل حدوثه، فكان التّنظيم دائماً ما يصف نتائج الصّدام مع المجتمع والسّلطة بـ"المحنة" التي يدَّعي أنّ مردّها جهل النّاس بحقيقة الدعوة، وغربة الإسلام، وأنّ هذه الجماعة أتت لهذه الدّنيا كي تعيد تأسيس الإسلام في هذه الحياة، بالتّالي، فإنّ جهل النّاس بحقيقة الدّين سيستجلب العداوة والرّفض.
هذه هي المحنة الحقيقية لأصحاب الدّعوات، وهي متّصلة بكلّ ما واجهه أصحاب الدّعوات الأيديولوجية تاريخيّاً، بهذا أغلق طريق المراجعة بهذا المفهوم من البداية؛ لأنّه حصّن أتباعه بفكرة "المحنة"، لقد كانت هذه الفكرة هي "الميكانيزم" الذي لجأ إليه "البنّا"، ومن تبعه فيما بعد، لغلق باب المراجعة والتأمّل والاعتراف.

خلق التقيّة في مواجهة المجتمع كان حاضراً باستمرار داخل الإخوان المسلمين وهناك من يمارسها داخل التنظيم نفسه

أمّا مجموعة النّظام الخاصّ التي سيطرت على الجماعة من بعده فقد عزّزت هذه الفكرة، فأنكروا أنّ وجودهم في السّجون "جزاءً وفاقاً" لما فعلوه في السّاحة المصريّة؛ بل محنة حقيقيّة تتعلّق بأصحاب الدّعوات، في مواجهة المجتمعات الجاهليّة التي لا تعرف شيئاً عن إسلامها الحقيقيّ، وهذه الفكرة بُنيت عليها أعمالٌ معرفيّةٌ وإعلاميّةٌ، وسوِّقت دوليّاً على اعتبار أنّ الإخوان هم أصحاب أكبر مظلوميّة في التّاريخ، وكأنّهم "أصحاب الأخدود" في العصر الحديث، الذين لديهم استعدادٌ لأن يُحفر لهم في الأرض، أو يُنشَروا بالمناشير؛ لأنّهم متمسّكون بعقيدتهم، وليسوا متمسّكين ببرنامج فكريّ وسياسيّ مناهض للأنظمة وللمجتمعات.

إذاً، هل ترى أنّ التّنظيم كان يدرك، ولو في عقله الجمعيّ، أنّ المظلوميّة تستجلب التّعاطف الطّاغي على العقل غير المتدبّر للواقع والسّياقات المؤدّية إليه بتجرّد، خاصّة، في مصر والمنطقة العربيّة والإسلاميّة؟
- نعم، وهذا هو صلب النّقطة الثّانية، التي تتعلّق بطبيعة الشّعب المصريّ، على وجه الخصوص، الذي يعدّ من أكثر الشّعوب تعرّضاً للظّلم تاريخيّاً نتيجة للفشل النسبي في خطط التنمية الحكومية، فقد حدثت التّغذية المتبادلة بين مظلوميّة الشّعب ومظلوميّة الجماعة، فبات هناك نوعٌ من التّفاعل المتبادل؛ فالجماعة كانت تبعث إشارتها إلى الشّعب، وكانت فحواها "نحن نتعاطف معكم، ومع مظلوميّتكم، ونريد أن نستنقذكم ممّا أنتم فيه"، وهذا الشّعب تعاطف أحياناً مع الجماعة؛ لأنّه ظنّ، لفترات طويلة، أنّها تحاول أن تحرّره من الفساد والظّلم عبر دولة الشّريعة أو دولة العدالة الإسلاميّة التي يعدهم بها الإخوان.

وهل ما زالت هذه الحالة حاضرة؟
- لا، كان هذا قبل مرحلة وصول الجماعة للحكم؛ فهناك فاصل مهمّ يفصل لحظة ما قبل 2013 وما بعد 2013، أو تحديداً؛ ما قبل 2012 وما بعد 2012

ما الذي حدث وفصل بين المرحلتين؟

- الذي طرأ أنّ الإخوان وصلوا لامتلاك الحكم بشكل شبه كامل، وليس مجرّد مشاركةٍ فيه؛ فقد سيطروا على مقاعد البرلمان بالكامل، بأغلبيّة تصل إلى 70% من مقاعد البرلمان، بغرفتَيه (الشّعب والشّورى)، والمنافسة على مقعد رئاسة الجمهوريّة والوصول إليها، فأضحى هناك رئيس من جماعة الإخوان للمرّة الأولى، ومع كلّ الدّعاية التي يسوِّق لها التّنظيم في أنّه أُفشِل، ولم يُترك للتّجربة أن تتطوّر، إلّا أنّ هذه التجربة، في وعي قطاعات واسعة من الإخوان، كانت فاشلة، ليس بمنطق أنّ الدّولة العميقة أفشلتها، لكن بمنطق أنّ الجماعة ليست مؤهَّلة للحكم، ولم تربِّ كوادر قادرة على إدارة الدّولة المصريّة، ولم يكن لديها الفقه السياسيّ الذي يمكِّنها من إدارة دولة بحجم مصر وتعقيدها، وتعقيد هذا الإقليم، وتعقيد هذا العالم. هذا الفشل شعرت به قواعد الجماعة كما شعر به المجتمع المصريّ، لكن ما أفاد الجماعة هو، في رأيي، "فضّ رابعة" بهذه الطريقة التي وفّرت للجماعة غطاءً من المظلومية المدعاة لتبرر فشلها في الحكم، وفي ظني أنّ الدولة لو لجأت إلى التدابير الأمنية الناعمة لانتهت أسطورة هذه الجماعة، تنظيماً وفكراً.

خلق التقيّة في مواجهة المجتمع كان حاضراً باستمرار داخل الإخوان المسلمين وهناك من يمارسها داخل التنظيم نفسه

هل اعتصام "رابعة" لديه القدرة على الدّفع بدماء جديدة في شريان الإخوان المتجلّط؟ وهل تكفي بمفردها لعودتهم مرّة أخرى إلى الفضاء العام، أيّاً كان شكل تصوّر هذه العودة؟
- يمكننا أن نتحدّث عن إخوان ما بعد رابعة، الذين هم إخوان ما قبل رابعة، كما فرَّقنا قبل ذلك بين الإخوان قبل وصولهم للحكم، والإخوان بعد وصولهم للحكم؛ لأنّ "رابعة" فتحت مسارات جديدة للحركة، كانت تلك الحركة ودّعتها في السابق، وأغلقت مساراتها، التي هي مسارات العنف الجديد، الذي نشأ أعقاب "الفضّ" تحت مظلّة الثّأر.
دعنا نتحدث عن التصوّر المبدئيّ لعودة الإخوان قبل أن ننخرط في الحديث في محور العنف. هل يمكن أن تشرب الجماعة ماء الحياة،  وتدبّ فيها الرّوح من جديد؟ وهل هذا وارد في المعيار التاريخيّ، أم إنّ الظّرف الاجتماعيّ، حتّى داخل الحركة نفسها، لم يعد يتّسع لذلك؟
-  دائماً ما ساهمت طبيعة إدارة السّلطة للصّراع في إطالة عمر التّنظيم وفكره. عبد النّاصر رغم أنّه وقف في وجه الحركة بشكل قويّ، إلّا أنّه طرح إلى جانب المواجهة مشروعاً استطاع أن يسحب به قطاعات حتّى من داخل جسد الإخوان، وكان له دورٌ واضحٌ في تبنّي قادة من النّظام الخاصّ في الإخوان لأفكاره ومشروعه، واتّخذ منهم وزراء مثل؛ أحمد حسن الباقوري، وعبدالعزيز كامل، هذه أسماء برزت على السّاحة المصريّة، والتيّار الإسلاميّ، وواصل (السّادات) هذه السّياسة، حتّى إنّه أدخلهم في بنية الدّولة أيضاً. أمّا (مبارك) فكانت لديه مقاربةٌ في تحديد سقف الحركة؛ إذ كان هناك اتّفاقٌ بين الاثنين، وشروطٌ على الطّرفين ألّا يتجاوزها، لكنّهم كانوا يحاولون، في أوقات معيّنة، توسيع هامش الحركة، بعدها كان النّظام يأخذ إجراءات ضدّهم لترجعهم للخطوط الخلفيّة.
لكنّ "يناير" أحرقت كلَّ تلك الخطوط، هل هكذا تصوّر قادة الجماعة؟
- "يناير" طرحت واقعاً جديداً، تصوّرت في غضونه جماعة الإخوان أنّ الأبواب قد فُتحت، بالتّالي، نظرت إلى الزّخم السياسيّ في أعقاب "يناير"، وذهبت للدّفع بتأسيس عدد كبير من الأحزاب المعبّرة عن عددٍ من تيّارات الحالة الإسلاميّة، وسيطرت جماعة الإخوان على غالبيّتها؛ ففي هذه المرحلة تصوّرت جماعة الإخوان، بطفوليّة مدهشة، أنّها قادرة على أن (تظهّر) كلّ هؤلاء لصالحها، على كلّ تبايناتهم وشكوكهم نحو الإخوان وشكوك الإخوان تّجاههم، وشكّلت ما سمِّي "الهيئة الشرعيّة للحقوق والإصلاح" كي تمثّل معسكراً إسلاميّاً في مواجهة المعسكر المدنيّ، واستبطان المسألة بهذه الطريقة كان من أدبيّات النّظام الخاصّ الذي امتدّ، إلى هذه اللّحظة، في أدبيّات القطبيين الذين أداروا الصّراع.

أنت ترى أنّ جماعة الإخوان كانت تعيش في مأزق كبير قبل "رابعة"، هل كانت على وشك السّقوط التلقائيّ؟
- قبل "رابعة" كانت الجماعة في مأزقٍ كبيرٍ جدّاً بعد إزاحة الإخوان من الحكم، عبر إجراءات واضحة في 30 يونيو، اعتبره المفكّر السيد ياسين بمثابة "انقلاب شعبيّ"، وهي تسمية دقيقة؛ فهي انقلابٌ لكنّه شعبيٌّ، لم تستطع القوات المسلّحة أن تنقلب على سلطة مدنيّة منتخَبة، إلّا إذا كانت ترى جمهوراً عريضاً تمتلئ به السّاحات والميادين. أمّا الإخوان والقيادات فكانت تدرك أنّ هناك تحوّلاً حدث في الشّارع. لكن أريد أن أعود إلى مرحلة ما قبل فضّ الاعتصام؛ ففي هذا الاعتصام كان هناك سؤالٌ كبيرٌ يتردّد في أوساط الجماعة؛ هو  "ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ ألم نكن بالأمس في قصر الحكم؟" هذا السّؤال كان يتردّد داخل "رابعة"، وهنا استحضرت ثنائيّة (المحنة والفشل)؛ فقادة جماعة الإخوان حوّلوا القضية برمّتها إلى محنة تحمي التّنظيم، لكن أيّ نظام كان من المفترض أن يكون معنيًّا بأن يبرِز القضيّة باعتبارها فشلًا للإخوان، وليست محنة من السّماء تتعرّض لها.
لكنّ تلك التّنظيمات وضعت الدّولة برمّتها في خيارات صعبة، فلم يكن هناك ترف لتمييع فضّ الاعتصام بعد حضور شبح الحرب الأهليّة وانفراط عقد الدّولة؟
- أنا لا أتحدّث عن عدم فضّ الاعتصام، أنا أتحدّث عن فضّ الاعتصام بالقوّة، وبهذا الشّكل الذي حدث، فأنا كنت ممَّن كتبوا قبل فضّ الاعتصام مقالاً بعنوان "لا تمنحوهم مظلوميّة جديدة"؛ لأنّ الإخوان كانوا بحاجة ماسّة إلى هذه المظلوميّة لتغطي على فشلهم في الحكم.
ماذا؟
- لأنّ هذه المظلوميّة وحدها كانت كفيلة أن تقطع دابر السّؤال: "من الذي جاء بنا إلى هنا؟"، لكنّ الفضّ بطريقة ناعمة كان سيمنع حصول الإخوان على المظلوميّة، والدّولة كانت تملك عناصر كثيرةً جدّاً، ولديها القدرة على تفريقه من الدّاخل.
إذاً، أنت ترى أنّ الدّولة فقدت صبرها باكراً؟
- لقد غاب العقل في إدارة المشهد، فبدت الدّولة وكأنّ تحرّكها سلطة وهيْبة، وأنّ سلطتها هذه تتميّع في مواجهة اعتصام على مرمَى حجرٍ من وزارة الدّفاع، فهي كانت مدفوعة بهذه العقلية، فعقل الدّولة إذا تعرَّض للسّخونة، فدائماً ما يتّخذ قرارات مندفعة.
فالدّولة تسعى دائماً إلى تبريد عقلها كي تأخذ قرارتها الصحيحة والمحسوبة بإتقان، وتقارن بين العائد والتّكلفة، وهذا لم يحدث في هذه اللّحظة، فبدأت المظلوميّة، هنا، تحقّق أهداف قادة التّنظيم، هم حصلوا على مظلوميّة تبرّر فشلهم، وتقطع الطّريق أمام سؤال المراجعة أو المساءلة للقيادات التي أخذت التّنظيم من قصر الاتحاديّة إلى الاعتصام في ميدان رابعة.
لو أنهت الجماعة الاعتصام بشكل سلميّ وغير عنيف، لتعرّضت لنوع من المساءلة. أهذا ما تقصده؟
- ليس مجرّد مساءلةٍ؛ بل سينشأ داخل الجماعة صراع داخليّ ضار.
لكنّ الجماعة حاولت أن تقفز على هذا للدّخول في صراع مع الدّولة واكتساب المظلوميّة التي ستغطّي على التّساؤلات؟
- لم تكن تغطّي؛ بل تحوّل ذلك إلى محنة وإيهام بأنّهم كانوا يسيرون في الطريق الصحيح، وهناك من ذهب لقطع هذا الطّريق.

فضّ اعتصام رابعة بعنف وفّر للجماعة غطاءً من المظلومية المدعاة كانت تبحث عنه لتبرر فشلها في الحكم

لكن، مع مرور الوقت، هل تظلّ هذه المظلوميّة ناجعةً في اعتماد الجماعة عليها لمواصلة الحياة؟
-  قبل هذا، كانت المظلوميّة سلاحاً ممتدّ المفعول، يمكنه الصّبر لمدّة 30 عاماً أو يزيد، لكن هذه المرّة ستظلّ المظلوميّة خمسة أعوام لا أكثر، في تقديري، ويفقد هذا السّلاح أثره، بدليل أنّ هناك من بدأ في تجاوز "رابعة" داخل الجسد الإخوانيّ الآن، خاصّة الرّعاة الإقليميّين الذين حاولوا ركوب هذه المظلوميّة واللّعب عليها، لقد فقدوا، الآن، حماستهم لها تحت وضع تحديّاتٍ إقليميّة أعقد، فهناك موقف حماس، مثلاً، الذي أحدث مشكلاتٍ داخل قواعد الإخوان.
هل ترفض الجماعة حتى الآن، وبشكل رسميّ، تبنّيها للعنف على يد بعض المجموعات التي رفعت السّلاح في مواجهة الدّولة؟
- ماذا تقصد بالجماعة؟ الجماعة لم تعد جماعة واحدة؛ فقد توسّعت فعليّاً إلى قسمين: الأوّل: تصرّف كحركة تعمل وفق المتاح، عندها استعدادٌ لأن تعمل تحت مظلّة أيّ نظام سياسيّ، كما عملوا تحت سقف (مبارك) بنفس البناء مع تعديلات طفيفة في لائحتها، وتبقى السّلطة المطلقة والشّكل الهرميّ قائمَين، دون أيّة إصلاحات تُذكر، وهؤلاء سيطروا على ستّة وعشرين مكتباً إدارياً للجماعة داخل مصر تقريباً، من أصل واحد وأربعين. أمّا المجموعة الأخرى، التي كان يتزعّمها محمد كمال، عضو مكتب الإرشاد، فقد سيطرت على عدد من المحافظات، إلّا أنّ هذا الجناح تشظّى الآن.
وكيف خرجت أفكار العنف هكذا مرّة واحدة؟
- فكرة العنف عندما خرجت من داخل معسكر (كمال) لم تكن اختياراً عقليّاً هادئاً، بقدر ما تدحرجت، شيئاً فشيئاً، حتّى وصلت إلى العنف الواضح والمباشر؛ إذ إنّها بدأت بلجان ردعٍ، ثمّ تطوّرت، بعد ذلك، إلى تنظيماتٍ مسلّحةٍ، خرج جزءٌ منها عن السّيطرة.
شرعنة العلميات الإرهابية!

هل كان لديهم أدبيّات يستطيعون أن ينهلوا منها في "شرعنة" العمليات الإرهابيّة؟
- نعم، وقد خطت خطوات أبعد من السّياقات القديمة؛ فبدأنا نرى مفردة "الهيئة الشرعيّة" في خطاب الإخوان، وأنت تعلم أنّه مصطلحٌ متداولٌ في أوساط الجهاديّين، لا في أوساط الإخوان، حتّى عندما كان سيّد سابق، المنظِّر الشرعيّ التاريخيّ للتّنظيم، يفتي بقتل أحد، كان يفتي دون أن يوثّق هذه الفتوى، وفي إطار سريّ جدّاً، دون أن يعلن هذا. وبات هناك هيئة شرعيّة تصدر بيانات مثل: "بيان الكنانة واحد"، و"بيان الكنانة اثنان"، وتستخدم مفردات مثل: دفع الصّائل، وهي مفردات الحركة الجهاديّة التي ظهرت لدى الإخوان مؤخّراً.
تاريخيًّا؛ شهدت جماعة الإخوان مثل هذه الحالات؛ فهناك مجموعات رأت أنّها تنتمي إلى الجماعة الأمّ، إلّا أنّها تحاول أن تأخذها في الطّريق القويم، ثمّ تبدأ بالتحوّر، حتّى تصل إلى طورٍ جديدٍ، بعد تشكّل معالمها الخاصّة بها، ثمّ تنفصل عن الجماعة الأمّ، ثمّ تبدو جماعة الإخوان، بعد ذلك، بريئةً من الأعمال العنيفة، وهذا حدث بعد صدام الجماعة مع الدّولة عام 1965؟
- لم يكن بعد 1965 بل من عام 1947، عندما لم يعد حسن البنا يسيطر على مجموعة النّظام الخاصّ، وهذه المجموعة التي تدرّبت على السّلاح، كانت قد رفضت سلطته، فأحد قيادات الإخوان قال لي شخصيًّا إنّ حسن البنا دخل، ذات مرة، اجتماعاً لمجموعة النّظام الخاصّ قبل عبد الرحمن السندي، المسؤول المباشر عن النّظام، لكنّ السندي عندما دخل قال: ماذا يفعل هذا الرّجل هنا؟ كانوا يتمثّلون قول الشّاعر: "السّيف أصدق إنباءً من الكتب...."، فأنتم أصحاب الدّعوة، ونحن أصحاب الجهاد والفعل. ظلّت الجماعة طوال تاريخها تنتج ذراعاً مسلّحاً يتمرّد عليها بعد ذلك، وما زال هذا الجناح قائماً حتّى الآن، وأنت لا تعدم في تاريخ جماعة الإخوان الذي يمكن أن يحدّثك بأنّ هذا توزيع أدوارٍ، فعندما يأتي عبدالمنعم عبدالرؤوف، أحد كوادر الجماعة في الجيش، بعد إحالته للتّقاعد، ليقول لحسن الهضيبي، المرشد الثاني للجماعة: أنا سأقوم بانقلاب ضدّ جمال عبدالناصر، وأحتاج إلى 500 رجلٍ من الإخوان، فإذا نجح الانقلاب، يمكن لكم أن تتبنّوه، وإذا فشل تستطيعون أن تتنصّلوا منه، فطوال الوقت كان هذا "الميكانيزم" حاضراً.
أعلنت حركة "المقاومة الشعبية"، عبر ناطقها الرّسميّ، أنّه أصبح لديها فكرٌ جديدٌ، ومنهجٌ جديدٌ، بعيداً عن جماعة الإخوان، وهذا ما يؤكّد أنّ هناك لحظة ما تنفصل فيها مثل تلك التّنظيمات عن الجماعة الأمّ، وتستطيع الجماعة، بعد ذلك، أن تتبرّأ تماماً من كلّ أفعال العنف، ثمّ تعود مرّة أخرى بخطاب آخر، في وقت ما، وهذا ما حدث تاريخيًّا. فما رأيك؟
- جماعة الإخوان لم تعترف بالعنف طوال تاريخها.

جماعة الإخوان استكملت دورة حياتها، ومرّت بما يمرّ به الأحياء؛ من طفولة، ثمّ صبا، ثمّ شباب، ثمّ شيخوخة

لكنّ هناك جماعاتٍ خرجت من رحم محنتها، إن صحّ التّعبير، بدليل شهادات عددٍ من قادة التيّار الجهاديّ في هذا الشّأن؟
- حدث ذلك في الجماعة تاريخيّاً، فظهرت "الطّليعة المقاتلة" في سوريا، وكان أبرز نجومها (أبو مصعب السوريّ)؛ الذي كان من أفراد هذه الطّليعة، ثمّ أصبح منظِّراً جهاديّاً بعد ذلك، فهذا التطوّر كان موجوداً طوال الوقت، حتّى أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي، كانا من الإخوان. لكن أن يعود تنظيم الإخوان الذي يخلط السياسيّ بالدعويّ، فلا أرى أنّهم سوف ينجحون في هذا بنفس نجاحاتهم في السّابق؛ لأنّ هناك متغيّراً طرأ، هو أنّ المجتمع لم يعد قادراً على التّعاطف مع مثل هذه المظلوميّة أكثر، فلم يعد هذا السّلاح ناجعاً؛ بل فقد صلاحيّته مع الوقت.
هل ما زال لدى تلك الجماعة ما تستطيع أن تجنِّد به أعضاءً جدداً؟ وهل ما زال هذا المشروع مصدرَ إلهامٍ لشبابٍ وعناصرَ تستطيع الجماعة أن تجذبهم في السّابق، أم أنّ روافد التّجنيد خفتت وقلَّت؛ لأنّ العناصر المجنَّدة والمفترضة سترى فيها الجماعة الفاشلة في مخيالها؟
- أعتقد أنّ الفكرة فقدت الكثير من جاذبيّتها وإلهامها، وهذا، بلا شكّ، سيؤثّر في عمليّات التّجنيد، فالتّجنيد ليس مرتبطاً بوسائل؛ بل له صلة أكثر بـ "الجاذبيّة والإلهام". أعتقد أنّ هذا تراجع في نفوس كثيرٍ من النّاس، حتّى في نفوس قطاعات من الإخوان، وهذا هو الأهمّ؛ لأنّ القلب المعنيّ بفكرة التّبشير بالفكرة قد تخلخلت قناعاته، وأدركت قراءات كثيرة للإخفاقات داخل الجسد الإخوانيّ نفسه، وهذا عامل حاسم في المسألة.

الإخوان في الإنعاش
إذاً، إذا توقّفت عمليّات التّجنيد فهل يمكننا أن نقول: إنّ الجماعة ستشهد انقطاعًا جيليًّا مستقبلًا؟

- في النّهاية، إنّ أيّة فكرةٍ لها دورة حياة، وأنا مع أنّ جماعة الإخوان استكملت دورة حياتها، بمعنى أنّها مرّت بما يمرّ به الأحياء؛ من فترة طفولة، ثمّ صبا، ثمّ شباب، ثمّ شيخوخة، ثمّ وفاة. هذه الشّيخوخة طالت إلى حدٍّ كبيرٍ، وعاجلتها ظروف الوصول إلى الحكم، ففشلت في إدارته، وفي إدارة الاحتجاج والمعارضة، فجمعت بين الفشلَين تحت مظلّة تعقيدات دوليّة لها أثرها، بما يؤكّد أنّنا، في النّهاية، أمام إرهاصات واسعة لمراجعة داخل جسد الجماعة، تبدو فيها مدفوعة بفشلها من جهة، وبرفض المجتمع تحت أيّة مسوغات من جهة أخرى.
قلت إنّ جماعة الإخوان لم تراجع نفسها، وإنّ الواقع السياسيّ هو الذي يحرّكها، لأنّ الحركة تسبق التّنظير، فهل ترى أنّ ثمّة سياقاً مختلفاً هذه المرّة، أم أنّ المشكلة تكمن في "الجين" الإخوانيّ أو في بنيتها الفكريّة والتنظيميّة التي تمنعها من ذلك؟
- نعود إلى العتبة التي بدأت بها كلامي؛ هل الذي جرى محنة أم فشل؟ لأنّ كلّ نتيجة ستؤدّي إلى مسارٍ مختلفٍ. فإذا اقتنع العقل الجمعيّ للجماعة بأنّ الذي جرى هو فشلٌ يستدعي إعادة النّظر في جملة الأفكار، والوسائل، والأدبيّات. إذاً؛ فهم على طريقٍ صحيحٍ للمراجعة، قد تنتج شيئاً جديداً، مع ملاحظة أنّ القيادات في مثل هذه التنظيمات هي التي تقتنع ثمّ ترشّح للقواعد، فإذا حدث، فأنتَ أمام مراجعة قد تنتج فكراً جديداً، وإذا لم يحدث، وسيقابل بمقاومة شديدة بالقطع؛ فقد تعيد الجماعة إنتاج نفسها في نفس الشكل القديم المتخلّف، حتّى إن بقي الجسد ضعيفاً تنظيميّاً، إلّا أنّه قد يؤسَّس على ضفاف المظلوميّة لمذهبٍ إسلاميٍّ جديدٍ، تقترب فيه الحالة الإخوانيّة من مشاهد تأسيس المذهب الشيعيّ، حتّى وإن بقيت أقليّة، فإذا استسلمت هذه الأقليّة لأجواء المحنة فهذا سيوصلها إلى مذهبٍ دينيٍّ جديدٍ، بالتّالي، لن تنجز مراجعةً، ولن تخرج من متاهتها.
وأعتقد أنّ هذا قد يحدث، وقد يحدث معه مجموعة لإنتاج مراجعات تتزايد شجاعتها مع الوقت، ويوجد هنا عاملٌ قد يسارع من هذا أو يبطئ منه، وهو طبيعة اختيارات النظام السياسيّ وأدائه وخياراته، فكلّ نجاح للنّظام في النّظام السياسيّ سيصبّ في مصلحة هذا.


وهل يمكن أن تكون هناك معالجة لمظلوميّة الإخوان، سواء من المجتمع المدنيّ أو الدّولة؟
- المجتمع المدنيّ ليس مؤهّلًا لذلك، والنّظام السياسيّ غير راغبٍ فيه؛ لأنّه يميل، دائماً، إلى المقاربة الأمنيّة، فلا أتصوّر أن يكون ذلك عاملاً حاسماً في مواجهة الفكرة؛ إنّما قد يكون عاملاً حاسماً في مواجهة التّنظيم.
أتعتقد أنّ الجسد الإخوانيّ العامّ لم ينخرط في العنف المسلّح؟
- أنا على يقينٍ بأنّ (80 %) من الجسد الإخوانيّ غادر المشهد بعد فضّ اعتصامَي رابعة والنّهضة، ولم ينخرط في حالة احتجاج، أو في حالة عنف، وأنّ ما يواجه المجتمع المصريّ هو الـ (20%) المتبقية، الفاعلة والمنقسمة ما بين المؤمنين بمحمود عزّت والمؤمنين بكمال، والأكثريّة مع عزّت.
هل يمكن أن نفسّر هذا بأنّ مجموعات الإخوان التي انخرطت في العنف كان معظمها شباب أغرار؟
- نعم، وفشل هؤلاء أكّد لدى المجموعات الأخرى أنّ العنف مساره مغلق في النّهاية.
لكنّ الجسد العامّ سيدفع الكلفة والفاتورة؟
- نعم، لقد دفع، ولا زال، لأنّ الأجهزة الأمنيّة ستوسّع، بطبيعة الحال، من دائرة الاشتباه.
حدث عند الجميع نوعٌ من الصّدمة؛ عندما أتى قادمٌ من الخلف كمحمد كمال، لا يعرفه كثيرٌ من النّاس، ثم مضى يأخذ الإخوان للعنف، ويشرعن له.
- خلق التقيّة في مواجهة المجتمع كان حاضراً، أيضاً، داخل التّنظيم؛ فكان هناك مَن يمارس التقيّة داخل التنظيم نفسه، وقياداته وعناصره، وقد حدثت واقعةٌ شهيرةٌ بين مصطفى مشهور ومحمد فريد عبد الخالق؛ إذ وقع بينهما خلاف حول "رسالة التّعاليم"، فقد تفاجأ عبدالخالق بأنّ مشهور قرّر دراسة "رسالة التّعاليم" للصّف الإخوانيّ، فقال له: إنّ هذه الرّسالة لم تكن مكتوبة للإخوان؛ بل للنّظام الخاصّ، وكانت نقطة فاصلة بين الاثنين، فهذه العناصر كانت حريصة على تدريس تلك المناهج في الجماعة كي يبقى باب العنف مفتوحاً؛ لذلك ستجد المنهج الحركيّ لمنير الغضبان يحفل بالإشارات، وهو ما جعل العنف في البنية التحتيّة ممكناً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية