ضربة "كاركاسون" الإرهابية: محاولة لفهم معالم البنية السلوكية للذئب المنفرد

ضربة "كاركاسون" الإرهابية: محاولة لفهم معالم البنية السلوكية للذئب المنفرد


24/03/2018

اهتزت مدينة "كاركاسون" الفرنسية، أول من أمس، على وقع عملية إرهابية ذهب ضحيتها ثلاثة أشخاص، بحسب حصيلة مؤقتة أعلنت عنها السلطات الفرنسية، في عملية مطاردة لرجال الشرطة واحتجاز للرهائن داخل سوبرماركت بالمدينة. هذه العملية قام بها رضوان لقديم، وهو شاب فرنسي من أصول مغربية يبلغ من العمر 26 عاماً، وكان معروفاً لدى السلطات الفرنسية بارتكابه لجرائم مرتبطة أساساً بحيازة المخدرات مع تسجيل سلوكات متطرفة كانت محل مراقبة من طرف الأجهزة الأمنية، حسب ما صرح به وزير الداخلية الفرنسي، جيرار كولوم.

عملية كاركاسون أعادت نقاش ظاهرة الذئاب المنفردة ومدى ارتباطها، تنظيمياً أو عقديّاً، بالجماعات الإرهابية

عملية "كاركاسون" أعادت إلى السطح نقاش ظاهرة "الذئاب المنفردة" ومدى ارتباطها، تنظيمياً أو عقديّاً، بالجماعات الإرهابية، خصوصا مع إعلان تنظيم داعش الإرهابي تبنّيه للعملية.

على هذا المستوى من التحليل، نُسجل، بأسف كبير، غياب التحليلات الدقيقة والموضوعية للبنية السلوكية لذوي الميولات المتطرفة، وذلك راجع، بالأساس، إلى غياب الإلمام بالبناءات الفقهية والتقعيدات العقدية التي يؤمن بها أتباع التنظيمات المتطرفة والتي تُبيح لهم هكذا ممارسات.

من هذا المنطلق، وجب بسط أهم محددات البنية السلوكية لـ "الذئاب المنفردة":

قاعدة تقسيم العالم: بلاد الإسلام وبلاد الكفر والحرب

تقوم العقيدة التكفيرية على تقسيم العالم إلى فسطاطين: دار الإسلام؛ حيث تعلو أحكام الشريعة الإسلامية، حسب فهمهم وتأويلهم للنصوص الدينية، ودار الكفر والحرب وهي التي تعلوها أحكام الكفر. وهنا يقول سيد إمام الشريف في كتابه المرجعي "الجامع في طلب العلم الشريف" (ص 638)، ما نصه: "فتميزت الديار بذلك إلى دار الإسلام وهي مجتمع المسلمين وموضع سلطانهم وحكمهم، ودار الكفر وهي مجتمع الكافرين وموضع سلطانهم وحكمهم، ثم فرض الله على المؤمنين قتال الكفار إلى قيام الساعة فسميت دارهم أيضاً دار الحرب". وينتهي المرجع "التكفيري" إلى اعتبار دار الكفر مباحة بكل حال وأن من يَقْصُر الجهاد في جهاد الدفع (الحرب الدفاعية) فهو كافر وجاحد بآيات الله تعالى؛ حيث يقول: "ومن الأحكــام المترتبــة على اختـلاف الديار: وجوب غزو الكفار في دارهم، وهو جهاد الطلب، وقال العلماء: وأقل ما يفعله إمام المسلمين غزو الكفار في بلادهم مرة في العام. وقد استنبطتُ هذا العدد من قوله تعالى "أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولاهم يذّكرون" (التوبة 126)". (الجامع ص 654).

تقوم العقيدة التكفيرية على تقسيم العالم إلى فسطاطين هما دار الإسلام ودار الكفر والحرب

جهاد الطلب: الحرب الهجومية

الضلع الثاني الذي يُشكل البنية السلوكية "للذئب المنفرد" هو قناعته التامة بمشروعية هذه الأعمال التي يصفها بـ"الاستشهادية"، ويعتمد منظرو التنظيمات التكفيرية على مجموعة من النصوص لشرعنة هذه الأفعال الإجرامية؛ حيث يورد أبو عبدالله المهاجر، في كتابه المرجعي "مسائل من فقه الجهاد، قولاً للإمام الشوكاني جاء فيه: "أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل: فهو معلوم من الضرورة الدينية".  (ص 26).

استحلال دماء "الكفار"

على هذا المستوى من التحليل، يمكن القول إنّ العناصر المرشحة للقيام بأعمال تخريبية، كما وقع في مدينة كاركاسون الفرنسية، تم حقنهم بمجموعة من القناعات "العقدية"، في نظرهم، والتي تجعل من دماء من يصفونهم بـ"الكفار" مباحة إباحة مطلقة. وهنا نجد أبوعبدالله المهاجر يقول في نفس المؤلَّف: "ولذاك كله: انعقد إجماع أهل الإسلام كافة على أن دار الكفر: دار إباحة للمسلمين، فإذا دخلوها بغير أمان: فلهم التعرض لدماء الكفار وأموالهم بما شاؤوا" (ص 27). ويضيف في موقع آخر: "وقد نُقل الإجماع على إباحة دم الكافر إباحة مطلقة ما لم يكن له عقد أمان...ولذلك كله كان دم الكافر غير المعاهد: هدراً لا قيمة له ولا وزن، وعلى هذا كلمة أهل الإسلام قاطبة" (ص 37/38).

مشروعية استهداف المدنيين

وقد يتبادر إلى ذهن كل من له فطرة سليمة بأن استهداف المدنيين يبقى من الجرائم التي لا تقبل بها القوانين الوضعية بله التشريعات السماوية، إلا أنّ التنظيمات الإرهابية استطاعت ترسيخ القناعة لدى "المريدين" بمشروعية استهداف المدنيين المسالمين. وهنا يقول "المهاجر" ما نصه: "الإسلام لا يفرق بين مدني وعسكري، وإنما يفرق بين مسلم وكافر، فالمسلم معصوم الدم أيّا كان عمله ومحله، والكافر: مباح الدم أياً كان عمله ومحله" (ص 140/141). وفي نفس السياق نجد قولا للماوردي ينحو في نفس الاتجاه، حيث يُصرح: "ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محارباً وغير محارب"، (الأحكام السلطانية ص 90).

مشروعية قتل النفس: "الاستشهاد"

تُشكل مسألة شرعنة "قتل النفس" أو منظومة "الاستشهاد" إحدى أهم المرتكزات التي تُكون "البنية السلوكية" للذئب المنفرد، ولقد اعتُمد في ذلك على مجموعة من "المخلفات الفكرية" التي تحفل بها، للأسف، كتب التراث التي تدعي أنها إسلامية. ونورد هنا، على سبيل المثال لا الحصر، قولاً لأخطر منظري التنظيمات المتطرفة أبو عبدالله المهاجر يقول فيه: "النصوص كلها دالة دلالة ظاهرة لا خفاء فيها بأي وجه من الوجوه على مشروعية إتلاف النفس، وإهلاكها إظهاراً للدين ونصرة له" (ص 88). ولا يُفرِّق "المهاجر" بين قتل النفس على يد المنفذ أو من طرف القوات الأمنية أثناء تنفيذ العمليات الإرهابية، فيقول: "ولا فرق هنا بين أن يتم هذا الإتلاف والإهلاك للنفس من حيث الصورة الظاهرة على يد المجاهد نفسه أو على يد عدوّه، إذ هذا الفرق، مع التسليم به، هو فرق ظاهري شكليّ غير مؤثر في الحكم من قريب أو بعيد، فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالصور والمباني" (ص 100).

مشروعية الاختطاف والاحتجاز

ونختم بطرح المُكون الأخير في البنية السلوكية "للذئب المنفرد"، في علاقة مع النازلة، وهي مشروعية الخطف والاحتجاز. وهنا نجد أن التنظيمات الإرهابية لا يعوزها التأصيل الفقهي لشرعنة الاختطاف والاحتجاز، التي ترى أنها من الأمور المشروعة في ديننا باعتباره عملاً من أعمال الحرب، وتكييف الخطف من الناحية الشرعية على أنه: "أخذٌ للكفار الحربيين بالقهر، وإلقاؤهم في أسر المسلمين تحقيقاً لمصلحة ما يسعى إليها المسلمون، وقد يتم هذا الأخذ للكفار في البر أو البحر أو الجو". (مسائل من فقه الجهاد ص 245).

ما قام به لقديم ليس بمعزل عن الأطروحات التكفيرية للتنظيمات الإرهابية والتي لم تعد بحاجة إلى العمليات الضخمة

ونصل إلى نقطة خطيرة أثارها منفذ العملية حين طالب بتحرير صلاح عبد السلام، منفذ هجمات باريس. هذه النقطة، هي الأخرى، تجد تأصيلاتها عند منظري التنظيمات الجهادية، حيث يؤكد "المهاجر" في نفس المؤلَّف على "مشروعية خطف أفراد من الكفار أو من حلفائهم لتبديلهم بمسلمين وقعوا في أسر العدو" (ص 249).

ومن أجل تبرير العمليات التي تقوم بها الذئاب المنفردة، نجد أنّ التنظيمات التكفيرية تعتمد على بعض النصوص في تبرير هكذا عمليات انتحارية بشكل انفرادي؛ حيث يقول أبو عبدالله المهاجر: "وقد نص الفقهاء على مشروعية غزو المرء للكفار وحده" (ص 512).

انطلاقاً مما سبق، يمكن القول إجمالاً إنّ ما قام به رضوان لقديم، ليس بمعزل عن الأطروحات التكفيرية للتنظيمات الإرهابية والتي لم تعد بحاجة إلى العمليات الضخمة قصد تحقيق "الشو" الإعلامي والإنهاك الاقتصادي والأمني، واتجهت للاكتفاء بعمليات فردية يكون لها نفس الزخم وتُحقق نفس الأهداف التي يمكن أن تحققها العمليات الإرهابية الكبرى مثل عمليات 11 سبتمبر ودار السلام ونيروبي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية