"تصفير المشكلات".. إستراتيجية أردوغان التائهة

تركيا

"تصفير المشكلات".. إستراتيجية أردوغان التائهة


02/08/2020

"بناء علاقات إقليمية تقوم على الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي والديني.." هذا هو ملخص النظرية الإستراتيجية التي طرحها "أحمد داود أوغلو"، في كتابه "العمق الإستراتيجي"، الصادر العام 2001، والتي عرفت باسم "تصفير المشكلات". وذلك قبل أن يضعها في التطبيق، مع تولّيه منصب مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان العام 2003.

أحمد داود أوغلو.. مهندس نظرية "تصفير المشكلات"

محاولات فتح صفحات جديدة
تتميز تركيا بكونها من أكثر الدول التي لها عداوات ومشاكل تاريخية مع جيرانها، من العرب، واليونان، إلى الأرمن، والأكراد. على الرغم من ذلك، حاولت تركيا فتح صفحة جديدة، فاتّجهت خلال سنوات العقد الأول من القرن الحالي لمحاولة حلّ عدد من المشكلات العالقة، من المساعي لحلّ مشكلة قبرص، إلى إنهاء العداء مع سورية، وتطبيع العلاقات مع أرمينيا.

تتميز تركيا بكونها من أكثر الدول التي لها عداوات ومشاكل تاريخية مع جيرانها من العرب وغيرهم

عقب ما يقرب من نصف قرن من العزلة، اتّجهت تركيا نحو تحسين علاقاتها مع دول الشرق الأوسط؛ حيث زاد حجم التبادلات الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية وإيران، كما رفعت أنقرة القيود التي كانت مفروضة للحصول على تأشيراتها لدول جوارها، إضافة إلى الاضطلاع بدور الوسيط في أعقد الصراعات في المنطقة عبر التفاوض على استئناف المحادثات بين باكستان وأفغانستان، وسورية و"إسرائيل"، وكذلك "فتح" و"حماس"، عدا عن دفع السنة العراقيين للانخراط في العملية السياسية الوليدة في العراق، ومحاولات الوساطة بين الفرقاء في لبنان.
وكان من أبرز الاتفاقيات التجارية، اتفاقيات التجارة الحرة مع سورية، وتونس، والمغرب، في العام 2004، ومصر، والسلطة الوطنية الفلسطينية، في العام 2005، كما وقّعت على عدة اتفاقيات اقتصادية مع المملكة العربية السعودية التي تمثل الشريك التجاري الأكبر في المنطقة، ووقعت اتفاقية مع دول مجلس التعاون الخليجي في أيار (مايو) 2005.

حاولت تركيا القيام بدور الوسيط والدفع نحو السلام بين سورية و"إسرائيل"

تحسين العلاقات مع المحيط غير العربي
أما فيما يتعلق في المحيط غير العربي، فقد اتّجه الأتراك إلى تحسين العلاقات مع روسيا، عن طريق تطوير وزيادة زخم التعاون معها، وهو ما تجسّد في إنشاء "مجلس التعاون عالي المستوى"، الذي تم تأسيسه العام 2010.
وفيما يتعلق بمنطقة القوقاز، فقد التزمت السياسة الخارجية التركية بمبدأ الحفاظ على وحدة أراضي بلاد القوقاز واستقرارها السياسي والاقتصادي، وهو ما تُرجم إلى إحياء مبادرة "منبر التعاون والاستقرار في القوقاز".
أما علاقات تركيا مع كل من بلغاريا ورومانيا، جارتيها في البلقان، واللتين كانتا تظهران لها العداء في فترة الحرب الباردة، باعتبار أنهما كانتا من ضمن دول المعسكر الاشتراكي، فقد وصلت إلى مستويات متقدمة  وحلت مشاكلها الأساسية معهما، خصوصاً مع انضمام هذه الدول إلى حلف شمال الأطلسي.
وبقيت العلاقات التركية الأرمنية، بالإضافة إلى الصراع مع قبرص، هي الحلقة الأضعف في سلسلة المساعي التي بذلتها لتطوير علاقاتها مع جيرانها.

متظاهرون أرمن يحرقون العلم التركي احتجاجاً على استمرار الإنكار التركي للإبادة العثمانية بحق الأرمن

اضطرابات وطموح
مع هبوب رياح التغيير والاضطراب في المنطقة العربية أواخر العام 2010، بدأت السياسة التركية في التحول عن التزام نهج عدم التدخل في الدول، لتتّجه للانحياز نحو دعم أطراف معينة في الدول التي تشهد تحولات، وكان دعمها موجّهاً تحديداً لجماعات الإسلام السياسي؛ حيث ساندتهم في مساعي الوصول إلى السلطة، وهو ما تسبب في مضاعفة التوترات في هذه الدول.
في سورية، تبنّت الحكومة التركية خيار دعم المعارضة السورية، وعزمت على بذل كل ما يدعم خيار تغيير النظام في سورية، ومن ذلك ما أقدمت عليه من فتح الحدود أمام المسلحين والإرهابيين، الذين تقاطروا من أنحاء مختلفة عبر المطارات التركية، وتُركوا ليعبروا إلى سورية دون رقيب أو رادع، حتى أضحت الأراضي السورية تجمّعاً لألوف المقاتلين الأجانب.

مع بدء (الربيع العربي) بدأت السياسة التركية بالتحول عن التزام نهج عدم التدخل في دول الجوار

وقد أدى الموقف التركي من الأزمة السورية إلى تأزيم علاقاتها مع كل من إيران وروسيا اللتين اختارتا دعم النظام السوري، حيث بلغ التوتر مع روسيا ذروته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، بعد التدخل الروسي في سورية، وإسقاط الأتراك المقاتلة الروسية، كما كانت طهران قد وجهت رداً دبلوماسياً على الموقف التركي من خلال نقل المحادثات المتعلقة بملفها النووي من اسطنبول إلى بغداد.
وفي مصر، التزم أردوغان وحكومته بدعم جماعة الإخوان المسلمين، وسعى لتعزيز العلاقات مع الجماعة خلال فترة حكم محمد مرسي. وبعد عزل مرسي، قطع رجب طيب أروغان علاقات بلاده مع النظام المصري، وهاجم دول الخليج بسبب رفضها دعم الرئيس الإخواني. واعتبر أردوغان أنه: "لا يوجد فارق بين بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي"، وأن: "إرهاب الدولة قد وصل إلى مصر".
وهكذا، قوّضت سياسة أردوغان إستراتيجية تصفير المشكلات، من خلال التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، وقد انتهت سياسات أردوغان إلى إعلان داود أوغلو استقالته من منصب رئيس الوزراء في حزيران (يونيو) 2016.

اختار أردوغان التحالف مع جماعة الإخوان في مصر ما دفعه إلى قطع العلاقات مع القاهرة بعد عزل مرسي

مراجعة الحسابات
ارتدّت الأزمة السورية على الداخل التركي؛ حيث وقعت سلسلة من الأحداث والعمليات الإرهابية في اسطنبول وعدد من المدن التركية، بلغت ذروتها العام 2016، ليصل عددها إلى أكثر من 15 عملية إرهابية خلال عام واحد، كان أخطرها الهجوم على مطار أتاتورك في 28 حزيران (يونيو)، والهجوم على ملهى "رينا" باسطنبول نهاية هذا العام.
كما أدى تراجع سلطة الدولة المركزية في سورية إلى صعود الأكراد وسيطرتهم على مناطق واسعة في الشمال على امتداد الحدود مع تركيا، وهو ما شكّل تهديداً للأمن القومي التركي. وبلغت الاضطرابات الداخلية في تركيا ذروتها مع محاولة الانقلاب في 15 تموز (يوليو) 2016.

الاعتداء على ملهى "رينا" باسطنبول نهاية العام 2016 خلّف 39 قتيلاً

كل ذلك أدى إلى عرقلة الطموح التوسعي الأردوغاني، ودفع الدولة التركية إلى مراجعة حساباتها والسعي للرجوع إلى السياسة التي كانت عليها قبل 2010.
فقد نشّطت أنقرة تحركاتها الدبلوماسية خلال صيف 2016، فاتّجهت بداية لتحسين العلاقات مع تل أبيب، بعد أن كانت قد خفّضت العلاقات في أعقاب حادثة الاعتداء على أسطول الحرية عام 2010. كما اتّجهت إلى تحسين العلاقات مع موسكو، وذلك بعد تدهورها بفعل اختلاف مواقف البلدين من الأحداث في سورية؛ حيث كانت روسيا قد فرضت على الأتراك تأشيرة دخول لأراضيها، كما تراجع حجم التجارة البينية بين البلدين.

التزم أردوغان بدعم جماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكم محمد مرسي ثم ناصب مصر العداء بعد إسقاطه

وهكذا، انتهت الأزمة بين البلدين مع رسالة بعثها أردوغان إلى بوتين، أعرب فيها عن أسفه لحادثة المقاتلة الروسية، وقدّم تعازيه لمصرع الطيار، وعقب الرسالة اتصل بوتين بأردوغان، واتفق الزعيمان على تطبيع العلاقات، وفي التاسع من آب (أغسطس) قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعقد زيارة رسمية إلى موسكو، وكذلك دفعت أنقرة نحو تحسين العلاقات مع طهران، بعد الخلافات الحادة معها حول الموقف من النظام السوري.
وكانت نتيجة كل تلك التحولات أن أدارت تركيا ظهرها للمعارضة السورية، وتركها لتواجه مصيرها وحدها، وهو ما ظهر في كانون الثاني (ديسمبر) من العام ذاته، عندما توصلت تركيا مع روسيا وإيران إلى اتفاقات سياسية في خضم معارك حلب، قادت إلى تسليم المدينة لسيطرة النظام السوري.

في آب (أغسطس) 2016 قام أردوغان بزيارة رسمية لموسكو من أجل إعادة تطبيع العلاقات

ومع ذلك، لا يبدو أنه بالإمكان الجزم بعودة أنقرة إلى سياسة "تصفير المشكلات"، فخلال العام 2017، ومع الأزمة الخليجية، اختارت تركيا الانحياز إلى الجانب القطري، وأرسلت قوات عسكرية لتؤسس فيها قاعدة عسكرية، اضافة إلى ما تلا ذلك من تحركات أردوغان على المستوى الافريقي، والإعلان عن تأسيس قاعدة عسكرية في السودان مع نهاية العام، ولتفتتح بعد ذلك العام الحالي بإطلاق حملة التدخل العسكري في عفرين، شمال سورية في محاولة لكبح نفوذ الأكراد على الحدود الجنوبية.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية