التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص

التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص

التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص


11/07/2019

"مناخل هي الأيام كي تصفي الروح، تكشف النجس.. وكذا تُبين النور لثلةٍ يرمون بهاءهم إلى الكون".. جلال الدين الرومي

في البدء؛ اتخذ الصوفية من الإبحار خارج مدارات الممكن درباً نهائيّاً للخلاص، فتخيلوا الوجود دائرة مركزها الله، عز وجل، ومحيطها كل الموجودات الممكنة، ومن المركز تمتد الخطوط -كما يقول ابن عربي- لكل نقطة من المحيط، هذا التصور الدائري للوجود، تخلّقت من خلاله بنية روحية للعالم، تراجع فيها مفهوم الزمن الخطي الذي نعيشه، لصالح الزمن الإلهي الباطن، فتلتقي البداية بالنهاية في اللازمن، وهنا يغدو صدور الكثرة عن الواحد أمراً مقبولاً، فيتجلى الله تعالى كيفما شاء، ويمنح ولايته لمن يشاء؛ فالكينونة الإلهية وهي تتبدى بذاتها ولذاتها في تجلّيها الأقدس، تصطفي الأنبياء والأولياء، فتمنحهم القدرة على فعل الخوارق والمعجزات، لقضاء حوائج المهمشين والضعفاء، وهو ما يفسر تعلق المريد بشيخه، خاصة في عصور الأفول الحضاري، وفي أوقات المحن العصيبة.

اقرأ أيضاً: اقتصاديات التدين الشعبي.. المسجد الأحمدي أنموذجاً

هذا التعالق الخلاصي بين الذات المنسحقة، في إبحارها المربك بين أنواء الحياة، وبين المُخَلّص في تمثله كل الأمنيات المستحيلة، يتجلى بوضوح من خلال طقوس العبور الصوفية، تعبيراً عن لحظة ابتهاج استثنائية، تمثل مناسبة المولد ذروة حضورها في التدين الشعبي.

التدين الشعبي وسيكولوجيا الجماهير
في معرض تحليله لسيكولوجيا الجماهير، يقول "جوستاف لوبون"؛ إنّ الخيال الخاص بالجماهير كخيال كل الكائنات التي لا تفكر عقلانيّاً، مهيأ لأن يتعرض للتأثير العميق؛ فالصور التي تثيرها في نفوسهم شخصية ما، أو حدث ما، أو حادثة ما، لها نفس حيوية وقوة الأشياء الواقعية ذاتها، ذلك أنّ الجماهير لا تعرف معنى المستحيل المستبعد الحدوث.

تتشكل بنيّة العقل المتحايل وتتراكم معطياتها عبر الزمن وهو ما يثري حقل التدين الشعبي ويجدد خطابه باستمرار

لعل هذا ما يفسر الكيفية التي يعمل بها التدين الشعبي في الاجتماع الإنساني، فالسيولة التي تتدفق بها الطقوس، تصنع حالة فريدة من التوفيق بين النص الديني بشتى تأويلاته، وبين احتياجات الذهنية الشعبية، وهو ما يؤدي إلى تخلّق عوالم روحانية، يحتل فيها الإنسان المهمش دور الفاعل، في علاقة مباشرة مع المطلق، أو من ينوب عنه في لحظة حضوره في الفضاء العام .
وعليه، تتخلّق حالة "الوجد الصوفي" بحمولتها النفسية الممانعة للإيمان المجرد، وللرب المفارق، رغبة في ممارسة خطاب مباشر مع المطلق اللامرئي، والذي يصطفي أحد أوليائه، ويختصه بقدرات خارقة، هي (كرامات) يباشر من خلالها عملية التفاعل البنائي بينه وبين مريديه، لتبدأ طقوس العبور فور التصديق، في حلقات الذكر التي تتصدر "مشهدية المولد"، بإيقاعاتها الراقصة القائمة على التكرار والمعاودة، والتي تمنح العقل سكينة، يستقبل من خلالها كل ما هو خارج عن إدراكه، محلقاً خارج دوائر الزمان والمكان، وغارقاً في سكرة من نوع خاص، سكرة يستطيع من خلالها تحمل كل هزائم الواقع وانكساراته.

اقرأ أيضاً: هكذا استثمر "الإخوان" بالتدين الشعبي لدى فلاحي مصر
وهنا تأتي لحظة الجذب، بكل مزايحاتها للعقل الواعي، باستدعاء الباطن والكامن في أعماق المجذوب، والذي يصل أخيراً إلى حالة من الترقي، تشبه النيرفانا في البوذية الجاينية، حيث تتخفف النفس أخيراً من تعلقها بالعالم وكل شهواته، في سبيل لذة الانطفاء والانفصال عن كل ما يحيطها، وهنا تتجلى حقيقة الوجود، من حيث انعدام قيمة الأشياء، وانكشاف وهم الامتلاك والاستحواذ. 

سفر التكوين الصوفي وسحر لحظة التأسيس

للسردية الأولى دوماً سحرها الخاص، فهي سردية مفارقة بامتياز، تلعب فيها الخرافة دوراً وظيفياً، تتجلى من خلاله بشارات مسيح جديد، في بردة صوفي يملك القدرة على شفاء المرضى، وإحياء الموتى، يرى الغيب بقدرة لا تتأتى لسواه، يُسخر الطير والجن وتطيعه الجوارح، ويُسرى به فيختصر آلاف الأميال في بضع خطوات، ويصعد إلى السماء، فيتطلع على مشاهد الجنة والنار.

التدين الشعبي وإن كان كأي بنية معرض للاختراق لكنه يبدو غير قابل للتحول إلى أيديولوجيا بفعل طبيعته

وسرعان ما يلتقط المخيال الشعبي تلك الروايات المتواترة، التي تمثل عزاءً للمحرومين والباحثين عن الخلاص، ويواصل في نفس الوقت خلق أساطير جديدة في سفر التكوين الصوفي، بفعل وحي لا ينقطع، تمثله طاقة إيحائية رمزية متجددة، ورغم غرابتها، ومفارقتها للواقع، إلا أنّها تصبح دوماً الأكثر انتشاراً وتصديقاً، ففي دنيا الأساطير الصوفية كل شيء ممكن، وكل الوجود متجذر في ماض يحيا بموازة الـ (آن) ومتجاوز له نحو(الآتي)، وكل خطوط الزمن تبدو متوازية، فتتجلى في المكان كل رهانات الواقع، وكل أمنياته المستحيلة، فالجسد المثقل بأعباء الحياة، والمتطلع لملذاتها، تمارس روحه اغتراباً يعبر بها كنصل سهم، غادر قوسه، في ارتحال أبدي نحو مساحات خيالية لا نهائيّة، تتحقق فيها أمنياته المستحيلة، وتتزين فيها الحياة بكل ما هو مرغوب، ومتجاوز لهزائم الواقع وآلامه.

اقرأ أيضاً: معركة السودان التربوية: التدين الشعبي بمواجهة "الدين الجديد"

تتشكل بنيّة العقل المتحايل، وتتراكم معطياتها عبر الزمن، وهو ما يثري حقل التدين الشعبي، ويجدد خطابه باستمرار، تجديداً يتخذ مساراً أفقياً نحو البنى التحتية، بمنح الاجتماع مرونة فائقة، وقدرة على تقبل ما يبدو متناقضاً، وآخر رأسياً يشكل ما يشبه حائط صد أمام هيمنة السلطة، سواء كانت دينية أم سياسية، وهو -أي التدين الشعبي- وإن كان كأي بنية معرضاً للاختراق، لكنه يبدو غير قابل للتحول إلى أيديولوجيا، بفعل طبيعته المراوغة.

أهازيج الخلاص

يمكن القول إنّ طبيعة الخلاص في التدين الشعبي، طبيعة فريدة، لما تتميز طقوس العبور من بهجة شديدة الخصوصية، بعيداً عن الكربلائيات الحزينة، فللخلاص في الليلة الكبيرة طريق واحد، تحفّه ترانيم البهجة وأهازيج الحياة، ففي ليلة المولد، يأتي الزوار إلى ضريح الولي الحي، من كل صوب للتبرك والدعاء، والتقرب بالنذور والأضاحي، عسى أن تصيبهم نفحاته، وتشملهم كراماته، في نوع من الحج الأصغر، حيث يصطف الدراويش على جوانب الطرق والأزقة وحول الخيام، بثوبهم الأخضر المميز، بينما تخترق المواكب الدروب الضيقة، يتقدمها حملة الأعلام والبيارق، وتعلو أصوات الدفوف والمزامير في حلقات الذكر والإنشاد، وتنتشر الألعاب الترفيهية، ومسارح الغناء والرقص الصوفي، في محاكاة حية للحياة بكل زخمها وعنفوانها، في لحظة قصوى من الانتشاء والسعادة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية