يا قدس: الصيحة الأخيرة فوق أشلاء عروبتنا

يا قدس: الصيحة الأخيرة فوق أشلاء عروبتنا


10/12/2017

في البدء كانتْ فلسطين، على أرضها تنفّسَ المعذَّبون والمقهورون للمرّة الأولى نسماتِ الحياة، تفتّحتْ أعيُنُهم على بِشارات المَسيح، وانسابتْ في دروبهِم الملتفّةِ دماءُ المخلّص، لتشُقّ طريقاً للآلام، ما نزالُ نتخبّط في جَنَباته، ونُسافرُ في ثنايا التّيه فيه كلّ يوم، بلا انتهاء.
حينما هبّتْ جيوش العَرب، ترفع ألويَة التّحرير لتخليص فلسطين، بعد ثلاثة عقود من المُماطلة والتخاذل، وجاءتْ نكبتُهُم تحمل كلّ دلالاتِ الوهن والضّعف، سرعان ما تساقطتْ شعاراتُهم العنتريّة، لتحلّ بدلاً منها مبراراتٌ واهية، وأكاذيب، حاول الخائبون شرعنتَها، ومنحَها صفةَ الحقيقة التاريخيّة، لمُداراة فشل البعض، وخيانة البعض الآخر.

القدس تتجاوز كل الشعارات والرؤى الدينية الضيقة، فهي الرمز الحيّ لمواجهة الاستعمار الصهيوني ومن ورائه

قالوا لولا الأسلحةُ الفاسدةُ ما هُزِمنا، أسطورة تجدها أينما طالعت صفحات فلسطين في حكايا العرب وكتاباتهم، يغضّون أبصارهم عن الحقيقة الدامغة، وهي أنّ العسكرية الصهيونية في فلسطين منذ تكوين عصابات الهاجاناة عام 1920م تنامتْ بشكل متسارع، حتى إنّ لواءً من ألويتها شارك في الحرب العالمية الثانية إلى جوار جيوش الحلفاء، وأصبحت تلك العصابات إبان حرب فلسطين عام 1948م جيشاً نظامياً متكاملاً، يتفوق في تسليحه على كل الجيوش العربية مجتمعة، كما تناسى هؤلاء حكماً نهائياً أصدرته محكمة مصرية، بتبرئة كل المتهمين في قضية الأسلحة الفاسدة، في ظل عدم وجود دليل حقيقي على ذلك، سوى الكلام المرسل، وكان ذلك الحكم بعد ثورة يوليو 1952م. لكن عدم وجود أسلحة فاسدة، لا ينفي مدى استهتار

أهل فلسطين باعوا أرضهم: أسطورة مبتذلة تناقلتها ألسن الجبناء، وأخذت تلوكها عبر عقود، دونما خجل

الأنظمة العربية فيما يتعلق بالتسليح الخاص بجيش الإنقاذ، فالعراق أرسل بنادق بلا ذخيرة، وفوجين من المتطوعين بلا سلاح، ومصر أرسلت بنادق بلا ذخيرة، والمثير للسخرية أنّ السعودية، وفي سباق إرسال أسلحة فارغة بلا طلقات، أرسلت عدداً كبيراً من البنادق القديمة جداً، من فئة الخديوي والنمساوي، والتي لا يمكن الحصول على ذخيرة لها؛ لأنّ المصانع الحربية، ببساطة متناهية، لم تعد تصنع مثل هذا الطراز، كانت الأسلحة العربية في مجملها قديمة غير مواكبة للتطور الذي طرأ على مجال تصنيع السلاح في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولعل رسالة عزام باشا -أمين عام جامعة الدول العربية- إلى رئيس الوزراء المصري، والتي حملت طلباً بتوفير بعض المعدات الحربية لإعانة متطوعي فلسطين، من مخلفات الجيوش الأمريكية، تفصح عن مدى استهانة العرب واستهتارهم بالحرب، ثم يصيحون بعد الهزيمة، إنها الأسلحة الفاسدة!!
ثم قالوا، إنّ أهل فلسطين باعوا أرضهم. أسطورةٌ مبتذلة تناقلتها ألسن الجبناء، وأخذت تلوكها عبر عقود من الزمن، دونما خجل، متناسين ما فعله اللورد هربرت صمويل المندوب السامي الأول، حين أنشأ جهازاً إدارياً صهيونياً فور توليه السلطة، وضع على رأسه الصهيوني المتعصب نورمان بنتوتش، والذي جعل أقرانه على رأس الإدارات الحيوية مثل: الهجرة والتجارة والسفر والجنسية، وهو ما سرّع وتيرة التمكين للصهيونية بشكل كبير، كما تنازلت سلطات الانتداب عن كل الأراضي الأميرية التي ورثتها عن الحكومة التركية للمستعمرين اليهود، في مقابل مبالغ مالية رمزية، كان يدفعها البنك اليهودي للحكومة البريطانية؛ حيث كان شراء تلك الأراضي حكراً على اليهود وحدهم، كما باعت الحكومة أراضي العرب الذين عجزوا عن دفع الضرائب الباهظة بعد الحجز عليها للمستعمرين، كما تناسوا أنّ السهول الشمالية في حيفا وعكا، وفي مرج ابن عامر باعتها عائلة سرسق اللبنانية لليهود، وكان الوسيط هو حكومة الانتداب، التي لعبت دوراً مريباً، بالتعاون مع المضاربين والمرابين، لوضع اليد على أراضي العرب ومنحها لليهود، كما تم إجلاء الفلسطينيين بالقوة من أراضيهم في قرى جنجار والصفصافة وتل الفر وجالود.

عدم وجود أسلحة فاسدة، لا ينفي مدى استهتار الأنظمة العربية فيما يتعلق بالتسليح الخاص بجيش الإنقاذ

كما قالوا، إن الفلسطينيين أحق بالنضال والمقاومة لاسترداد أرضهم، بعد أن تخاذلوا وغادروها لانتظار الجيوش العربية. ألم يقرأوا عن هبّات وثورات دامية؟ دفع فيها الفلسطينيون الثمن الباهظ، مثل: يوم النبي موسى 1920، وهبة البراق 1929، وثورة 1936، والنضال الطويل إبان أحداث التمرد الصهيوني الذي جاء على أشلاء العرب عام 1946م، والمعارك الضارية عقب قرار التقسيم 1947م، ألم يسمعوا بصولات المقاومة وبطولاتها في ثورة 1936، حين تمكنت بقيادة عبد الرحيم الحاج محمد من هزيمة البريطانيين في معركة نور شمس، وفي الجاعونة تحقق انتصار آخر على قوة صهيونية بريطانية مشتركة، وكانت معركة بلعة في سبتمبر 1936 من أكبر معارك الثورة، ففي معركة استغرقت النهار كله تمكن فوزي القاوقجي، وعلى جبهة طولها نحو 12 كم من تحقيق انتصار حاسم على القوات البريطانية، وهو ما جعل بريطانيا تراجع مواقفها، لتصدر الكتاب الأبيض الذي قضى بتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

العسكرية الصهيونية في فلسطين تنامتْ بشكل متسارع منذ تكوين عصابات الهاجاناة عام 1920م

تجرعت فلسطين مرارة الهزيمة يوم استأثر بقضيتها العرب على اختلافم، ذهبوا إليها يحملون رايات الفرقة والتناحر، ويتنازعون حول الغنائم، ذهبوا يتاجرون بها في رعونة وخيلاء، بينما دفع الفلسطينيون الثمن وحدهم، ثمناً تشهد عليه أشلاء الأبرياء في كفر قاسم وعين كارم ودير ياسين.
القدس هى قضية الإنسانية الأولى، هي الشاهد والرمز على أبشع الجرائم السياسية في العصر الحديث، وحدها تفضح أبعاد المساومة، وتفاصيل الصفقات المبتذلة والمريبة، لكنها قبل كل هذا تفضح خيبتنا، يوم تحولت ثوراتنا إلى مهزلة تاريخية، واستحال ربيعنا إلى خريف حزين، يوم ظهر فينا تجار الأديان، وكهنة المعابد، ليضيفوا إلى هزائمنا هذا الانكسار الأخير.
القدس تتجاوز كل الشعارات والرؤى الدينية الضيقة، فهي الرمز الحي لمواجهة الاستعمار الصهيوني ومن ورائه، وهي الجسد النازف والمنهك، والصيحة الأخيرة فوق أشلاء عروبتنا، والشاهد على المؤامرة التي جلبت لمشرقنا التعيس كل هذا العبث، نعم، أصبح الطريق إلى القدس درب آلام طويلاً تترنح الإنسانية كلها في جنباته، لكنها تبقى وحدها خلاصنا المستحيل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية