"وطن أردوغان الأزرق" والمأزق الاستراتيجي

"وطن أردوغان الأزرق" والمأزق الاستراتيجي


24/08/2020

عبدالحميد توفيق

ظل البحر الأبيض المتوسط بقعةً ومساراً رحباً وآمناً لحركة الملاحة العالمية رغم تلاطم أمواجه بمئات البواخر والسفن والبوارج الحربية وحاملات الطائرات والغواصات، ولم يسجل منذ الحرب العالمية الثانية أنه نقطة صراع بين اللاعبين الدوليين، وبقي على هذه الحال إلى أن أطلّ أردوغان بخارطته التوسعية التي استهل رسمَها برّيا بخرق سيادة سوريا من الشمال واحتلال قطاعات من أراضيها، وتمدّدَ في الشمال العراقي حين أتاحت له الجغرافية فرصة تحقيق جزء من مشروعه العدواني ضد البلدين الجارين، وتطاول على سيادة ليبيا عبر أدواته الإخوانية هناك، وحين لم يجد من يقف في وجه نزعته؛ أفرد مزيداً من أطماعه على نطاق واسع وصل إلى حدود المغامرة في ما وراء حدوده الإقليمية في مياه المتوسط مدفوعاً بعُقدة تاريخية استحضرها من ثنايا ذاكرته المهووسة بالعدوان والغطرسة، واستدرجها إلى واقع مغاير كليا للظروف والمعطيات التي أنتجت نظرية ما يعرف ب"الوطن الأزرق" .

الوطن الأزرق بالمفهوم العثماني، الجديد القديم، هي المناطق البحرية التي تعتبرها تركيا ضمن مياهها الإقليمية في بحار إيجة والمتوسط والأسود ومرمرة، وتدّعي أنقرة الحقّ باستخدام جميع الموارد البحرية في هذه المساحة التي تعادل نصف المساحة البرية لتركيا، وتتضمن خريطة "الوطن الأزرق" عدداً من الجزر المتنازع عليها مع اليونان في بحر إيجة، وتشمل أيضا مساحة كبيرة من سواحل شرق المتوسط تمتد إلى الشاطئ الشرقي لجزيرة كريت اليونانية ... يبدو أن سياسة استرضاء أردوغان التي وسمت مواقف بعض الدول في الإقليم والعالم قد أوهمته بضعف الآخرين، وتهيّأَ له الأمرُ على أنه أقصى خياراتهم في مواجهته، وغَفل عن الأبعاد والمرتكزات الراسخة في سياسات الدول القائمة على المصالح وحمايتها وعلى العبر التي يزخر بها التاريخ كمَعين تهتدي به السياسات والسياسيون . التصعيد التركي المتنامي شرق المتوسط يدق نواقيس الخطر بعدة اتجاهات بعد أن تقاطعت وتقاربت مصالح الدول المتضررة من السياسة التركية من جهة، وتنافرت مصالح دول العالم المحاذية والمطلة على شواطئه مع تركيا من جهة أخرى .

مجمل التداعيات الحاصلة شرق المتوسط جراء إمعان أردوغان في تحقيق أوهامه "بالوطن الأزرق" الذي يتبنى نظريته، تنبئ بأن الوضع الاستراتيجي في تلك المنطقة يتدهور بشكل سريع ويترافق مع تغير ناشئ في موازين القوى بعد أن انخرطت باريس في عسكرته كخطوة ردع استباقية للنزعة التركية التوسعية . سياسة الردع بطابعها الإقليمي - الدولي انتقلت إلى صيغ ومراحل عملية لمواجهة غطرسة أردوغان، ويبدو جليا أن موقف دول أوروبا المنضوية تحت راية الناتو، كاليونان المعنية مباشرة بالتصدي للخطر التركي، وفرنسا الطموحة لقيادة أوروبا ورأس الحربة في التصدي لساسة أنقرة، يشيع مناخاً من الطمأنينة والارتياح داخل النادي الأوروبي ويلاقي دعماً مباشراً من دول منطقة شرق المتوسط التي تتعرض مصالحها وأمنها واستقرارها للابتزاز والتهديد التركي، مما يجعل إمكانية تبلور تحالف عسكري كبير يتسع لدول إقليمية أمراً وارداً وهو السبيل الأمثل لمواجهة النزعة التوسعية الأردوغانية، ومن شأن بزوغ هكذا تحالف حشر أردوغان في وضع صعب للغاية وتجريده من الكثير من أوراقه وأسلحته ونسف لعبته القائمة على حرف أنظار الداخل التركي عن مآزقه المتعددة وعلى رأسها الاقتصادية، حيث سجلت الليرة التركية في الآونة الأخيرة انخفاضا غير مسبوق في تاريخها تجاوز العشرين بالمئة، ويجعله في مواجهة خارجية مكشوفة وخاسرة مع شركاء الأمس في حلف شمال الأطلسي، وهو ما لاحت نذره عندما تصدت سفن بحرية يونانية لسفينة التنقيب التركية وعطّلت مهمتها.

 ويبدو أن السلطان تنبأ باحتمال مواجهة خاسرة ومبكرة من هذا النوع فآثر ابتلاع إهانة تعطيل سفينته وكتَمَ خبرها، ولجأ إلى أسلوبه المعهود حين يشعر بالضعف وهو الدعوة إلى الحوار والجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ والسؤال المطروح : لماذا تستَّر أردوغان وحكومتُه على عملية تعطيل الفرقاطة اليونانية ليمنوس في الثالث عشر من الشهر الجاري لسفينة التنقيب التركية "أوروتش رئيس"، في عملية محكمة أدت إلى قطع جميع الكابلات التي مدتها السفينة التركية التي كانت تقوم بعمليات التنقيب في شرق المتوسط وأتلفت معداتها الخاصة بالعمل تحت الماء ؟، من الواضح أن تجاهل أنقرة وإعلامها للحادثة ينمّ عن إدراك دقيق لحجم الإهانة التي تعرض لها الكبرياء الزائف الذي يدعيه أردوغان ومن خلفه مسؤولون أتراك، بعد أن رفعوا وتيرة تصريحاتهم الهوجاء وادعاءاتهم بأحقية بلادهم في مكنونات البحر المتوسط ووزعوا تهديداتهم ووعيدهم بكل اتجاه .

المشهد القائم حاليا شرق المتوسط ينطوي على إشارات واضحة توحي بأن النهج السياسي المتبع من قبل أردوغان يدفع الأمور نحو أطوار أكثر خطورة من الصراع السياسي والدبلوماسي وربما يتجاوزه في مرحلة مقبلة، وقد يعمّق حالة احتدام الموقف فضلا عن تأجيج الخلافات الإقليمية والصراع حول حقوق استخراج النفط والغاز بدل اللجوء إلى لغة الحوار وبلورة تفاهمات تحفظ مصالح الجميع وحقوقهم وتتحول إلى أنموذج للعلاقات الدولية المتوازنة .

البيئة الحالية شرق المتوسط باتت أكثر ملاءمة لرفع راية الرفض في وجه تركيا - أردوغان والضغط لدفعه إلى نزع أوهامه المتعلقة بنظرية "الوطن الأزرق"، وفرض واقع جديد في المتوسط يقوم على احترام مصالح وحقوق جميع الدول المطلة عليه، إذ يمكن البناء على الاتفاقية اليونانية المصرية في هذا الخصوص، لتوسيع مدار نفوذ الدول المناهضة لسياسة أردوغان في لحظة سياسية تبدو مواتية بعد الاحتكاك المباشر للبوارج الحربية اليونانية مع سفينة التنقيب التركية، وانحياز دول الناتو إلى جانب أثينا .

المزاج السياسي في أوروبا يميل بشكل ملحوظ إلى التذمر والامتعاض من تركيا – أردوغان، جراء ما يتخذه من إجراءات وخطوات تتنافى مع مصالحها الحيوية في القارة وفي منطقة المتوسط، وقد ترجم الأوروبيون هواجسهم عبر سياسة تكاملية تقودها باريس وترفع رايتها أثينا وتقف من ورائها عواصم القرار الأوروبي الرئيسية، وتحظى بقبول ودعم دول عربية وإقليمية .

زمام المبادرة شرق المتوسط بيد الأوروبيين أكثر من أي وقت مضى، وكسب الرهان في مياهه يؤسس لمكاسب استراتيجية كثيرة في مناطق نفوذهم في أكثر من نطاق على صعيد الجغرافيا السياسية .

عن "العين الإخبارية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية