هل وصلت الحداثة إلى طريق مسدود؟

هل وصلت الحداثة إلى طريق مسدود؟


28/02/2021

كانت الآمال المعقودة على الحداثة، وما نادت به من مبادئ إنسانية، أكبر بكثير مما استطاعت تحقيقه في الواقع، فمفاهيم مثل: الحرية والعدالة والكرامة، وشعارات مثل: تحرير الطاقات الكامنة في الإنسان الفرد، والانعتاق التاريخي من سلطة المؤسسة الدينية، وهيمنة الدولة في نفس الوقت، عبر تكريس أدوات الديموقراطية ومؤسساتها، قابلها على الجانب الآخر، توحش النظام الرأسمالي، في ظل استعباد الفرد داخل المنظومة الاستهلاكية، وتغوّل نمط العقل (الأداتي) المعادي لأي نزعة إنسانية، وهو يسير مباشرة نحو إيجاد الحلول، دون مناقشة مضمونها، والسبب ربما يعود إلى أنّ هذا العقل شكلّته الثورة الصناعية، وصبغته بنزعة آلية /رقمية، لا تعرف سقفاً لطموحها المادي، وهو يتجاوز بمراحل الاحتياجات الواقعية للإنسان.  

اقرأ أيضاً: كيف يمكن فهم علاقة الإسلام السياسي بالحداثة؟
تزامن مع عصر الحداثة، انفجار مفهومي التنوير والعلمانية، ومع ميل المعادلة المعرفية إلى ترجيح كفة العقلانية المطلقة، تراجعت المقولات الدينية بشكل حاد، وهو ما دفع البعض إلى اتهام الحداثة بتجفيف منابع الروح، عبر حصار الإيمان بشتى أشكاله، وفي عالم بمثل هذه المادية، تجلّت الإمبريالية بوصفها أحد أبرز موجات المد الحداثي، واندلعت حروب مدمرة، في ظل رواج أيديولوجيات فاشية، استبدلت الدين بالتفوق العرقي، أضف إلى ذلك الازدواجية الحادة في المعايير، والحرص على إعادة إنتاج التخلف في مناطق الهامش، وهو الأمر الذي استمر بعد انحسار الموجة الإمبريالة التقليدية.

كانت الآمال المعقودة على الحداثة وما نادت به من مبادئ إنسانية أكبر بكثير مما استطاعت تحقيقه

وعليه، لم تف الحداثة بوعودها في عالم مأزوم، ولم تستطع النظريات المركزية، أو لنقل النماذج التي استلهمتها، تحقيق الآمال المنشودة، وبقي المركز يدور في رتابته، بينما الهامش يضجّ بصراعات عبثية، وهو ما دفع البعض إلى إعلان موت الحداثة بسردياتها وآمالها، والتبشير بعالم ما بعد الحداثة، عالم يقبل بالتعددية، ويرفض الحقيقة المطلقة، باعتبارها تنطوي على معطيات تخييلية (غير واقعية)، في معادلة جديدة لا تقبل بالتنميط، وتلقى بكل مدلولاته ويقينيته المطلقة خارج نطاق تعاملها، أو كما يقول فاكلاف هافل: "في عالم ما بعد الحداثة؛ كل شيء ممكن ولا شيء مؤكد تقريباً".

اقرأ أيضاً: الارتياب في الحداثة والتوجس من الحرية
وهو ما يعني أننا بصدد محاولة جادة للبحث عن خيارات جديدة، بعيداً عن ضيق أفق الحداثة، وتعنتها الأيديولوجي؛ فالوظيفة الرئيسية لما بعد الحداثة هي إعادة تشكيل الحقيقة، باعتبارها كما يقول ماكدويل: "تُخلق بدلاً من اكتشافها"، وما يعنيه ذلك من إعطاء الفرصة للآخر، أي آخر، ليعبر عن نفسه، في سياق الايمان بالتعددية؛ فالتعددية الثقافية هنا هي بديل الحقيقة.
ثورة الشباب طريقاً للخلاص
اتخذ البحث عن خلاص في سياق الحداثة الموهومة عدة أشكال؛ لعل ثورة الشباب في فرنسا في العام 1968 كانت أبرزها؛ حيث جاء الانفجار اللحظي مدوياً، في مواجهة مجتمع خلقته الحداثة، ثم أفقدته كل قيمة، تحت وطأة الاستلاب الرأسمالي، خرجت انتفاضة أيار (مايو) لتعلن صرخة الشباب ضد الدولة الرأسمالية السلطوية بكل مؤسساتها وأدواتها الأمنية، وضد الحزب الشيوعي بتوزاناته وانتهازيته السياسية، وضد النقابات العمالية ببنيتها البيروقراطية وعقليتها المحدودة. وعليه يمكن القول إنّها كانت ثورة على الحداثة بسردياتها وزيف تصوراتها، وما أنتجته من واقع، يحمل في طياته كل أشكال التناقض.

اقرأ أيضاً: "الإسلاموية".. من التكيف مع الحداثة إلى أسلمتها
انتهت ثورة الشباب بمساومة تاريخية، حاولت من خلالها الرأسمالية تحييد المجتمع، عبر منح الطبقة العاملة جملة من الامتيازات، ومنح الشباب مساحة أكبر من الحريات، لكنها كانت كمن يمنح بعضاً من الفتات، ليحافظ على مائدته عامرة، وهو ما جعل فرانسوا ليوتار يطلق دعوة صريحة للقطع الحاد مع كل السرديات المرتبطة بالحداثة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
الاشتراكية الرسولية ومذبحة معبد الشعوب
ربما كان أولئك الذين اتبعوا القس الأمريكي المهووس جيم جونز، خير دليل على ذلك الاضطراب الحاد، الذي أصاب روح الإنسان في مراحل الحداثة المتأخرة، اضطراب نتج عن فقدان الثقة بالإيمان التقليدي، مع الحاجة المُلحة لإيمان جديد، يفتح لإنسان الحداثة طريقاً نحو الخلاص، وكأننا بصدد ثورة على الإيمان بالإيمان، ثورة استغلها جيم جونز، ليؤسس كنيسته ومذهبه المعروف بــ "معبد الشعوب"، وفي لحظة استثنائية، التحق بكنيسته الغامضة نحو ألف شخص، ليمارس جونز المرتبك بين تعاليم الإنجيل، ونزعته الشيوعية سلطة روحية مطلقة؛ باعتباره ابناً للمسيح، مستغلاً ما يمر به المجتمع من ظروف عنصرية، وما تعانيه الشخصية الأمريكية الحداثية من تشوهات حادة في بنيتها.

بقي المركز يدور في رتابته بينما الهامش يضج بصراعات عبثية ما دفع البعض إلى إعلان موت الحداثة

وتحت ضغط الرفض السياسي لكل ما هو شيوعي، خرج جونز بأتباعه إلى غابات الأمازون، ليصنع عالماً موازياً، يقوم على طاعة مبعوث العناية الإلهية، الذي بشر بالاشتراكية الرسولية طريقاً وحيداً للملكوت، وفي العام 1978 ينتهي الأمر بحالة انتحار جماعي، هي الأكبر والأبشع في التاريخ.
ربما كان هذا الإفراز الشعبوي، الأقرب إلى الهوس، لجدل الحداثة والدين، دليلاً آخر على فشل المنظومة الحداثية، في الوفاء باحتياجات إنسان ما بعد الحرب الكبرى، والذي سقط تحت سنابك عبثية الصراع الأيديولوجي، في ذروة الحرب الباردة، والذي لم يهتم أحد بالإجابة عن تساؤله المركزي: أين الطريق إلى الله؟
الرأسمالية تعيد إنتاج المفاهيم
هل يمكن القول إنّ عالم ما بعد الحداثة، يملك عصا الساحر لحل مشكلات الإنسان المعاصر؟ يقول فردريك جيمسون: "ما بعد الحداثة مفهوم يعبر عن المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة"، وهو ما يعني دخول العولمة على خط المواجهة، باعتبارها تعبّر عن نمط اقتصادي استهلاكي، يهدف إلى إعادة صياغة العلاقات، من خلال ربط الممارسات الثقافية والدينية بالنمط الاقتصادي الريعي، وهو ما يمكن ملاحظته عبر تحليل أنماط شتى من الإنتاج القائم على اقتصاديات الدين، وإذا كانت طروحات ما بعد الحداثة تتخذ من الاعتراف بالتنوع نقطة انطلاق، فإنّ الأنماط الاقتصادية المصاحبة، وهي تسعى إلى تكريس هذا التنوع، تقوم بمسايرته من خلال تشكيلات إنتاجية جديدة، تحوّل هذه المجتمعات بالتبعية، إلى بؤر هامشية تابعة، تقتسم الشركات العملاقة مقدراتها.

اقرأ أيضاً: الوعي بالحداثة.. الجهل بالدين: كيف نفكر بشكل فاشل؟
وعليه، فالمتغير السياسي في الهامش، والذي لا يمكن أن يعمل بمعزل عن ثورة معرفية تغير المفاهيم الاجتماعية، هو المعيار الحقيقي، فإذا ما نجح الهامش في الخروج من حيز التبعية، وإغراء الاقتصاد الريعي، ودخول حقل المعرفة بخطى تستمد من الهوية دافعاً، ومن الانفتاح على الآخر استراتيجية ناجزة، نكون بصدد إنسان كوني ما بعد حداثي، نجح أخيراً في الإفلات من تناقضات الحداثة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية