هل ماتت الأخلاق في عالم السياسة؟

هل ماتت الأخلاق في عالم السياسة؟


16/10/2018

ديفيد روبسون

من الصعب على المرء، مهما كان انتماؤه السياسي، أن ينكر أن مجال السياسة أصبح خلال السنوات العشر الماضية أقل تحضرا ودماثةً.

ربما يعود هذا الأمر إلى وجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي زادت من قدرتنا على الاطلاع بشكلٍ مباشرٍ على أفكار من هم في سدة الحكم.

لكن علينا أن نقر هنا أيضاً بأنه لم يسبق أن كان هناك رئيسٌ أمريكيٌ يستخدم، وهو في منصبه، صفاتٍ من قبيل "نصاب" و"مجنون" و"مريض نفسياً" و"محتال"، لمهاجمة معارضيه، وبشكل منتظمٍ للغاية.

فهل يؤثر هذا النوع من استخدام الإهانات الشخصية لانتقاد الخصوم على مكانة السياسي الذي يلجأ إلى ذلك بين جماهيره؟ أم أن هذا الأسلوب يشير ببساطة إلى أن من يتبعه من الساسة هو صاحب شخصيةٍ مُهيمنةٍ عازمةٍ على تحقيق أهدافها، بما يفضي إلى زيادة شعبيته؟

بوسعنا أن نضرب مثالاً في هذا الصدد بجلسة الاستماع التي شهدها مجلس الشيوخ الأمريكي بشأن اتهامات التحرش الجنسي الموجهة للقاضي بريت كافانو، وهي الجلسة التي لم تؤدِ سوى إلى التأكيد على الانقسامات السياسية العميقة التي ابتليت بها دولٌ مثل الولايات المتحدة.

فقد أظهر استطلاعٌ أجرته مؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي أن الإفادة التي أدلى بها كافانو خلال جلسة الاستماع هذه لم تُحْدِثْ أي اختلاف في نسبتي التأييد والمعارضة بين الأمريكيين لتعيينه في المحكمة العليا، رغم أن الإفادة وُصِفَتْ بأنها "دعوةٌ مُفعمةٌ بالغضب إلى التحرك والمواجهة"، بل إن القاضي الأمريكي وصف نفسه لاحقاً بأنه كان "حاداً وعنيفاً" و"ثائراً عاطفياً" للغاية خلال إدلائه بها.

التأثير الوحيد الذي أحدثته هذه الإفادة تمثل في التراجع الحادّ الذي طرأ على نسبة من كانوا لم يحددوا موقفهم بعد من هذا الأمر.

وبعد أقل من أسبوعين من الجلسة، تم تأكيد تعيين كافانو في المحكمة العليا بالولايات المتحدة، وهو ما جعل البعض يرى أنه لم يعد يجدر بالمرء أن يكون أقل عنفاً أو شراسةً في التعبير عن رأيه في مثل هذا المناخ السياسي بالغ الاستقطاب.

وفي الآونة الأخيرة، سعى الباحثان جيريمي فريمر من جامعة وينيبغ الكندية وليندا سكيتكا من جامعة إلينوي بشيكاغو الأمريكية للتحقق علمياً من صحة هذه الرؤية.

وقد جاءت النتائج التي توصلا إليها مُفاجئة، والتي نُشِرَتْ مؤخراً في إحدى أبرز الدوريات العلمية المتخصصة في مجال علم النفس الاجتماعي.

فقد اختبر الباحثان صحة فرضيتيْن؛ الأولى تحمل اسم "مبدأ مونتغو" نسبةً إلى ماري وورتلي مونتغو، وهي سيدة إنجليزية أرستقراطية عاشت في القرن الثامن عشر، واشتهرت بأنها كانت تحاجج بأن "التحلي بالكياسة لا يكلف شيئاً، ويحصل المرء بفضله على كل شيء". ووفقاً لهذا المبدأ، يُفترض أن يؤدي تصرف أي سياسي على نحوٍ فظٍ أو غير لائق إلى الإضرار بشعبيته.

وكبديلٍ لهذه الفرضية، طرح الباحثان ما أُطْلِقَ عليه اسم "فرضية اللحوم الحمراء"، التي شَبَها في إطارها لجوء سياسيٍ ما إلى التفوه بإهاناتٍ شخصية بحق خصومه، بإلقائه لحوماً حمراء إلى أنصاره لالتهامها والنهش فيها.

ووفقاً لهذه الفرضية، قد يرى أنصارك أن التعليقات التي تفتقر إلى الدماثة والتهذيب ليست سوى انتقادٍ صادقٍ وحقيقيٍ وموثوقٍ به، يعبر عن مشاعرهم هم أنفسهم. وفي ظل حالة الاستقطاب السياسي المحتدمة حالياً، ربما يتماشى سلوكٌ كهذا على نحوٍ خاصٍ مع انعدام ثقة المؤيدين المتحمسين لتيارٍ سياسيٍ ما في خصومهم السياسيين.

وفي إطار أبحاثهما، أجرى فريمر وسيكتكا سلسلةً من التجارب، تضمنت تحليلاً لتأثير تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نتائج استطلاعات الرأي والاستبيانات التي تُجرى على شبكة الإنترنت، وتسعى -بشكلٍ خاص- إلى التعرف على ردود الفعل على تصريحات ترامب، مثل هجومه على اثنين من مقدمي البرامج التليفزيونية.

وهذان المقدمان هما ميكا بريجينسكي، التي وصفها ترامب بأنها "مجنونةٌ ذات معدل ذكاءٍ متدنٍ" وتبدو كأنها "تنزف بشدةٍ جراء عمليةٍ لشد الوجه"، وأما الآخر فزميلها في تقديم البرنامج الصباحي على شبكة "إم إس إن بي سي" جو سكاربورو الذي قال عنه الرئيس الأمريكي إنه "مريضٌ نفسيٌ".

ووجد الباحثان أن التصريحات الأكثر ابتعاداً عن اللياقة لترامب كانت الأقل قبولاً من جانب المشاركين في الاستطلاع، بينما زادت شعبيته وقبول الجماهير له في المرات التي أبدى فيها الاحترام وضبط النفس.

ومن الأمور الحاسمة، والمهمة كذلك، ما بينته الأبحاث التي أجراها فريمر وسيكتكا من أن "مبدأ مونتغو" أثبت صحته حتى بين مؤيدي ترامب، بينما لم يكن هناك دليلٌ يثبت صحة "فرضية اللحوم الحمراء".

أكثر من ذلك، أظهر الباحثان أنه لم يطرأ أي تغيير على هذا الاستخلاص، حتى عندما كان الأمر يتعلق بتحليل رد فعلٍ لاذعٍ أبداه ترامب على انتقادات شخصية تعرض لها، وهو موقف ربما يشكل مبرراً على نحوٍ أكبر لإدلاء المرء بتصريحات فظة قليلاً.

وبشكلٍ عام، يبدو أن الرأي العام يفضل أن يتجاهل الساسة الإساءات والإهانات الشخصية الموجهة إليهم، بدلاً من أن يردوا عليها بأسلوب لاذعٍ وفظ.

وللتحقق من أن هذه النتائج تمثل توجهاً عاماً سائداً بين الجماهير، وأنها لم تكن مرتبطةً ببساطة بالتوقعات القائمة من الأصل لدى الباحثيْن اللذين أجريا الدراسة، وسّع الاثنان نطاق التحليلات التي أجرياها، لتشمل ردود فعل العامة حيال تصريحاتٍ أدلى بها ساسةٌ وهميون يتبنون توجهاتٍ سياسيةً مختلفةً.

ومن جديد، بدت ردود الفعل متماشيةً مع ما يتمحور حوله "مبدأ مونتغو" الذي يؤكد أهمية التحلي بالأخلاق الحميدة، وذلك بغض النظر عن الانتماءات السياسية للمستطلعة آراؤهم.

كما أجرى الباحثان دراسةً تستخدم تقنية "تحليل النص" لقياس مدى التحلي بالدماثة والالتزام باللطف واللياقة في النقاشات التي جرت في البرلمان الأمريكي (الكونغرس) بين عامي 1990 و2015، سعيا للتعرف على مدى رضا الجمهور عن أداء المؤسسة التشريعية الأمريكية خلال الفترة نفسها.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الدراسة كانت تتناول الكونغرس ككيانٍ، دون التعامل مع إسهامات أعضائه كأفراد. ورغم ذلك، تبين أن النتائج التي استخلصها فريمر وسيكتكا من تحليل ردود الفعل على تصريحات ترامب، تَصْدُقُ هنا أيضاً.

فكلما كانت النقاشات ذات سمةٍ عدوانيةٍ أو بعيدةٍ عن التهذيب، قَلَّ مستوى رضا الرأي العام عن الطريقة التي يتعامل بها الكونغرس مع قضايا مختلفة.

وبعبارةٍ أخرى، تبين أن اللجوء إلى الفظاظة في النقاش السياسي يقلل من الثقة في العملية السياسية برمتها.

وهكذا خَلُصَ الباحثان إلى أن الأخلاق الحميدة لا تزال "تشتري كل شيء ولا تُكلف شيئاً" كما سبق أن أكدت مونتغو، وهو ما يجدر بالساسة -الذين ينظّمون حالياً حملاتهم الدعائية لخوض معركة الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة- أن يلاحظوه ويأخذوه بعين الاعتبار.

عن "بي بي سي"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية