هل توارت البرجوازية الفلسطينية عن المشهد الوطني بعد النكبة؟

فلسطين

هل توارت البرجوازية الفلسطينية عن المشهد الوطني بعد النكبة؟


22/12/2019

أثار مؤتمر "مائة عام من القومية الفلسطينية"، الذي أقيم في عمّان السبت والأحد الماضيين، في مركز أبحاث جامعة كولومبيا، شجناً فلسطينياً قديماً، حول الطبقة البرجوازية الفلسطينية، وإن كانت إثارة الشجن لم تتجاوز في الواقع حدود استذكار أمجاد هذه الطبقة ومنجزها الحضاري، من خلال أوراق مؤتمر قدّمها ذوو شخصيات فلسطينية أحدثت أثراً سياسياً وثقافياً ما، دون مناقشة جدليات دور هذه الطبقة سياسياً، ودون الوقوف لدى محطّات فلسطينية لاحقة كان محورها أبناء الطبقة الوسطى والدنيا، كمرحلة الثورة الفلسطينية، رغم كون المؤتمر يتحدث عن مئة عام من القومية الفلسطينية.

اقرأ أيضاً: الرفاق الخليجيون على خطوط التماس دعماً للثورة الفلسطينية
كان لـ "حفريات" حديث حول هذه النقطة التي دار المؤتمر في فلكها، مع المفكر الفلسطيني المقيم في أمريكا، رشيد الخالدي، الذي يشغل حالياً مقعد إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، ومع بعض من يملكون وجهة نظر حول هذه الجزئية تحديداً، بحكم تجربتهم النضالية وخلفيتهم العائلية، وهي: ماذا حدث للطبقة البرجوازية الفلسطينية؟ وهل توارَت عن المشهد الوطني الفلسطيني بعد النكبة؟

د. رشيد الخالدي

أجاب د. رشيد الخالدي: الطبقة البرجوازية الفلسطينية هي التي قادت النضال حتى النكبة، ومنذ ذلك الحين لم يعد لهذه الطبقة دور سياسي، تمّ استقطاب هذه الطبقة من قِبل بعض الأنظمة العربية، كما في الأردن، وباتوا يمسكون بمناصب في الدولة ومناصب في مواقع أخرى، كالتجارة والطب وغيره.

اقرأ أيضاً: لماذا تحضر الخبيرات "على استحياء" في الإعلام العربي؟
بوسعنا القول إنّ الشخصية الوحيدة التي لمعت من هذه الطبقة، في الأعوام اللاحقة للنكبة، فيصل الحسيني، وبوسعنا كذلك القول إنّ هذا التراجع في دور الطبقة البرجوازية الفلسطينية هو امتداد لما حدث عربياً في دول عدّة؛ إذ انتهى دور الباشوات والإقطاعيين ضمن تطوّر طبيعي وصل للنهاية، لا أخال أنّ في الأمر أيّة مشاعر ضغينة من أيّ طرف، لكنّه في الحالة الفلسطينية تطوّر طبيعي بعد النكبة والشتات، لقد أصابتنا كارثة كفلسطينيين؛ إذ ضاع الأساس المادي الذي نقف عليه، لقد أصبح 150 ألفاً من ساكني المدن الفلسطينية لاجئين، لاحقاً سيطر لاجئون من أبناء الطبقة الوسطى من خرّيجي مصر ولبنان وسوريا على المشهد النضالي الفلسطيني، لكنّهم طبقة أخرى غير الوجهاء الذين كانوا يمسكون بالمشهد قبل النكبة.

الأكاديمي والكاتب أحمد جميل عزم

من جانبه علق الأكاديمي والكاتب أحمد جميل عزم: ربما الأدقّ أن نقول: هل هيمن التاريخ الأرستقراطي المدني، بدل الفلاحي؟ فالبرجوازية مرتبطة بالاقتصاد، أما الأرستقراطية، فأكثر ارتباطاً بنمط حياة مدني ثقافي، ربما يدخل فيه أصحاب المواقع البيروقراطية والدينية والعلمية.

عزم: الأغنية الريفية والتراثية والثوب الفلسطيني جميعها برزت إلى جانب الكلمات الثورية المدنية، والريفيون صاروا مثقفين مدنيين

ما حصل سياسياً، في نظر عزم، هو بروز النخب الآتية من أوساط اللاجئين، والعائلات الأصغر، بدل العائلات التي أسماها، ألبرت حوراني، في نظريته "سياسة الأعيان" أو (politics of notables)، فمثلاً؛ ياسر عرفات، وجورج حبش، ووديع حداد، وخليل الوزير، يصعب القول إنّهم فلاحون، أو من أوساط فلاحية، قبل النكبة، لكنّهم لاجئون، من عائلات لم تكن من "الوجهاء"، وإن كانوا من الطبقات الوسطى المدنية، وربما تجب مراجعة مقولة إنّ الفلاحين وقود الثورة، خاصة بعد عام 1967، فكثير من المناضلين جاؤوا من أوساط مدنية، ألم يكن شفيق الغبرا، وحنا ميخائيل، ومروان كيالي، ومعين الطاهر، وخالد الحسن، وجورج عسل، ووديع حداد، وجورج حبش، وتريز هلسة، وناديا خياط، مقاتلين من أصول مدينية؟

اقرأ أيضاً: لماذ تعتقد نخب فلسطينية أنّ المشروع الوطني يحتضر؟
فما تغيّر سياسياً هو ذهاب "سياسة الأعيان"، وحصول حراك اجتماعي، على أساس الاشتراك في النضال والثورة.
نعم، هناك تركيز على الإرث الأرستقراطي الفلسطيني، فكثيرة هي الكتابات التي وثقت تاريخ فلسطين، ما قبل النكبة، عبر توثيق الحياة المدنية والأرستقراطية، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ من الكتب الشائعة: "قبل الشتات" لوليد الخالدي، وهو توثيق لهذه الحياة، والسير الذاتية لإدوارد سعيد، وغادة الكرمي، وحازم نسيبة، ويوسف صايغ، وشفيق الحوت، وكتابات عائدة النجار عن القدس، وعن قرية لفتا، ورشيد الخالدي، عن الهوية الفلسطينية، وغيرها الكثير من الكتابات التي وثقت الحياة المدنية، والأرستقراطية ما قبل النكبة، وتشكل جزءاً من الهوية الفلسطينية، ومن الأسباب الدائمة للفخر الوطني.

 


والسبب في هذا، يتابع عزم، أنّ هناك دائماً محاولة لنفي أنّ الشعب الفلسطيني كان شعباً متخلفاً بدائياً، كما روّجت الصهيونية، وأعتقد من المبالغة القول إنّ القرية هيمنت على المدينة في التراث.
الأغنية الريفية والتراثية والثوب الفلسطيني جميعها برزت إلى جانب الكلمات الثورية المدنية، والريفيون صاروا مثقفين مدنيين، فشِعر محمود درويش، ابن قرية البروة، وما غُني له، ما كتبه مثلاً عن ريتا وعيونها والبندقية، أو القصيدة التي صارت أغنية "قيثارتان" ليست تعبيراً ريفياً، وسميح القاسم، وما كتبه من شعر، وهو ابن قرية الرامة، لا يعبر عن الريف.
الثوب الفلسطيني المُطرز، يرتبط بالريف ما قبل النكبة، لكن ربما يرتبط أيضاً بحياة مدنية عمرها آلاف السنين.

 

اقرأ أيضاً: شفيق الغبرا: القيادة الفلسطينية مارست السلطة قبل اكتمال التحرّر الوطني
التركيز على الريف في الغناء والرموز له سبب؛ أنّ الوطنية، عند الشعوب، خصوصاً التي تعاني الاحتلال، تتعلق بالأرض، والمشاهد الطبيعية.
لذلك أعتقد أنّ الهوية الفلسطينية، عبرت عن خليط أرستقراطي وريفي، مدني وفلاحي، وعن موزاييك كامل، وثق كلّ هذا، وأن من توارى هم طبقة الوجهاء التقليديين، الذين كانت مكانتهم الاجتماعية ترتبط بدورهم كرؤساء بلديات، أو رجال دين، أو جباة ضرائب، وغير هذا من مواقع اختفت بحدوث الشتات.
ومن جاء هم الثوّار من المدينة والريف، وهيمنة التاريخ الأرستقراطي يرتبط بالدفاع ضدّ مقولة المجتمع المتخلف، ولأنّ هؤلاء الأرستقراطيين، احتفظوا بأرشيف ومواد وسجلات مكنت من كتابة التاريخ، فيما الريف يحتاج إلى التاريخ الشفوي.

نجل المناضل الفلسطيني كمال عدوان، المهندس رامي عدوان

نجل المناضل الفلسطيني كمال عدوان، المهندس رامي عدوان، قال: شهدت فلسطين وجود الطبقة البرجوازية والإقطاعيين إلى جانب الفلاحين، وقد قادت هذه الطبقة البرجوازية والطبقات المهنية من محامين وتجّار وقضاة النضال الفلسطيني في بواكيره، وتحديداً قبل النكبة، عام 1948، وقد كانت لهم اليد الطولى في إضراب العام 1936 وحكومة عموم فلسطين، وظل الحال هكذا حتى عند تأسيس المجلس الوطني الأول.
أما بين الأعوام 1948 و1967، وتحديداً 1965، فقد كانت هناك بدايات عمل تنظيمي مسلح أو شبه حربي/عسكري، وكان غير راضٍ على تبعية البرجوازيين ومحاولتهم الهيمنة والقيادة وفي الوقت ذاته الحفاظ على مصالحهم مع الأنظمة العربية.

عدوان: ياسر عرفات، على بعض مساوئه، يُحسب له أنّه حافظ على استقلالية القرار الفلسطيني من عملاء الرجعية العربية

في الـ 1965 انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية وكان أحمد الشقيري، المحامي من عكا، على رأسها، وعام 1967 كان من الواضح أنّ المعركة تحتاج إلى أدوات مختلفة، فأتت الفصائل التي لم يكن القائمون عليها من الطبقة الإقطاعية آنفة الذِكر، وقد خلقت تواصلاً جماهيرياً أقوى، لكنّها بطبيعة الحال لم تكن تروق لطبقة الإقطاع، التي اعتادت على الإمساك بالعصا وتصدّر المشهد الوطني، ومن هنا تدريجياً خرج من تبقى منهم من المشهد وصارت الطبقة الوسطى والفلاحين هم من يسيطرون على الحركة الوطنية.
وقد جاءت نخب الإقطاع بالطبقات الأكاديمية المترفة ممّن نصّبوا أنفسهم لاحقاً كلجان تحكيم للحركة الوطنية الفلسطينية، وقد عزّز موقفهم ووجهات نظرهم سوء الإدارة الفتحاوية والفصائل لما حدث لاحقاً من أحداث.
من وجهة نظري؛ لو بقيت الطبقة البرجوازية هي الممسكة بزمام الأمور، لما وجد ما هو أكثر من تنظير ودبلوماسية واهية وخطابات في المحافل الدولية، وستتخاطف شخصيات هذه الطبقة الأنظمة العربية، لذا من أنتجَ شيئاً ما بالوسع الحديث عنه هو الثورة الفلسطينية والانتفاضتين، وما عدا ذلك لا يعدو كونه تنميقاً لغوياً ونشاطاً اجتماعياً واسترضاء لأنظمة عربية.
ياسر عرفات، على بعض مساوئه، يُحسب له أنه حافظ على استقلالية القرار الفلسطيني من عملاء الرجعية العربية، وإن كان يتحمّل تبعات تردّي جزء كبير من الوضع لاحقاً.

د. عبد الوهاب كيالي

الصحفي والكاتب د. عبد الوهاب كيالي، أعرب عن اعتقاده بأنّ الطبقة البرجوازية في فلسطين لم تتوارَ عن الثورة أو عن المشهد الثقافي يوماً، ولكنْ هناك بُعد ديمغرافي يجب الاعتراف به، وهو أنّ الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين قبل النكبة لم يكونوا من ساكني المدن، ولاحقاً انعكس هذا التمثيل العددي في المشهد الفلسطيني سواء كان سياسياً أم غيره؛ يعني في البداية، كان تمثيل المدن أكبر من حجمه، ومع الوقت تراجع هذا التمثيل لحجم الفئة المدنية الحقيقي.
في الثورة؛ صلاح خلف ابن يافا، وفي السياسة فيصل الحسيني ابن القدس، وحنان عشراوي ابنة رام الله، وفي الجامعة سليم تماري ابن يافا، ورشيد الخالدي ابن القدس، الخلاصة؛ أنّه مع الوقت، ومع حدوث النكبة والشتات، انعكست كافة الأصول بنسبها الحقيقية على المشهد الفلسطيني، لكنّ أحداً لم يتوارَ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية