هل العثمانيون غرباء عن حضارة المشرق؟

هل العثمانيون غرباء عن حضارة المشرق؟

هل العثمانيون غرباء عن حضارة المشرق؟


19/12/2019

لم يكن السقوط الملحمي للقسطنطينيّة، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، في العام 1453م، إعلاناً بالانتصار النهائي للشرق على الغرب، في معركة المصير الأخير، التي أسدلت الستار على حقبة العصور الوسطى، كما تحاول العديد من الأدبيات التأكيد عليه، ذلك أنّ العثمانيين ليسوا أبناء الحضارة المشرقية بعمقها التاريخي، وروافدها العربية، التي تفاعلت مع الحضارات المجاورة، قبل أن تصنع بلغتها الأصيلة، ومعطياتها الضاربة في جذور التاريخ حضارتها الخاصة.

 

 

على كل حال، نشأت الإمارة التركمانية الجديدة -نواة الدولة العثمانية- على تخوم سلطنة سلاجقة الروم، وعملت في خدمتها؛ ككيان عسكري وظيفي لصد الغارات البيزنطية، وأفلحت أخيراً في نيل استقلالها، ومن ثم التوسع في محيط جغرافي مفكك نسبيّاً. هذه الإمارة لم تكن تملك من مفردات الحضارة المشرقية غير الدين الإسلامي، وهو ما حاول عثمان بن أرطغرل وخلفاؤه توظيفه سياسيّاً، لكسب غطاء شرعي، وخلق حالة حماسيّة نجحت من خلالها تحت رايات الجهاد في كسب المزيد من الأرض، وهو ما صاحب الدعاية الدينيّة الكبيرة التي صاحبت سقوط القسطنطينيّة، كسحم أخير لصراع طويل مع العالم المسيحي، مع غض الطرف عن صعود كيان مسيحي آخر في الأندلس؛ حيث كانت حروب الاسترداد، آنذاك، على أشدها، قبل أن تنتهي بسقوط غرناطة بعد أقل من أربعة عقود على سقوط القسطنطينة، هذه الدعاية الدينيّة تبلورت بشكل أكثر وضوحاً إبان قيام سليم الأول بغزو الشرق، محاولاً برفع شعار الخلافة، استلهام مسيرة تاريخية كان وقومه غرباء عنها لأبعد الحدود.

الاغتراب الحضاري وتوظيف الدين

العثمانيون غرباء عن حضارة الشرق، مقولة يمكن التدليل على صحتها بشتى البراهين، فقبيلة قايي الأوغوزية التي ارتحلت غرباً نحو الأناضول تحت ضغط الخوارزميين والتتار، اشتهر أفرادها بالعمل كمرتزقة في صفوف السلاجقة، ومع الكفاءة العسكرية التي أبداها أرطغرل، تحصل على لقب حامي الحدود، وحتى قبيل وفاة عثمان الأول، حافظت القبيلة التركمانية على أدوراها الوظيفيّة، قبل أن تتفكك دول الجوار، ويصبح في مقدور القوة الفتية تحقيق استقلالها الكامل، ثم التوسع وفق سيناريو تاريخي كلاسيكي معتاد.

اقرأ أيضاً: هل تولّى العرب مناصب قيادية في الدولة العثمانية؟
استعصت العربية على اللسان التركماني، ولم يدرك آل عثمان أيّا من المفردات الحضارية العربية/ الإسلامية، في محيط جغرافي سيطرت عليه الصراعات العسكرية، وهنا التفت العثمانيون إلى العامل المشترك الوحيد بينهم وبين المشرق، ألا وهو الدين الإسلامي، وفي محاولة لبناء خصوصيّة ثقافيّة، عمدوا إلى أسلمة الإرث الحضاري البيزنطي، فحولوا عدداً كبيراً من الكنائس إلى مساجد، وعلى رأسها آيا صوفيا، أكبر كنائس العالم آنذاك.

 

 

تأثر العثمانيون بالشعوب التي اختلطوا بها، حتى أنّ مفردات لغتهم كانت هجيناً من لغات الأمم المجاورة، كما تأثرت عمارتهم بالعمارة الفارسية والبيزنطية، على حد سواء، حتى أنّهم أخذوا النمط المعماري لـ "آيا صوفيا" كنموذج للعديد من المساجد العثمانية، مع الإغراق في استخدام تقنية فراغات البناء الواسعة، التي انحصرت في القباب الهائلة بالمساجد والمدافن، وأخذ تصميم المآذن شكل الرمح المسنون، في دلالة عسكرية تعكس طبيعة الروح المهيمنة على الشخصية العثمانية.

الطبيعة البربرية التي فرضها السياق التاريخي/ الاجتماعي لقبيلة قايي والعشائر التابعة لها جعل الانتساب للحضارة الإسلامية ملاذاً أخيراً

هذه الطبيعة البربرية التي فرضها السياق التاريخي/ الاجتماعي لقبيلة قايي والعشائر التابعة لها، جعل الانتساب للحضارة الإسلامية، ملاذاً أخيراً، للخروج من دوائر الاغتراب الحضاري، بالانتساب لثقافة مركزية أم، وهو الأمر الذي رسم خط الصعود السياسي للعثمانيين كأمة مستوردة للحضارة، الأمر الذي يفسر حركة الاستيلاء الكبرى التي قاموا فيها باستهداف التراث الحضاري للمستعمرات، والترحيل القسري للعلماء والصناع المهرة إلى أرض أمة بلا حضارة، تسعى إلى بناء مجد يوازي منجزها العسكري.
لم يكن هذا الاغتراب عن حضارة المشرق فحسب، بل عاش العثمانيّون نوعاً آخر من الاغتراب عن محيطهم الجغرافي في آسيا الصغرى، والذي شهد امتدادات الحضارة الإغريقية، ومؤثراتها الهيلينية العميقة، وكذلك الحضارة الفارسية التي امتد نفوذها إلى هناك، واستقرت مخرجاتها الثقافيّة العريقة لحقب زمنيّة طويلة، على العكس من الوجود العثماني الذي عبر إلى آسيا الصغرى، واستوطن وتمدد بفعل القوة العسكرية وحدها.

 

المتخيل الديني وصناعة الوهم
طيلة ثمانية قرون، ومنذ عهد الخلافة الأموية، لم تنقطع محاولات إسقاط القسطنطينية، لكن أسوارها الحصينة حالت دون ذلك، بالإضافة إلى موقعها المنيع، ومع الفشل المتتالي، كان يتم تجديد الدوافع، عبر استدعاء المتخيل الديني، والذي ربط فتح القسطنطينية ببشارة للنبي محمد- عليه الصلاة والسلام- تناقلتها الألسنة، ودونها أحمد بن حنبل في مسنده تقول: "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ". وفي روايةٍ أُخرى نقلًا عِن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال:" بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ نَكْتُبُ اِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ اَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ اَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ اَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ اَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ".

اقرأ أيضاً: العثمانيون جاءوا إلى الوطن العربي برائحة الموت

كما شاعت رواية دفن الصحابي أبو أيّوب الأنصاري- رضي الله عنه- عند أسوار القسطنطينية بناءً على وصيَّته، علَّه يكون المقصود بالحديث النبويّ" يُدفَنُ عند سُور القسطنطينية رجلٌ صالح"، وهو ما أجج مشاعر المقاتلين، الذين قادهم محمد الفاتح لتحقيق مجد عسكري، ذهب به المتخيل الديني لفضاءات بعيدة أسبغت عليه هالة القداسة، كعمل خارق تحققت من خلاله أخيراً بشارة النبي محمد، عليه السلام، ليصبح محمد الفاتح بمثابة المهدي المنتظر، وخير أمير، يقود خير الجيوش.

 

أردوغان وإشكالية العثماني الأخير
يمكن القول إنّ أردوغان وهو يحاول توظيف المتخيل الاسلاموي، بات غريباً عن قضايا المشرق العربي، فتركيا دولة وظيفية بامتياز، لعبت أدوراً مختلفة في خدمة الإمبريالية الغربية، وكانت عضواً مركزياً في حلف بغداد، ومارست ضغوطاً سياسية، وصلت حد التحرش العسكري بسوريا في ذروة صعود المد القومي العربي، وارتبطت بعلاقات قوية مع إسرائيل، حتى أنّها اعترفت بقيامها عقب أشهر قليلة من إعلانها، وغضت الطرف عن جرائمها، وارتبطت معها بمجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية. وهي كذلك تعاني اغتراباً في محيطها الأوروبي، فعلى الرغم من عضويتها في حلف الناتو، ووجود قواعد عسكرية للحلف على أراضيها، إلا أنّها فشلت في الانضمام للاتحاد الأوروبي، والتماهي مع معاييره السياسية والاقتصادية.

اقرأ أيضاً: مؤرخ تركي يعترف بجريمة إبادة العثمانيين للأرمن

من هنا، ومع ممانعة الجسد العربي، ورفض الكيان الأوروبي، حاول أردوغان استلهام مسيرة أجداده، والاقتداء بهم من خلال استدعاء النموذج الإسلاموي، واستخدام المعطيات ذاتها، للتغلب على حالة الإغتراب، والتغطية على الأدوار الوظيفية للدولة التركية، ومن ثم التدخل السافر في المنطقة التي تعاني حالة من الفوضى، في أعقاب ربيع العرب الحزين، وكالعادة يبدو الكيان التركي في عباءته الاسلامية أكثر اغتراباً عن ذي قبل، في ظل التحركات المشبوهة الداعمة لحركات الاسلام السياسي، بحثاً عن دور يرفضه التاريخ، وسعياً خلف مشروع وهمي، يفرض فيه على المنطقة العودة لوضع الإيقاف العثماني البائد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية