هل الاغتصاب حادث عارض في مجتمعاتنا؟

هل الاغتصاب حادث عارض في مجتمعاتنا؟


16/10/2019

بات من المحتمل أن يستفز بعضنا سماع ولادة طفلة "أنثى" في مجتمعاتنا، أو أن تستنفر مشاعرنا خوفاً على ما ستلاقيه بطفولتها أو صباها من أهوال ومعاملة مشينة، فسماعنا لكلمة اغتصاب؛ تحفر في نفوسنا مجرىً عميقاً من الألم، فكيف لو سمعنا أو قرأنا عن اغتصاب طفلات لا تتجاوز أعمارهنّ الخمس أو سبع سنوات؟!! هل بلغت مجتمعاتنا هذا الحد من الترهل الأخلاقي والقانوني حتى صار الاغتصاب حادثاً عارضاً يمر من أمام القانون من دون أن يُنظر إليه بعمق، ومن دون أن يحسب تأثيره النفسيّ والجسدي على الضحية، وبالتالي على المجتمع بشكل عام؟ فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الانحراف الأخلاقي في مجتمعاتنا؟

اقرأ أيضاً: هل نفهم التحرش فعلاً؟

الاغتصاب؛ ليس جريمة فردية، إنّها جريمة مجتمع موبوء بالتخلف والجهل والمرض النفسي، جريمة قانون لا يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأنثى والذكر، جريمة السلطة السياسية التي تستبد بالإنسان المحكوم بالقهر، واستبداد السلطة الدينية التي تحكم بالكبت والتستر على مثل تلك الجريمة خوفاً من الفضيحة التي تُضعف شعور الأمة، جميع تلك السلطات، هي المسؤولة مسؤولية كاملة عن انتشار الجرائم وانحراف الشباب الضائع نتيجة استبدادها والاستمرار في قهره وتهميشه، مضافاً إليها المجتمع الذي يضع قوانينه الجائرة بحق الأنثى؛ والذي أعطى الحق للذكر بالقول وللأنثى بالسمع والطاعة.

لاتزال بنى المجتمعات المتخلفة قائمة على البطريركية الذكورية وثقافتها المعرفية بعيدة عن الاعتراف بالأنثى وحريتها وحقوقها

لا تزال بنى المجتمعات المتخلفة قائمة على البطريركية الذكورية، وثقافتها المعرفية بعيدة عن الاعتراف بالأنثى وحقوقها وعلى أنّها كيان حر ومستقل بذاته، تلك الثقافة بعيدة عن حمايتها من الاعتداءات والانتهاكات، ولا سيما التي تشمل التحرش والاغتصاب والاستغلال الجنسي.. إلخ، فالطفلة جنى المصرية، ومها العراقية، وأماني التونسية، بالإضافة إلى الفتيات اليافعات مثل سارة السعودية التي قُتلت أثناء تأديتها الصلاة التي هي ركن من أركان الدين، وإسراء الفلسطينية، وساندي السورية، جميعهن تعرضن للاغتصاب أو التحرش أو الاشتباه في سلوكهن على أنّه لا يتماشى مع قوانين العائلة والعشيرة والأمة، منهنّ من قتلن بأيدي أقربائهن الذكور ومنهنّ من تسترت العائلة على اغتصابهنّ خوفاً على نفسها من التشوه الأخلاقي المرتبط بالأنثى فقط.

اقرأ أيضاً: لا شرف في "جرائم الشرف"

لا تخلو المجتمعات المتقدمة أيضاً من الانحراف والجرائم؛ وهذا ما أشار إليه عدد كبير من علماء الاجتماع، فذهب عالم الاجتماع الشهير، أنتوني غدنز، إلى دراسة الانحراف وتحليله، ونمذجة المنحرفين والمجرمين، على أنّهم نماذج قابلة لاستقطاب من لديه القابلية للانحراف، على الرغم من صعوبة دراسة هذا المفهوم، حسب تعبيره، فيعرّف الانحراف على أنّه: "عدم الامتثال" أو "عدم الانصياع" لمجموعة من المعايير المقبولة لدى قطاع مهم من الناس في الجماعة أو المجتمع؛ "ولا يمكن أن نضع خطاً واضحاً وفاصلاً في أي مجتمع بين المنحرفين من جهة والممتثلين من جهةٍ أخرى.. وينبغي الإشارة إلى أنّ مفهوميّ الانحراف والجريمة ليسا مترابطين ومتطابقين في المعنى والأثر والنتائج، رغم أنّهما قد يكونان مترابطين ومتداخلين أحياناً".

المجتمعات المحكومة بالاستبداد يضعف فيها الوازع الاجتماعي والديني والأخلاقي عموماً

هذا يعني أنّ الناظم الاجتماعي هو ناظم أخلاقي وليس قانونيّاً، يستطيع أن يعاقب على الانحراف، وليس كل منحرف هو مجرم، لكن قد يقود الانحراف إلى ارتكاب الجريمة؛ كمدمن المخدرات، على سبيل المثال، يمكن أن يقتل ويغتصب، ويتأثر هذا الناظم أو المعيار الاجتماعي بتوزيع السلطة والقوة والنفوذ على الخارطة الاجتماعية؛ فالفرق بين الانحراف في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة؛ أنّ الأولى لا تتستر على الاعتداءات أولاً، وتحرِّمها أخلاقياً ثانياً، وتجرِّمها قانونياً ثالثاً، وتعاقب المعتدين عقوبات رادعة رابعاً، في حين تتستر المجتمعات التقليدية على الاعتداءات، وتفرض كتمانها على الضحايا، بسلطاتها الناعمة، أو خوفاً من الفضيحة، وتكتفي بتجريمها أخلاقياً، على الصعيد النظري، دون تجريمها قانونياً، في معظم الحالات، وأخطر ما في الأمر هو التستر على الاعتداءات وإسكات الضحايا وإعفاء المعتدين من العقاب.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة الاستعباد الجنسي لعاملات عربيات في مزارع الفراولة بإسبانيا؟

إنّ الكشف عن العيوب والأمراض، التي تصيب الجسم الاجتماعي، فتهدد سلامته، وتضعف مناعته الأخلاقية، فتفضح الاعتداءات، أو تعلنها على الملأ، وتدعو الأفراد إلى الاعتراف بما مارسوه أو بما مورس عليهم من اعتداءات، يحرر الضمائر الفردية ويحرر الضمير الجمعي أيضاً، فيجب أن يعترف المعتدي بفعلته اجتماعياً كما تعترف أو يعترف المعتدى عليها أو عليه، لأن الاغتصاب يقع في بعض الأحيان على الأنثى والذكر، لا يكون اعتداء إلا بوجود معتدٍ ومعتدى عليه أو عليها، لذلك تجب معالجة الاعتداء من هاتين الزاويتين معاً، وإلا تظل الاعتداءات وآثارها جزءاً لا يتجزأ من البنية المعرفية والثقافية والنفسية والأخلاقية لكل من المعتدي والمعتدى عليها أو عليه، وتظل المشكلة الأخلاقية مطموسة ومسكوتاً عنها قانونياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً، على الرغم من انتشارها بشكل أو بآخر في المؤسسات الثقافية والتعليمية والسياسية والدينية وفي مجالات العمل، إن لم يكن بالاغتصاب، فالتحرش موجود وبكثرة، وتزداد في البلدان التي تشهد نزاعات داخلية مثل "سوريا والعراق واليمن" وفي غير مكان من العالم.

لا تخلو المجتمعات المتقدمة أيضاً من الانحراف والجرائم وهذا ما أشار إليه عدد كبير من علماء الاجتماع

خلاصة القول؛ إنّ المجتمعات المحكومة بالاستبداد، يضعف فيها الوازع الاجتماعي والوازع الديني والوازع الأخلاقي عموماً، ولا تطبق فيها القوانين الوضعية إلاّ على الضعفاء، "المستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتلهما، والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا، وإن دعوهم لبوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت" حسب تعبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد".

   

 

 

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية