نموذج داعش وصدمة انسحاق المتخيل

نموذج داعش وصدمة انسحاق المتخيل


10/04/2021

تعد التصورات الذهنية واحدة من أبرز تجليات المتخيل في المجالين الديني والاجتماعي؛ كونها تمثل ذلك المعادل البنائي للمماهاة بين الاحتياجات وإشكاليات الواقع، لما لها من قدرة على التخلق في الزمان، وتجاوز حدود المكان؛ حيث نلمح تشابهاً واضحاً في الأنساق الميثولوجية عند مختلف الحضارات، فتتلاقى الخيوط وتتقاطع، ليغدو حضورها  مسلمة تنطلق في مجملها من مكونات البيئة التي يُمَارس فيها الدين والعرف والتقاليد، فيبدو الدين في تلك الحالة مرآة لثقافة المجتمع الذي يمارسه.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 1/2

وتعتبر الأسطورة من أكثر ظواهر الثقافة الإنسانية تعقيداً وحضوراً في الوعي الجمعي، وبشكل يتجاوز النسق الديني التقليدي، وشتى أنماطه ومصادره، فالأسطورة بوصفها حكاية تقليدية تلعب فيها الكائنات الماورائية أدواراً رئيسة، وجدت لنفسها مكاناً مميزاً في ذاكرة الشعوب، نظراً لما تحفل به مخيلتها من حكايا تنتمي في الغالب إلى عوالم مفارقة لعالمنا الأرضي، فكان التقاطع بين الأسطورة والمتخيل حتمياً لنصبح أمام حقل دلالي يحفل بزخم شديد، وتأثير عميق على محاور الحياة كافة، ومن ثم حافظ المتخيل على حضوره قروناً طويلة، وتمكن من التماهي مع المعتقدات الدينية بشتى أشكالها، لما له من قدرة إيحائية متجددة، حيث يتابع العقل الجمعي الشعبي إنتاج تصورات جديدة تمنحه طاقة إيحائية رمزية على الدوام، فتتبدى الأسطورة بحكم كونها ظاهرة جمعية من نتاج المخيال المشترك للجماعة.

ألقى هذا التقاطع بين المكون الميثولوجي والمخيال الجمعي بظلاله على سائر نواحي الحياة، حيث شكل هذا الامتزاج ظاهرة اجتماعية تمكنت من الاستمرار، مع القدرة على تخليق أنماط جديدة بشكل دائم، لتصبح الأسطورة في قالبها الديني أكثر حضوراً وتأثيراً على الفرد والجماعة.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة 2/2

ويعد المتخيل من الناحية المفاهيمية حقلاً معرفياً ثرياً في مجال الأنثروبولوجيا الرمزية، لما يحمله من دلالات وتمثلات مجردة، أخذت مكانها في الواقع، لتحفظ تلك العلاقة بين الإنسان وماضيه، وفقاً لحاجات الوعي في مواجهة تحديات الحاضر، وانسحاق الذات تحت وطأة التطلعات المستحيلة. تجاوز المتخيل حضوره في الحقل الديني، إلى الاجتماع الإنساني والمجال السياسي، ورسم العقل الجمعي مشاهد وتمثلات مثالية حول حكم الخلفاء الذين ملأوا الأرض عدلاً وسلاماً ورخاءً، وبات انتظار المخلص القادم من بين غياهب الزمان، متحدياً إكراهات الواقع حلماً يراود مخيلة الشعوب المقهورة، وأملاً يعبر عن إحباطات الراهن وانكساراته.

بات العقل الجمعي في حالة توتر والمؤسسات الدينية التقليدية لا تقدم جواباً حقيقياً لإشكالات التراث الفقهي

في وجود نظم سياسية مستبدة، ومع انتشار مختلف عوامل الفساد والتغييب والقهر الممنهج، شق المتخيل طريقه، ليصبح انتظار الخلاص قانوناً وضعياً للعالم، حيث احتفظ العقل الجمعي بتخيلات مشهدية عميقة الدلالة عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ودرته التي كانت أهيب عند الناس من سيف الحجاج، وعن أولئك الذين قتلوا ظلماً: عثمان وعليّ والحسين، رضي الله عنهم، وتواترت حكايا الراشد العمري الذي ملأ الأرض عدلاً، بعدما مُلئت جوراً وظلماً، حتى بات الذئب في عهده يحرس قطيع الأغنام، وفي ذروة الانكسار أمام الغرب، كانت النفوس تُعزى بقصص هارون الرشيد الذي أذل ملوك الروم، والمعتصم الذي خرج بجيوشه لنصرة امرأة صرخت ذات يوم (وامعتصماه).

اقرأ أيضاً: هكذا استقرت صور الجنة والنار في العقل الجمعي المسلم

وعليه، كانت الرغبة في المحاكاة حيلة دفاعية لتحقيق نوع من التوافق النفسي، في مواجهة واقع شديد القسوة، وتواترت الروايات تبشر بقرب ظهور المخلّص، وعليه تشكلت فعالية رمزية ثورية باتت تنتظر لحظة الخلاص. ويمكن القول إنّ التاريخ شهد لحظات مشابهة، تداول فيها الناس روايات تبشر بالبطل القادم الذي أصبح الجميع في انتظاره، وقد تحققت شروط خروجه في بلاد المسلمين التي ملئت جوراً، وظهرت حركات "متمهدية" عديدة، لعلّ أبرزها حركة المهدي في السودان، والذي سيطر على الحكم، ودخل العاصمة الخرطوم فاتحاً، ويسقط الجنرال البريطاني تشارلز غوردون حاكم عام السودان قتيلاً تحت سنابك خيل الإمام، وسط تهليل وحماسة جماعة الأنصار، قبل أن يقوم بتحويل العاصمة من الخرطوم إلى أم درمان،  تمهيداً لغزو البلاد المجاورة وفتح الدنيا بأسرها، منطلقاً من تكليف إلهي أفصح عنه بلا مواربة في خطابه إلى محمد الطيب البصير في تشرين الثاني (نوفمبر) 1880، قال فيه: "لايخفى عزيز علمكم أنّ الأمر الذي نحن فيه لا بد من دخول جميع المؤمنين فيه، إلا من هو خال من الإيمان، وذلك مما ورد في حقائق غيبية وأوامر إلهية وأوامر نبوية أوجبت لنا مهمات صرنا مشغولين بها، وتواترت الأنوار والبشاير والأسرار والأوامر النبوية والهواتف الإلهية بإشارات وبشارات عظيمة".

كما عرف تاريخنا الحديث مخلصين آخرين، في ذروة صعود المد القومي، خلعت عليهم الشعوب أوصاف البطولة، وألقاب الكبرياء، وصنعت حولهم هالات القداسة وسمات التفرد والاستثناء، وتواترت ألقاب براقة مثل: القائد المفدى، والزعيم الأوحد، مهيب الركن، وغيرها، وما إن أخذت تلك الزعامات الزائفة في الأفول، حتى أدركت الشعوب أنها ضيعت وقتها خلف سراب زائف في أزمنة باتت لا تنبئ بالخلاص.

ما إن هبت عاصفة الربيع العربي حتى أخرج  العقل الجمعي تخيلاته المشهدية وأخذت جماعات الإسلام السياسي تستدعي تلك الصور

جاء صعود المد الديني، وبداية حركات الجهاد الإسلامي في أفغانستان، إشارة لعودة المتخيل الديني حول الخلاص إلى المشهد من جديد، في ظل تقدم الحركات الإسلامية المدعومة من الغرب، آنذاك، في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وتناثرت هنا وهناك أساطير البطولات، من جبال تبتلع جنود الشرك، وملائكته تثبت المؤمنين، وتقاتل معهم، وعشرات المؤمنين الذين يواجهون آلافاً مؤلفة من السوفييت، ويحققون الانتصار، وأصبح شعار الإسلام هو الحل رمزاً للخلاص المنتظر، لشعوب أنهكها الفقر والقهر والفساد، وبات المخلص ثورة تتأجج في النفوس، تقودها جماعة تطيح بأنظمة فاسدة مستبدة، وتطبق منهاج الله وسنة نبيه، فتملأ الأرض عدلاً، وتقف في مواجهة كل مظاهر التركيع والتبعية والاستغلال.

اقرأ أيضاً: الحركات الجهادية في شرق أفريقيا.. شريعة مقديشيو الدمويّة

ما إن هبت عاصفة الربيع العربي، حتى أخرج العقل الجمعي كل ما اختزنه من تخيلاته المشهدية، وأخذت جماعات الإسلام السياسي تستدعي تلك الصور، وتبشر بتحقق شروط لحظة الخلاص، كان فعل الثورة هو المهدي المنتظر بعد سنوات القحط، وعصور الانحطاط، فانتفضت الشعوب مؤيدة ومدافعة عن حقها في الحياة. هذا الارتباط الشرطي بين فعل الثورة، وما أنتجه المتخيل من أحلام يوتوبية تحقهها الدولة الإسلامية، استخدمته حركات الإسلام السياسي ووظفته جيداً في حشد الأنصار نحو صناديق الاقتراع، وهو ما يفسر مصطلح (غزوة الصناديق) الذي راج بين أوساط الإسلاميين إبان ثورة يناير في مصر، وتصدر الإسلاميون قوائم الناجحين، وبدا تحقيق الأحلام المؤجلة للجماهير المنهكة نقطة رهان رئيسية، وانتظر الحالمون وطال الانتظار، ليظهر للجميع أنّ الحكام الجدد لا يختلفون عن الآخرين، فمركزية الدولة كمفهوم، والشريعة ومثالية عصور الخلفاء الراشدين وعسسهم بالليل لتفقد أحوال الرعية ضدان لا يجتمعان، وسرعان ما تكالب الفرقاء ونشبت المعارك، وانفجر ربيع الأمنيات المستحيلة في وجوه الحالمين، وبات الدم نهراً يفيض بلا توقف. واستيقظ الجميع على ظاهرة داعش، لتُعلن دولة الخلافة من رحم تاريخ مسكوت عن دمويته، وتراث يفيض بالتحريض على العنف.

عرف تاريخنا الحديث مخلصين آخرين، في ذروة صعود المد القومي، خلعت عليهم الشعوب أوصاف البطولة وألقاب الكبرياء

بات العقل الجمعي في حالة توتر سرعان ما تحول إلى اضطراب، فالصور المستنسخة من الماضي تفزعه، والمؤسسات الدينية التقليدية لا تقدم جواباً حقيقياً لإشكالات التراث الفقهي الذي استدعت داعش دمويته التي تغاضى عنها المتخيل لأجل صور أخرى مثالية تشبث بها، وحاول استدعاءها، لكن داعش فاجأته بكل ما هو كاره للحياة التي حاول جاهداً أن يحياها ويستنسخ نموذجاً لها، هذا الاصطدام بين المتخيل والواقع، أدى إلى هروب البعض من المنظومة الدينية ككل، ورفض آخرون الانسياق خلف نموذج داعش، في حين أيد المنسحقون واليائسون محاولة الاستنساخ الدامية، معللين ذلك بضرورات لحظة التأسيس.

كان الربيع العربي مسيحاً مخلصاً طال انتظاره، لكن نهايات الشرق الحزينة فرضت كلمتها كالعادة، وسرعان ما شاهدت الجماهير مسيحها مصلوباً في دروبها، وبينما ألقى الهاربون من الجحيم أنفسهم بين أمواج البحر العاتية، علها تكون أكثر رحمة، وتحملهم نحو مستقبل آخر، تقاتل الفرقاء حول الجسد المعلق فوق صليب ربيع العرب الحزين.

اقرأ أيضاً: في أحوال الإسلام السياسيّ

وعليه، بات المتخيل غريباً عن الحاضر، ومحض بقايا من أساطير بائدة، فهل يدرك العقل الجمعي أنّ الخلاص يعني ثورة داخلية تقتلع كل عوامل التغييب، فالحرية عملية تراكمية طويلة وشاقة، تبدأ بتحرير النفس والمتخيل ذاته من أسر الدوائر والتمثلات الضيقة، ومن ثم الانطلاق نحو فضاءات الإنسانية الرحبة، ومسارات العقل المبدع في شتى أنماطه.

الصفحة الرئيسية