"ممالك النار"... الصراع أبعد من مسلسل

"ممالك النار"... الصراع أبعد من مسلسل


18/12/2019

نيرڤانا محمود

"ابنتك تسأل أسئلة من خارج المنهاج، وتضيع وقت الحصة".

غضب مدرسي غضبا عارما، واشتكى لأمي، لأني سألته لماذا نكرم القاتل والمقتول؟ سؤالي هو سبب وجود شارع في القاهرة باسم سليم الأول وميدان باسم طومان باي. وبالطبع لم تكن لديه إجابة.

المدرس كان مثالا لظاهرة تسطيح التاريخ التي ابتليت بها مصر والعالم العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما دخلنا مرحله الغيبوبة الفكرية. إذ انحصر تدريس التاريخ، في مصر والعالم العربي، في منهج ضيق سطحي يقدم أحداث تاريخنا العربي وكأنها قضاء وقدرا.

تعمدت كتب التاريخ في بلادنا ألا تنتقد إلا المحتل الغربي؛ الإنكليز، الفرنسيين، الصليبيين، الرومان. أما العرب والمسلمين، فقد قدمتهم على أنهم فاتحين، منقذين، أصحاب نية حسنة، بلا جرائم ولا حتى أخطاء

تعمدنا طوال هذه السنوات ألا نواجه الأسئلة البديهية عن تاريخنا الإسلامي.

فتح أم غزو؟ سليم الأول أم طومان باي؟ الأمة الواحدة الضعيفة، أم الدول المتعددة الحديثة؟ تجنبت كتب التاريخ، والنخب الدينية والثقافية النقاش، بناء على قول مصري بسيط "بلاش وجع دماغ".

مع انتشار الإسلاموية السياسية والاجتماعية، أصبح همّ معظم المثقفين والمفكرين تجنب أي مواجهة مع رجال الدين، وخصوصا عن الفتوحات والغزوات، فلا أحد يريد أن يواجه مصير فرج فودة، أو يوصف بالزندقة.

أعدت سؤالي مرارا وتكرارا في مراحل مختلفة من حياتي وواجهت نفس الرفض ونفس الغضب والتهكم من رجال الدين والفكر.

أحد رجال الدين، وقد غضب من سؤالي، نصحني أن أتحجب قبل أن أتفلسف.

أما رجال الفكر، فقد قال لي أحدهم: "أنت بتوجعي دماغك في أسئلة لا تجدي. فتح؟ غزو؟ سليم الأول ظالم، أو طومان باي مظلوم، حديثنا عنهم لن يغير شيء".

ولكن، في مقابل سياسة التسطيح الرسمية تجاه التاريخ وأحداثه، ظهرت سياسة موازية من أتباع حركات الإسلام السياسي تأدلج التاريخ.

تركيا والعالم العربي وأدلجة التاريخ
ترفض هذه الحركات التعددية الإسلامية والهويات الوطنية الحديثة وتدعو إلى هوية أيديولوجية واحدة عابرة للأوطان.

من هذا المنطلق، أصبح توظيف التاريخ سلاحا أساسيا لهذه الجماعات. يمجد الإسلامويون الحاكم المنتصر، كسليم الأول حتى لو ارتكب المعاصي، ويحتقرون المهزوم، كطومان باي، بل ويظهرونه على أنه المفسد الخاطئ.

وصل وله الإسلامويون بحكام بن عثمان إلى حد تصوير بعضهم للحكم العثماني بصورة المنقذ الذي منع "النصرانية والتشيع والكفر" من الانتشار بين العرب. وكأن المماليك لم يكونوا مسلمين، مدافعين عن الدين، هزموا التتار والصليبيين والبرتغال قبل غزو سليم الأول لمصر.

ثم جاء نظام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومعه الدراما التركية لتدشن صفحة جديدة أكثر قوة وانتشارا لهذا الفكر المؤدلج في عقول الشباب العربي من المحيط إلى الخليج.

ولهذا فمن غير المستغرب أن نرى ردات الأفعال العنيفة الغاضبة من أتباع بني عثمان العرب لمسلسل ممالك النار.

نجح العمل في طرح الأسئلة الصعبة التي تعمد علماؤنا ومثقفونا التهرب منها على مدى عقود. جاء المسلسل ليكشف فشلنا المزمن في بناء عقول ناضجة تتعلم من الماضي لتواجه تحديات الحاضر والمستقبل. أجيال من شبابنا لم تجد من يشكل وجدانهم وهويتهم وانتمائهم إلا من جماعات تتاجر بالدين وتتغنى بسلطان الأتراك وتحلم بخلافة لم تكن أبدا نموذج جيدا للإسلام كدين أو كدولة.

السؤال الآن، ماذا بعد ممالك النار؟ هل يستطيع العرب مواجهة أدلجة الإسلاميين لتاريخهم وشبابهم؟

البعض يقول لا؛ ويعتقد أن أدلجة الشعوب العربية وصلت إلى درجة يصعب عكسها.

لكني أختلف مع هذه النظرة المتشائمة. نحن نستطيع فعل الكثير، وكفانا عقودا من الخنوع والاستسلام لتجار الدين.

في استطلاع للرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، تساءلت قناة الحر مشاهديها بعد عرض مسلسل "ممالك النار": هل تعتبر دخول العثمانيين إلى المنطقة العربية قبل خمسة قرون فتحا إسلاميا أم غزوا عثمانيا؟ 85 في المئة؜ من المشاركين أجابوا بأنه غزو عثماني.

النتيجة، وإن كانت تعكس أراء المشاركين فقط وهي عينة غير علمية، تعطي أملا بأن الفن الناجح يمكن أن يغير نظره المجتمع تجاه إرثه وتاريخه. الفن سلاح مهم في مواجهه حركات الإسلام السياسي ولكنه يحتاج إلى ضوابط عديدة أهمها مراعاة الحقائق التاريخية، كما حدث في مسلسل ممالك النار، لكي ينجح في مخاطبة أجيال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

نحن في أمس الحاجة إلى أعمال جديدة تعالج محطات أخرى في تاريخ الخلافة، كالثورات العربية، الحرب العالمية الأولى وسفر برلك، وغيرها من الأحداث التي لا يعرفها شبابنا الذي تعود على التعرف على التاريخ العثماني من المسلسلات التركية.

الفن وحده لا يكفي. التعليم المدرسي والديني أهم وأقوى. فلا يمكن أن ينجح الفن حين يهاجمه من رجال الدين. فقد بثت إذاعة القران الكريم المصرية محاضرة بعنوان "إنهم يشوهون تاريخ الفاتحين الأوائل"، والذي تمت فيه مهاجمه مسلسل ممالك النار.

بالله عليكم، إذا كان هذا حال رجال الدين الأزهريين، فماذا تركنا لأغوات السلطان؟

يجب أن يعي رجال الدين أن نقد التاريخ لا ينقص من الدين شيء، بل على العكس يثبته في قلوب الشباب بوعي أكبر ويفصل بين ما دعا إليه الخالق وبين أخطاء البشر.

الصراع مع نظام العثمانيين الجدد في تركيا أكبر بكثير من النزاع على غاز البحر المتوسط، والاتفاق مع حكومة السراج في ليبيا، والحلف التركي القطري. الصراع مع العثمانيين الجدد هو صراع على الهوية وتشكيل الوعي العربي.

هو صراع بين نموذج يستخدم التاريخ لتعبئة المناصرين ويبيع وهم الخلافة للشباب العربي، وآخر يصارع الأدلجة والتضليل.

لم أعد بحاجة إلى إجابه عن سؤال طفولتي، فقد قررت محافظة القاهرة تغيير اسم شارع سليم الأول منذ العام الماضي، ولكن تغيير ميراث سليم الأول أصعب بكثير من تغيير أسماء الشوارع والميادين.

نحتاج إلى عقول جديدة لا تخاف من مواجهه تجار الدين، ومناهج تعليميه مختلفة، لا تغير فقط كلمة فتح إلى غزو، بل وتفسر التاريخ بحيادية وموضوعية. نحتاج إلى إعلام جديد يواجه منصات الإسلامويين بفكر تنويري جديد. وقبل كل هذا، نحتاج أزهرا جديدا لا يتشبث بتراث متجمد ملتبس. نحتاج إلى مشروع حضاري متكامل يبني وطنا لا يقتل فيه فرج فوده وولا يهاجم فيه المبدعين ولا يعتبر طومان باي عجمي غير مصري، فهل من مجيب؟

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية