محمد جابر الأنصاري.. إعادة اكتشاف الذات العربية

محمد جابر الأنصاري.. إعادة اكتشاف الذات العربية


28/12/2017

يُعدّ المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري من أهمّ الدارسين لفكر ابن خلدون والدّاعين لإعادة قراءة الذات العربية، وفي هذا السياق عمل على توظيف آراء صاحب "المقدمة" في دراسة الواقع العربي والإسلامي وتحليله، داعياً إلى البناء على ثورته الفكرية "عندما تجاوز ابن خلدون في مقاربته للتاريخ الفهم الرومانسي العجائبي الذي مازال يطبع العقلية العربية، فإنّه قارب السُّنن والقوانين الثابتة والفاعلة في حركة العالم بين ماضٍ وحاضر"، متجاوزاً بذلك مجرد النظرة التمجيدية للتراث التي دأب عليها غيره، كما يظهر في كتابه "لقاء التاريخ بالعصر: دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العصر".

وعلى الرغم ممّا قدمته الحضارة الإسلامية من إنجازات على الصعيد الإنساني والعلمي إلا أنّه يرى أنّ سعيها في بناء نظام سياسي ناجز هو  الحلقة الأضعف في مسيرتها التاريخية، فبقيت الهوية العربية حبيسة لهذه الأزمة التي زادت تفاقماً مع الزمن، عازياً التخلف الحالي إلى ترسبات في الذهنية الجامدة في العقل الجمعي والنخبوي على السواء، والتي فشلنا في الخروج منها منذ قرون.

بدأ الأنصاري حياته التدريسية عام 1964 في مدرسة المنامة الثانوية التي تخرّج منها

وهو يعتبر أنّ إشكاليات الواقع العربي والإسلامي وأبرزها العقل والإيمان، الدين والدولة، النظرة إلى الغرب، القومية واللاقومية لن يتوقف مسلسلها المتجذر في تاريخنا ما لم تتم المبادرة إلى "تمدين الريف والبادية بدل ترييف وبدونة المدينة" وهو ما جر علينا، كما يرى، وتيرة العنف الفكري والفعلي المتصاعد في أيامنا هذه، "المدينة المحكومة تنتج الحضارة ولا تنتج السلطة، فيما البادية الحاكمة – أعجمية كانت أو عربية – تنتج السلطة ولا تنتج الحضارة".

ولد محمد جابر الأنصاري عام 1939 في مدينة المحرق البحرينية. بدأ دراسته في الكتاتيب كأبناء جيله، ثم درس في المدرسة النظامية قبل أن ينتقل إلى مدرسة الهداية الخليفية حتى عام 1954، أكمل دراسته الثانوية بمدرسة المنامة، الثانوية الوحيدة في البلاد آنذاك، ما وفّر له فرصة تعرف المشارب الفكرية والأيديولوجية المتنوعة لأعضاء بعثة المعلمين المصرية آنذاك التي كانت تضم إخوانًا مسلمين وليبراليين ووفديين، وفي هذه المرحلة شارك بالمظاهرات ضدّ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والمؤيدة للوحدة المصرية السورية عام 1958، وكان يتناوب الخطابة الصباحية مع زميله السعودي غازي القصيبي.

إشكاليات الواقع العربي والإسلامي وأبرزها العقل والإيمان لن تتوقف ما لم يتم تمدين الريف والبادية بدل ترييف وبدونة المدينة

تخرّج وترتيبه الأول في دراسته الثانوية عام 1958، ومن حسن حظه، كما يقول، أنّه لم يُبتعث للدراسة إلى بريطانيا كما هو مقرر للأوائل، حيث قصد الجامعة الأمريكية ببيروت التي كانت عامرة بالحياة الفكرية والسياسية والعلمية. واستمرّ فيها حتى حصوله على درجة الدكتوراة عام 1979.

في بيروت التي يعتبرها أهم محطات حياته الدراسية، تعرف على إحسان عباس وقسطنطين زريق ويوسف إيش وحمد يوسف نجم ونديم نعيمة أعضاء لجنة مناقشته للدكتوراة، إضافة إلى أستاذه وصديقه الشاعر خليل حاوي وكمال اليازجي، واستكمل دراسته بدورات أكاديمية في كامبردج والسوربون حتى بلغ درجة الأستاذية، وخلال هذه المدة شارك في تأسيس مجلس معهد العالم العربي بباريس 1981- 1982.

بدأ الأنصاري حياته التدريسية عام 1964 في مدرسة المنامة الثانوية التي تخرّج منها، وفي عام 1966 عمل أستاذاً للغة العربية والأدب العربي في المعهد العالي للمعلمين الذي تأسس في ذلك العام، وفي العام 1969 كان أول رئيس لـ "أسرة الأدباء والكتاب في البحرين" الذي أسّسه بهدف تشجيع العمل الثقافي بمعناه الواسع بعيداً عن أيّ أبعاد سياسية أو أيديولوجية. وفي العام ذاته عُيّن في مجلس الدولة الذي كان بمثابة مجلس الوزراء رئيساً للإعلام لعام واحد.

وبين أعوام 1975و1980 تولى مسؤولية رفد مجلة "الدوحة" بدراسات الخليج والجزيرة العربية في الأدب والثقافة، وفي عام 1975بدأ بكتابة أطروحته للدكتوراة "الاتجاهات التوفيقية في الفكر العربي الحديث بالمشرق" التي ظهرت كتاباً حمل اسم "الفكر العربي وصراع الأضداد"، وفي عام 1983 بعد عودته من أوروبا باشر عمله في جامعة الخليج العربي أستاذاً مساعداً ثم أستاذاً  لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وفي عام 1988 تولّى عمادة كلية التربية، ثم عميداً لكلية الدراسات العليا في عام 1994.

على الرغم من انشغالات الأنصاري الأكاديمية، لم تنقطع مساهماته الصحفية في مختلف الإصدارات العربية، التي بدأها منذ كان على مقاعد الدراسة الثانوية في جريدتي القافلة والميزان تحت اسم مستعار هو "نصار" الذي كان يدعوه به أحد أساتذته المصريين، وفي عام 1966 كتب في "الأضواء" الجريدة الوحيدة في البحرين في ذلك الوقت.

حاز على العديد من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية في البحرين، وجائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والمستقبلية وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر، وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن كتابه تحولات الفكر عام 1981، وجائزة الدولة التقديرية للإنتاج الفكري في البحرين عام 1989، ووسام قادة مجلس التعاون في قمة مسقط عام 1989. وفي العام ذاته اختاره ملك البحرين حمد بن عيسى عندما كان ولياً للعهد مستشاراً ثقافياً وعلمياً في ديوان ولي العهد ومايزال حتى اليوم مستشاراً للملك، وفي عام 1999 نال عضوية أكاديمية المملكة المغربية.

أصدر الأنصاري إضافة إلى مئات المقالات الصحفية أكثر من عشرين مؤلفاً في الفكر والأدب والثقافة والسوسيولوجيا السياسية من أبرزها: العالم والعرب سنة 2000، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة، الفكر العربي وصراع الأضداد، الحساسية المغربية والثقافة المشرقية، التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق، تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية، التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام، العرب والسياسة: أين الخلل؟، رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر، انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية.

المدينة المحكومة تُنتج الحضارة ولا تنتج السلطة فيما البادية الحاكمة تُنتج السلطة ولا تنتج الحضارة

وتتبدى من خلال هذه المؤلفات وغيرها، الملامح الأساسية لمشروع الأنصاري الفكري ومقولاته النقدية، وسعى فيه إلى "نقد الفكر العربي" و"نقد الواقع العربي"؛ ولعل أهم ما سعى الأنصاري إلى الإجابة عليه: لماذا يتكرر رسوب العرب في اختبارات السياسة؟ وفي سعيه إلى الإجابة يؤكد أنّه حان الوقت لتحويل مأساتنا السياسية الذاتية عبر التاريخ إلى "موضوع" في مختبرات علم السياسة والاجتماع والتاريخ والاقتصاد لنتمكن من "موضعة" المأساة وبالتالي الإمساك بها وتشريحها.. والاتفاق على العلاج الناجع لها.

واستهجن إصرارنا بين كل كارثة سياسية وأخرى على وضع الأقنعة وتمثيل أدوار الملائكة والتغني بمدننا الفاضلة والجمهوريات الأفلاطونية والانتقال من أيديولوجيا إلى أخرى ومن وعد إلى آخر دون أن نهبط إلى سطح الأرض التي سنقيم عليها هذه الوعود ونرى تضاريسها وحقيقة تكوينها وقابليتها لحمل ناطحات السحاب الأيديولوجية والمثالية واليوتوبية التي نحلم بها. ودعا إلى دراسة الإشكال السياسي العربي ليس في توجهاته المؤدلجة نحو القومية أو الديمقراطية أو الأصولية وإنّما في واقعه الخام، في حقائقه ووقائعه الموضوعية والمجتمعية.. قبل أن تتلبسه هذه الأيديولوجيا أو تلك.

وهو يشخّص القصور السياسي العربي المعاصر في ناحيتين: الأولى عدم توفر القدرة القيادية العامة على توليد النظم والمؤسسات اللازمة ورسم التوجهات السياسية على المدى الطويل وتثبيت الاستقرار والاستمرار لكيان الدولة ضمن صيغة مرنة وفاعلة في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين مختلف أطراف المجتمع السياسي، ومن ناحية ثانية فإنّ الكوادر والفئات الوطنية عندما تسلمت زمام الأمور لم تثبت في إدارتها العملية أنّها كانت أفضل من الإدارات الأجنبية بل على النقيض من ذلك في معظم البلاد العربية.

اتسم الأنصاري بجرأة الطرح ما جعله يختلف في كتابه "مساءلة الهزيمة" مع ما ذهب إليه الجابري في مشروعه "نقد العقل العربي"، كما وقف موقفًا حازماً ضد طروحات أدونيس الذي يعده شاعراً كبيراً إلا أنّه يراه يقدم لقرائه انطباعاته الذاتية، وأنّ أخطر ما فيها قوله إنّ كل ما هو "ثوري" و"رفضي" تقدمي، وكل ما سوى ذلك "رجعي ومتخلف" معتبراً ذلك "تزييفاً وتزويراً" لحركة التاريخ…

ونادى بوحدة عربية تقوم على الاختيار الحر وليس بالضم والإلحاق، وعلى أساس ديموقراطي؛ لأنّه لا قيام للعروبة إلا بقبول التعايش والتسامح داخل تنوعاتها القبلية والمناطقية والمذهبية والتعدديات الإثنية الأخرى، فهي بنظره مظاهر مشروعة يتعذر تجاوزها، لكن يمكن تطويرها ودمجها على المدى البعيد.

دعا الأنصاري لدراسة الإشكال السياسي العربي ليس في توجهاته المؤدلجة وإنّما في واقعه الخام

على هذا الأساس رأى الأنصاري أنّ الدولة القُطرية العربية، كما يتبدى في كتابه " تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية"، خلافاً لأي منظور قومي عاطفي، هي التي وحّدت مجتمعياً واقتصادياً وتربوياً ونفسياً، بلداناً متعددة المناطق كاليمن والسعودية وليبيا وسورية والإمارات العربية.

ولطالما نبه إلى ما يعانيه العرب من التباس خطير في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة، مدللاً على ذلك بأنّ الحركات السياسية التي ظهرت في القرن العشرين اتصفت بالرومانسية التي تنساق في الحلم وتتمادى في العاطفة دون اعتبار للممكن وللواقع..

وفي كتابه "الفكر العربي وصراع الأضداد" يطرح مشروعه الرؤيوي الذي يقوم على مفهوم "التوفيقية" التي ميزت الحضارة الإسلامية بتوفيقها بين الدين والتراث العقلي للحضارات الأخرى، ويحمل الأنصاري بشدة على ما وقعت السلفية العربية فيه من إيهام تاريخي عندما فاتها التمييز بين النهضة الإنسانية الحضارية الجديدة للغرب وفكره الاستعماري، وأنّ التحدي الجديد للعرب والمسلمين في جوهره حضاري لا عسكري أو ديني أو سياسي.

النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية إلى فهم الذات الجماعية للأمة وإعادة اكتشافها ونقدها

ويشخّص الأنصاري القصور السياسي العربي المعاصر في ناحيتين: الأولى عدم توفر القدرة القيادية العامة على توليد النظم والمؤسسات اللازمة ورسم التوجهات السياسية على المدى الطويل وتثبيت الاستقرار والاستمرار لكيان الدولة ضمن صيغة مرنة وفاعلة في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين مختلف أطراف المجتمع السياسي، ومن ناحية ثانية فإنّ الكوادر والفئات الوطنية عندما تسلمت زمام الأمور لم تثبت في إدارتها العملية أنّها كانت أفضل من الإدارات الأجنبية الاستعمارية، بل على النقيض من ذلك في معظم البلاد العربية.

وينتقد أنّ وعينا المجتمعي والمدني العام لم يترسّخ فيه بوضوح أنّ العمل السياسي في معظمه لا يتلخص في المعارك والمظاهرات وحركات الاحتجاج الصاخبة "فهذه حالات استثنائية لا تحتاجها المجتمعات إلا في أوقات التأزم وتضخم المشكلات، أما محكّ العمل السياسي المثمر فيتمثل في الاقتدار على تسيير الإدارة اليومية للحياة العامة مما يعتبره أكثر "المناضلين" عندنا أموراً صغيرة وتافهة.. فما جدوى أن تكون مستعدة للموت في ميدان المعارك بالآلاف، ثم لا تكون مستعدة للعمل المنتج في ميدان الحياة؟.."، ليخلُص إلى أنّ النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية موجهة - قبل كل شيء - إلى فهم الذات الجماعية للأمة وإعادة اكتشافها ونقدها.

"إنّ النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية موجهة - قبل كل شيء - إلى فهم الذات (الذات الجماعية للأمة) وإعادة اكتشافها ونقدها؛ وإنّ العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبّط المزمن في المأزق العربي الراهن، حيث يعاني العرب التباساً خطيراً في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية