لماذا يُروّج الأصوليون لنظرية قصور العقل البشري في التشريع؟

لماذا يُروّج الأصوليون لنظرية قصور العقل البشري في التشريع؟


30/12/2019

حين تواجه المجتمعات البشرية أيّة مستجدات تاريخية معاصرة، تلجأ إلى حلول مستقبلية؛ أما العودة إلى الماضي بغرض إيجاد حلّ لمشاكل راهنة، فهذا قد يزيد الأمور تعقيداً.

اقرأ أيضاً: كتاب ينقد الأصولية فكرياً من خلال واقعها .. كيف؟
يعتمد دعاة الماضوية بحثاً عن تشريعات تناسب الحاضر إلى إضفاء طابع مثالي على الماضي، مما قد يضفي صورة رومانسية وتبريرية على الصراعات الدامية والتناحرات على السلطة السياسية والدينية. 
الحنين إلى الماضي والرغبة في استحضاره، صفة بلا أيديولوجيا محددة، فنجدها في الليبراليين الذين يشتاقون لزمن الملكية في البلاد العربية ويصورونها مدينة فاضلة، ونجدها في الاشتراكيين الذين يشتاقون لزمن تأسيس الجمهوريات ويصورونها كنموذج للعدالة المثالية، كما نجدها في أصحاب مشروع الخلافة الإسلامية سواء الكاملة أو الجزئية.

يعتمد دعاة الماضوية بحثاً عن تشريعات تناسب الحاضر إلى إضفاء طابع مثالي على الماضي

العودة إلى الماضي والرغبة في إسقاطه على الحاضر ترتبط بحالة الاشتياق لزمن لم تره الأجيال التي تشتاق إليه إلا من خلال قراءات وتصورات ذهنية قد تصيب أو تُخطئ.
كما أنّ قراءة التاريخ المتأنية لا تتم من خلال ما ورد على لسان النخبة المسيطرة على تدوين التاريخ حينها؛ بل من خلال قراءة وفهم روايات المغلوبين على أمرهم في هذه الأزمنة.
ربما لا تكون الأزمة نفسها في الماضي؛ فالماضي ابن زمانه وظروفه، بل تكمن الأزمة في استحضار الماضي والتمسك به على اعتبار أنّ تكراره صالح بكافة تفاصيله للزمان المعاصر. 
هل تتجلى النظرة الماضوية في التشريعات المعاصرة؟ 
التطور سنّة الحياة؛ لهذا فإنّ إعادة صياغة القوانين الـُمنظمة للمجتمعات المعاصرة في حاجة مستمرة إلى التعديل، وفق معايير الحياة على الأرض المتغيرة، لا السماء الثابتة في التصورات الذهنية للمؤمنين على اختلاف عقائدهم الدينية. 
لهذا لجأت عديد من بلدان العالم إلى فصل التشريعات المدنية عن النصوص الدينية، كون تلك النصوص قد شرعت في زمان ومكان لا علاقة لهما بظروف العالم المعاصر؛ ولتناسب أحوال مجموعة محدودة من البشر في مكان جغرافي بعينه، لكنّها في ذات الوقت اكتسبت قداسة بفعل الزمن والوحي.

اقرأ أيضاً: التجربة الإخوانية في الميزان: كيف تبني الأصولية وعياً زائفاً؟
تهدف تلك التشريعات المدنية، لا إلى الهجوم على المقدسات الدينية، لكن إلى التطور بعيداً عن حدود التأويلات الدينية التي قد تكبّل، في بعض الظروف، هذا التطور البشري.
اللجوء مثلاً لفتاوى دينية بشأن استخدام الهندسة الوراثية، أو مواكبة التطور العلمي، يعرقل مسيرة التقدم الذي لم يعد ينتظر المباركة السماوية بحسب تصورات بعض البشر.

اقرأ أيضاً: كيف أصبحت الأصولية ملاذَ المغتربين في المدينة؟
بعد أن تنامت البشرية، لم تعد احتياجات مئات أو آلاف البشر مثل احتياجات شعوب بالملايين تعيش في واقع مختلف؛ حيث إنّ واقع البشر نسبي وليس مطلقاً، لهذا يعاد النظر في القوانين المنظمة لأحوال البشر بين الحين والآخر، تحت مسمى "التعديلات الدستورية أو القانونية"، وطالما وجدت التعديلات التشريعية، انتفت الحاجة إلى نصّ يناسب كلّ زمانٍ ومكان؛ لأنّ كلمة "التعديل" تتنافى مع فلسفة "الثابت" الذي يلائم كلّ زمان ومكان.
لذلك تمّ وضع العقلانية المعاصرة في التشريع في حالة تضاد مع الروحانيات، لكنّ العقلانية لا تتنافى مع الروحانيات والروحانيات لا تتنافى مع العقلانية، طالما يتمّ وضع كلّ منهما في إطاره، مع القدرة على التمييز بين التشريع العام والعقيدة الدينية الخاصة.
أزمة المدنية الحديثة وتجديد الخطاب الديني
لكنَّ دعوات الفصل بين التشريعات المدنية والنصوص الدينية، كحلّ لإشكاليات الواقع، واجهت تحديات عدة، لهذا شاع بين الأئمة المدافعين عن أزلية النصّ الديني شعار "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان"، وهي عبارة تمّ رصدها مجازاً في أدبيات حسن البنا (1906-1949)، مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فـنسبت إليه كونه كان يرى أنّ الإسلام عقيدة ووطن وجيش كما ورد في رسالة التعليم التي سطّرها العام 1937. 
كما أكّد الشيخ يوسف القرضاوي على المقولة، من خلال كتابه "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" (1972)، وكان كتاباً بأسانيد ضعيفة، إن أخضعناه لمنهجية البحث الأكاديمي، فهو يستنبط الأحكام من الشريعة وحدها، فأصبحت الشريعة هي المصدر والـحكم في الوقت ذاته، وهي إشكالية واجهها التاريخ الإسلامي على مرّ زمانه.

العودة إلى الماضي والرغبة بإسقاطه على الحاضر ترتبط بحالة الاشتياق لزمن لم تره الأجيال المطالبة بذلك

رغم أنّ عبارة "الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان" نسبت للبنا في إطار حديثه عن شمولية الشريعة؛ أي احتواء الشريعة على كلّ التشريعات اللازمة للإنسان وتنظيم حياته في كلّ الأزمنة والأماكن والظروف، إلا أنّ أول من صكّها كان الشيخ عبد العزيز جاويش (1876- 1929) من خلال كتابه "الإسلام دين الفطرة والحرية" العام 1905.
صاغ الشيخ عبد العزيز جاويش هذه العبارة تحت مظلة الحديث عن مرونة الإسلام في التأقلم مع مستجدات الحياة، إلا أنّه عاد ليؤكد أنّ الدين لا يختلف في أصوله، وإنّما في أحكامه الفرعية، وهنا تتنافى "المرونة" مع "الثبات"؛ لهذا خرج جاويش من هذه الإشكالية بالحديث عن المرونة في الأحكام الفرعية فقط.
هكذا أصبح الهدف هو الانتصار للنصّ الجامد، وليس للإنسان الذي شرع من أجله النصّ في زمان ومكان مختلفين؛ فإنسان الحاضر ليس إنسان الماضي، وإنسان شبه الجزيرة العربية ليس ذاته الإنسان الذي يعيش في منطقة جغرافية أخرى، ونساء القبائل التي شهدت الوحي لسن مثل النساء العاملات اليوم.  

اقرأ أيضاً: تجديد الخطاب الديني بين الوهم والواقع.. هل سيكون الجيل الجديد أقل أصولية؟
هذا الأمر أوقع المدنيّة العربية الحديثة في فخّ المصطلحات، ومن بينها مصطلح التجديد الديني، فتجديد الخطاب الديني، إن صحّ التعبير، هو شأن اجتهادي ضروري، لكنّه شأن اجتهادي لا بدّ من فصله عن شأن المواطنة؛ فالاجتهاد أمر ديني وليس وطنياً، والهدف من الاجتهاد هو تبنّي الحداثة ومقاومة الاندثار؛ لأنّ ما لا يتطور يندثر. 
لكنّ الاجتهاد الفقهي، الذي يفرض تصوراته من خلال تشريع قانوني، لا يعدّ اجتهاداً، بل هو شكل من أشكال الثيوقراطية المعاصرة، حتى إن كان ذلك الاجتهاد يميل للتحرر من فتاوى ماضوية أصولية بشكل نسبي.
ربما تختلف الصياغة الدستورية في عدد من البلاد العربية، لكنّها تدور في فلك متشابه، وهو فلك ما يسمى بالديمقراطية الإسلامية، والتي تأتي فيها قيم المساواة والحريات في إطار ما يشرعه فقهاء الإسلام بتأويلاته المختلفة فقط؛ لذا فهي ديمقراطية ترتكز إلى مفهوم "دار الإسلام" لا مفهوم المواطنة الكاملة.

اقرأ أيضاً: الشرعية الأصولية وإرباك المشهد السياسي في مصر
ودولة المواطنة ليست منوطة بإيمان المواطنين من عدمه بالنصوص الدينية، بل هي منوطة بتحقيق مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة بغضّ النظر عن النصّ الديني، أياً كان مصدره.
هل يعيب التشريعات البشرية حاجتها للتعديل؟
يرتكز دعاة التمسك بالتأويلات الفقهية إلى فلسفة مفادها أنّ "المشرع هو الله"، وينكر المدافعون عن هذه الفلسفة أيّ حقّ للإنسان في تقرير مصيره بعيداً عن الوحي.
دعاة فلسفة "المشرع هو الله" يستندون إلى قصور العقل البشري وضعفه في التشريع، ويقدمون حجتين كدليل يبرهن تلك النظرية.
الحجة الأولى: "القرآن والسنّة": مما يعود بنا إلى أزمة إثبات النصّ بالنصّ، واعتبار النص حجة مطلقة، لا تخضع لمنهجية خارج حدود النص القرآني، فيتمّ الاستناد إلى قوله تعالى: ﴿إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [سورة الإسراء: الآية 9]، و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغة﴾ [سورة البقرة: الآية 138]، كحجة على صلاحية التشريع الديني لكلّ زمان، لكنّ هاتَين الآيتين لا تثبتان العجز الإنساني في التشريع بالضرورة. 

اقرأ أيضاً: مصطلح الجاهلية المعاصرة في الخطاب الأصولي
الحجة الثانية: تعتمد على قصور العقل البشري على التشريع، بسبب عجز التشريعات البشرية عن الاستمرار إلى أبد الأبدين، واحتياجها للتعديل المستمر، ويستند دعاة هذه الحجة إلى قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [سورة النساء: آية 28].

احتياج التشريعات المدنية للتعديل ليس فشلاً بل مراعاة للتغيّر وبلوغ المجتمعات درجة من الوعي بضرورة التأقلم والتطور

ويمكن دحض هذه الـحجة ليس بمحاولة إثبات أنّ التشريعات البشرية تصلح لكلّ زمان ومكان، وإنما بفهم طبيعة التشريعات البشرية القائمة على تغيّر الزمان والمكان، بالتالي حاجة التشريعات إلى تعديلات مستمرة، وهذا أمر غير معيب؛ لأنّ التطور سمة إيجابية. 
احتياج التشريعات المدنية للتعديل ليس فشلاً في تشريع البشر، وإنما يعبّر عن تغيّر الظروف الحياتية وبلوغ المجتمعات درجة من الوعي بضرورة التأقلم والتطور مع مستجدات الحياة؛ لذلك فإنّ المقارنة بين التشريع المدني الخالص والتشريع المستند إلى نصّ ديني، هي مقارنة تمت على أساس غير صحيح؛ لأنّها مقارنة تتحدى البشر بالإتيان بنصّ صالح لكلّ زمان ومكان، ليضاهي النصّ القرآني أو الحديث النبوي الصحيح، إلا أنّ النص القرآني نفسه يكون مشروطاً ظرفياً وليس بالضرورة قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، والدليل على ذلك؛ تعطيل بعض النصوص الدينية لتعذر تطبيقها (مثل الحدود الواردة في القرآن بنصّ قطعي الدلالة)، ما ينفي صلاحية تطبيقها الأبدي، وكما هو الحال في تعطيل آية الجزية على غير المسلم، فلم يعد غير المسلم في حالة اختيار بين إشهار الإسلام أو دفع الجزية؛ حيث انتفت الظروف المزامنة لهذه التشريعات.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية