لماذا يهتم الإسلاميون بقضايا الهوية على حساب التنمية والديمقراطية؟

لماذا يهتم الإسلاميون بقضايا الهوية على حساب التنمية والديمقراطية؟

لماذا يهتم الإسلاميون بقضايا الهوية على حساب التنمية والديمقراطية؟


25/02/2024

ضجّة بسبب استخدام اسم "سلمى" بدلاً من "فاطمة" في منهاج اللغة العربية، وحملة شديدة بهدف منع إقامة حفل غنائي، ومطالبة بفرض قيود وضوابط على الأعمال الدرامية والأدبية، همّة حاضرة بقوة حين تكون الهوية هي عنوان الصراع، لكنّها غائبة ومنحسرة حين يكون الخلاف حول تعديل قانون أو فرض ضريبة أو مناقشة قانون موازنة؛ فلماذا تكون صراعات الهوية هي الأكثر جاذبية لدى قطاعات واسعة من الإسلاميين؟
التمسّك بالنموذج التاريخي
تفقد الدولة القُطريّة، دولة الاستقلال، أو دولة ما بعد الاستعمار، كثيراً من الشرعيّة في نظر غالبية الحركات الإسلاميّة، بالتالي؛ ينبني على ذلك انصرافهم عن الانشغال والتوجّه نحو المشاركة فيها من داخل القواعد التي تقتضيها وتتطلبها؛ فالتيار الغالب من الإسلاميين بقي واقفاً ومتمسكاً بشعار إعادة "دولة الخلافة"، وفق النموذج التاريخي التي كانت حاضرة فيه، وهو ما دفع بالخطاب الصادر عنهم لأن يتحول إلى مجموعة من الشعارات، تطالب بإقامة دولة إسلاميّة، أو دولة خلافة، ودولة الشريعة، دون الاتجاه نحو الانخراط في الدول الحاليّة والعمل داخلها، اعتقاداً أنّها دول وكيانات سياسية غير تامّة، ولا يمكن للرؤية الإسلامية ومتطلبات الدين أن تتماشى معها وتتحقق من خلالها.

يتوجه الخطاب الإسلاموي نحو القضايا المُثيرة الاستقطابيّة والتي تعدّ جدالات الهويّة أبرزها

ويعود جانب من إشكالات الفكر الإسلامي المعاصر مع الدولة إلى عدم التقبّل لرابطة المواطنة، وما تقتضيه من اعتراف بالتنوّع الديني واللاديني حتى، والبقاء ضمن إطار التمسّك برابطة الأخوّة الإسلاميّة، وهو ما يتقاطع مع عدم الاعتراف بحدود الدولة أساساً، واعتبار أنّ رابطة الاجتماع السياسي يجب أن تكون مؤسسة على رابطة الأخوّة في الدين، بالتالي؛ تكون المطالبة بأن يكون المسلمون في كيان سياسي واحد، يجمعهم ويمثلهم، ويكون الحاكم فيه بمثابة إمام للمسلمين في دينهم ودُنياههم.
وإن كان واقع الحال ومعطيات الواقع قد دفعت بنسبة من الإسلاميين، وبشكل متزايد خلال العقود الأخيرة، إلى القبول والاعتراف بدرجة ما بالدولة القُطريّة، ولكن هذا الاعتراف بقي غالباً في إطار القبول بالأمر الواقع، وليس اعترافاً وتقبلاً لبنية الدولة وأسسها وقواعد المشاركة فيها.

تمحور الخطاب الإسلاموي حول المطالبة بكيان سياسي جامع للمسلمين يكون الحاكم فيه بمثابة إمام لهم

صراع واستقطابات
بالتالي؛ فإن بَطُلَ أساس المشاركة بَطُلَ ما ينبني عليها من اتجاه نحو الانخراط في معالجة قضايا البناء الاقتصادي والسياسي، وهنا يكون الاتجاه نحو قضايا واستحقاقات أُخرى تكون عادةً في إطار الشعارات المُثيرة الاستقطابيّة، والتي تعدّ جدالات الهويّة أبرزها.

أمام مدّ واسع من المظاهر غير المعهودة يتصاعد الشعور بخطر تهديد الهويّة

وهو ما يمكن اعتباره حالة من الهروب للأمام، حيث الهروب من استحقاقات الواقع وتحديّاته المفروضة إلى صراعات تعزز أجواء المشاحنة والاستقطاب، التي يسهل فيها عادةً التجنيد والتحشيد في إطار الصراع مع معسكر متخيّل مناوئ، وعادةً ما يوضع الصراع تحت عنوان المواجهة والتصدي للعلمانيين والحداثيين، وهو ما يبرز باستمرار في الصراع المتعلق بقضايا مثل: الاختلاط بين الجنسين، ومسائل ارتداء الحجاب والنقاب، والسماح بإقامة الحفلات الغنائية والفعاليات الفنيّة، إلى الصراع على قضايا المناهج الدراسيّة، ومدى الجرعة الإسلاميّة فيها، بدلاً من التركيز على قيمتها العلميّة والتربويّة.

يعدّ الصراع على المناهج الدراسيّة الأبرز ضمن صراعات الهويّة

إحياء.. وصحوة
وعادةً ما يظهر المثقفون والكتّاب والفنانون والأدباء، الموصوفون بكونهم حداثيين وعلمانيين، باعتبارهم سفراء وطلائع للحداثة، والتي هي مقترنة دائماً في الخطابات الإسلامويّة بالمروق والكفر والضلال، وهنا تبرز المواجهة مع الحداثة وقرينتها العلمانيّة، كإحدى أبرز محرّكات التمسّك بقضايا ومظاهر الهويّة؛ فأمام مدّ واسع من المظاهر غير المعهودة، يتصاعد الشعور بخطر تهديد الهويّة المتراكمة والمتشكّلة عبر قرون متواصلة من العُزلة النسبية على مستوى الثقافة والحضارة، وهنا يكون الحلّ هو استعادة الماضي الذي كان سائداً قبل قدوم الحداثة، مع التركيز على أنّ هذه العودة ليست على مستوى التقنيات والأدوات، وإنّما على مستوى العادات والقيم والأخلاق والتقليد، وما يرتبط بها من مظاهر وسلوكيّات عادة ما توصف بأنّها "محافظة".

يربط الخطاب الإسلامويّ تحقق الانتصار بانتشار سلوكيّات ومظاهر التدين

وتتقاطع هذه العودة مع مسمى آخر، هو "الإحياء" باعتبارها عملية إحياء واستعادة من جديد لمظاهر كادت تندثر تحت وطأة الهجوم الحداثي، كما يبرز مسمى آخر وهو "الصحوة" والذي استخدم من قبل الإسلاميين منذ زمن مبكر في مطلع القرن العشرين، ثُمّ أعيد استخدامه في الثلث الأخير منه مع تزايد مظاهر التدين في المجتمعات المُسلمة، وهو مسمّى يرجع بالأصل إلى حركة إحياء ديني ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وقصد به بالأساس؛ التعبير عن حالة الاستفاقة بعد فترات العلمانيّة وضعف الالتزام التي اعتبرت بمثابة فترات "نوم" و"غفلة"، والتي عُني فيها بالخطاب الإسلامي فترات اقتحام مظاهر الحداثة والسلوكيّات والعادات المرتبطة بها.

ارتبطت الصحوة بانتشار مظاهر دينية مثل الحجاب

نزعة حربيّة
وبالحديث عن الحداثة ومظاهرها؛ تجدر الإشارة إلى أنّه عادةً ما يتم النظر لها باعتبارها من مظاهر الغزو الاستعماري المستمر، الذي تكون مهمة الحركات الإسلاميّة التصدي له ومواجهته، وهنا تبرز محاولات إحياء مظاهر التديّن والمظاهر الإسلاميّة، في إطار بناء حائط الصدّ أمام هذا الغزو.

اقرأ أيضاً: الإسلاميون واليسار.. حب من طرف واحد
وهنا تبرز مسألة أخرى مهمّة، مهيمنة في الخطاب الإسلامويّ، وهي الحديث عن ضرورة الانضباط الأخلاقي في إطار الاستعداد والتحضير لمواجهة العدو؛ حيث يجب أن تكون الذات في حالة تطهّر حتى تكون على أتمّ الاستعداد لهذه المواجهة، ولا يصلح أن تخوضها وهي ملوّثة بمظاهر اللهو والبُعد عن الدين، وهنا يتم ربط "الانتصار" بسلوكيّات ومظاهر مثل؛ الالتزام بصلاة الجماعة في الجوامع، أو التزام النساء بالحجاب.
هويّات متضادة
وبالحديث عن ارتباط حركة الصحوة والإحياء بمظاهر متعلقة باللباس وما يرتبط بذلك من انضباط جنسي، إضافة إلى تحريم مظاهر اللهو؛ من إقامة الاحتفالات والمهرجانات التي عادةً ما تتمّ المبادرة لوصفها بالخلاعة والفسق، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الخطاب ينبني على أساس استحداث حالة من الدمج ما بين الانضباط الأخلاقي والهويّة المتخيّلة المُراد إحياؤها والحفاظ عليها، في حين يكون المستعمر والغازي، هو المرتبط بمظاهر الفسق والانحلال، أما الذات والهويّة الأصيلة فمرتبطة بالانضباط والزهد والتقشّف؛ حيث تكون مناقضة لهويّة الغازي، في بناء واستئناف على مقولات مثل: "الشرق المؤمن" و"الغرب الملحد"، وحيث يكون المجتمع المسلم المتخيّل والمنشود بالضرورة مجتمعاً منضبطاً ومحتشماً، خلافاً للغرب المنحلّ، حتى يصل الحال إلى إقامة تضادّ بين المتعة واللذة، وما يرتبط بها من مظاهر وممارسات، وبين الدين ومظاهر التدين.

الحداثة مقترنة دائماً في الخطابات الإسلامويّة بالمروق والكفر والضلال

وهنا نستحضر ما طرحه سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق"، وحديثه عن حضارة الغرب باعتبارها "مادية بغيضة، لا قلب لها ولا ضمير، حضارة زائفة، لأنّها لم تقدم للإنسان زاداً روحياً"، أو حديث أبو الأعلى المودودي، في كتابه "الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية": "ما نحن بصدده الآن من الكفاح إنما هو إحداث الانقلاب في القيادة، وأعني بذلك أقصى ما نبتغي الوصول إليه والظفر به في هذه الدنيا، أن نطهر الأرض من أدناس قيادة الفسقة الفجرة وسيادتهم، ونقيم فيها نظام الإمامة الصالحة الراشدة"، وكذلك فعل كتّاب مثل محمد قطب، في تركيسه الارتباط بين الحضارات الأخرى، وما وصف بـ "الجاهليّة"، كما في كتابه "جاهليّة القرن العشرين".

 كرسّ كُتّاب مثل سيد قطب والمودودي الارتباط بين الهوية والانضباط الأخلاقي

في هذا السياق يرى الباحث في الأديان والفكر الإسلامي، إسلام سعد، أنّ "خطاب الإسلام السياسي خطاب هووي، يتحدث عن هوية ضائعة يلزم استردادها، وهي هويّة إسلاميّة بالأساس، تؤكد علوّ كعب المسلمين عن سائر البشر بشكل طبيعي؛ لأنهم وُلِدوا على الإسلام فقط، والهدف من إدامة استحضار هذا الخطاب هو السعي للحصول على موقع ريادي سياسياً، وهو خطاب يقوم على فكرة أنّ هناك هوية مسلوبة، يدّعي تيار الإسلام السياسي، من خلال ممثليه الذين تتراوح درجات خطابهم بين النعومة والقسوة، أنّه قادر على استرجاعها وإحيائها وإسباغها على الاجتماع، رغم أنّ الاجتماع ذاته، لا يشكو من غيابها إلا بفضلهم".

اقرأ أيضاً: الإسلاميون بين الثورة والدولة.. العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة
وعن الهدف من هذا الخطاب، يضيف سعد لـ"حفريات": "هذه القضية المختلَقَة، هدفها سياسي بحت، ولا أراه دفاعاً عن دين؛ فلماذا ندافع عن ضياع هوية دين في بلد أغلبيته من المسلمين؟ ويدَّعي بعض مسلمي هذا القُطْر أنّهم على دراية بالهوية المفقودة بشكل كلي، بل ويمتلكون رؤية "نظرية" و"عملية" لإرجاعها؟".
وإذا كانت الإسلامويّة قد ارتبطت بالسعي من أجل إقامة دولة دينية، يتم فيها ضبط المجتمع بأحكام الشريعة، وتكون الأهداف المتعلقة بالتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطيّة تابعة لهذا الهدف الأساس، فإنّ تياراً مغايراً تزايدت المؤشرات خلال العقدين الأخيرين على تشكّله وصعوده، عرف بـ "ما بعد الإسلام السياسي"؛ وذلك إثر تزايد القناعة بمدى محدودية المقولات التقليديّة للحركات الإسلامية، وأبدى هذا التيار الجديد توجهاً نحو الالتزام بمشاريع أكثر تجاوباً مع التحديّات الواقعيّة، واعتُبرت تجارب الإسلام السياسي في دول مثل؛ تركيا، وماليزيا، وإندونيسيا، بمثابة التجارب الرائدة لهذا الاتجاه، إلا أنّه ما يزال قيد التبلور، وما تزال التساؤلات مطروحة حول مدى إمكانية انتشاره وتعميمه.

الصفحة الرئيسية