كيف تلاشت أحلام الحزب الاشتراكي اليمني؟

كيف تلاشت أحلام الحزب الاشتراكي اليمني؟

كيف تلاشت أحلام الحزب الاشتراكي اليمني؟


كاتب ومترجم جزائري
09/03/2024

ترجمة: مدني قصري

فقدَ الحزب الاشتراكي اليمني، وريث جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وخطاب التحرّر الاجتماعي، الكثير من نفوذه، بعد أن أصبح غير قادر على تقديم آفاق جديدة لبلد أرهقته الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية.

فشلت الأحزاب السياسية اليمنية فشلاً ذريعاً في العقود الأخيرة، كان هذا الإفلاس سبباً، نتيجة فشل أكبر بلغ ذروته في اندلاع الحرب، منذ ما يقرب من ست سنوات، لقد تخلت هذه الأحزاب عن دورها كقوى فاعلة قادرة، على المستوى الوطني، في دفع عملية سياسية من أجل وضع حدّ للاضطرابات المدنية، لقد أصبحت قوى متحاربة، ووجدت نفسَها في معسكرات متعارضة، ولم تتردّد في الدخول في تحالفات مع القوى الإقليمية المتدخلة في اليمن.

كان لهذه المواقف المشكوك فيها تداعيات على مستقبل اليمن، فعلى وجه الخصوص، ضعُفت الهياكل المؤسسية للأحزاب اليسارية والقوميّين العرب وتصدّعت، مما أدّى إلى تغيير مكانتها التاريخية في المجال العام. ومع تضاؤل ​​وزنها أصبحت قاعدتها الشعبية عرضة للاستقطاب من قبل سلطات محلية أكثر كفاءة وأفضل تنظيماً. انخرطت الأحزاب اليسارية والقوميّون العرب في الحرب، إما بدَفع أنصارهم إلى الجبهات العسكرية، أو بدعم الحكومة ومؤسسات الدولة المعترف بها دولياً، أو بالسماح لمنظماتها المحلية بالاستسلام لسيطرة السلطات القائمة بحكم الأمر الواقع. ومع ذلك فقد ظلت مهمشة في ميزان القوى.

ما أصبح عليه اليسار

يمثّل الحزب الاشتراكي اليمني (PSY) مثالاً حياً لِما أصبح عليه اليسار. لقد أدّت سلسلة من الزلات السياسية على مرّ السنين وإعادة تنظيم غير يقِظة، بما في ذلك الردّ على الحرب، إلى إبعاد الحزب الاشتراكي اليمني عن دوره التاريخي كحزب يدافع عن الطبقات العاملة والفلاحية، ويضع المصلحة الوطنية المشتركة فوق كلّ اعتبار.

تمتد رحلة الحزب الاشتراكي اليمني عبر أكثر من أربعين عاماً، منذ تأسيسه 1978، ويُذَكِّر إرثُه بالعصر الذهبي لحقبة اليسار التي ألهمت خيال المثقفين العرب

قام الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، بعد تأسيسه في أواخر السبعينيات، بالدفاع في البداية عن العدالة الاجتماعية. وشمل ذلك دمج المجتمعات المهمشة، مثل البدو الرحّل، وتعزيز قانون أسري تقدّمي مكّن المرأة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فحتى بعد نهاية نظام الحزب الواحد، الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن، عام 1990، عندما اندمجت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب مع الجمهورية العربية اليمنية في الشمال لتشكيل جمهورية اليمن الموحّدة، استمر الحزب في الانحياز، بشكل لا لبس فيه، إلى جانب الطبقات المحرومة.

لكن، بمرور الوقت، تلاشى هذا الإرث؛ إذ تخلى الحزب الاشتراكي اليمني تدريجياً عن موقفه المعنوي والأخلاقي. وهي العملية التي تسارعت خلال الفترة الانتقالية لِما قبل الحرب، ثم بسبب تورّط الحزب الاشتراكي اليمني في الحرب، توقّف الحزب عن دعم القضايا العادلة التي تنهض بالاحتياجات الأساسية والحقوق المدنية للمواطنين العاديين، ولم ينجح في الدفاع عن موقف واضح ضد تهديدات تجزئة البلاد.

اقرأ أيضاً: هل ما يجري في اليمن استمرار معارك "عض الأصابع" بين واشنطن وطهران؟

أصبح التدهور المعنوي الأخلاقي للحزب الاشتراكي اليمني أكثر وضوحاً عند مقارنته بإرثه التاريخي وآدابه السياسية، فمن خلال تجنّبه الجدل والابتعاد عن الأنظار حتى لا يكون هدفاً لقوى سياسية أخرى، اتخذ الحزب موقفاً سلبياً وغامضاً بشأن القضايا الفكرية والاجتماعية الرئيسة، وعمل على إنشاء "منطقة أمنية سياسية" مقابل حصول بعض قادته على مناصب في مؤسسات الدولة.

اقرأ أيضاً: رسائل إيرانية إلى أمريكا تنطلق من اليمن

تسبّب هذا الجبن في خيبة أمل كبيرة بين المتعاطفين مع اليسار الذين كانوا يتوقّعون أن يتّخذ حزبهم موقفاً مشرّفاً بالوقوف بشكل جذريّ إلى جانب نضالات الشعب اليومية، فعلى وجه الخصوص، فشل الحزب الاشتراكي اليمنيّ في تحديد طريقة ثالثة لليمنيين، للخروج من منطق الحرب الثنائي، وتقديم بديل لأشكال الصراع الدائر. بل وانزلق إلى دور تمثيل مصالح الميليشيات.

الانجراف الأخلاقي والانهيار المؤسسي

كان تطور الحزب الاشتراكي اليمني، منذ السبعينيات، نتيجة لتغييرات عميقة أدّت إلى زعزعة استقرار الحزب وإعادة تشكيله، ولخيارات الحزب من أجل تكيّفه. وكان التغيير الأيديولوجي الأكثر عمقاً.

بدأ الحزب الاشتراكي اليمني كحزب اشتراكي طليعي؛ إذ أسّس، بحسب أحد مؤسسيه، عبد الفتاح إسماعيل، دولة علمانية قضت على الفوارق الاجتماعية والتقسيم الطبقي، وضمنت حرية التديّن، وبعد عقود أصبح قوة دون أيديولوجية واضحة تدعم الشريعة الإسلامية كمصدر لجميع التشريعات قبل مؤتمر الحوار الوطني 2012 - 2013.

تسبّبت الأزمات الداخلية المتكررة للحزب، وأشهرها الاقتتال الدموي، عام 1986، بين الفصائل المتناحرة في الحزب، والتي أودت بحياة الآلاف، في حدوث انقسامات عميقة ودائمة داخل الحزب الاشتراكي اليمني، وأضعفت شعبيته في الجنوب.

في الفترة التي أعقبت توحيد اليمن الشمالي والجنوبي، عام 1990، وأدّت إلى الحرب الأهلية في صيف 1994، أصبحت قيادةُ الحزب مستهدفة من قبل نظام الرئيس علي عبد الله صالح، وقد حرمها ذلك من الشخصيات الرئيسة التي كان من الممكن أن تلعب دوراً فعالاً في تجديدها، فقد انشقّ معظم القادة المتبقين وانضموا إلى الأحزاب والحركات السياسية المتنافسة، مثل المؤتمر الشعبي العام، ثم الحراك الجنوبي لاحقاً، إضافة إلى ذلك؛ فقد أثّر نقل مقرّ الحزب إلى الشمال بعد التوحيد، على هيكله المؤسسي، وخلق مشاكل تنظيمية أدّت إلى انقسامات داخل الهياكل الحزبية الأساسية، خاصة في قرى محافظة تعز. كان هذا واضحاً بشكل خاص في المنافسة بين الاشتراكيين المقيمين في مناطق جبل صابر وبين الاشتراكيين في مناطق معافر والشمايتين وسميع، وكذلك في المنافسة الداخلية داخل منطقة الحُجَريَّة.

أحد أسباب انهيار الهياكل المؤسسية للحزب الاشتراكي اليمني وتقلص دوره السياسيّ هو استبداد زعيم الحزب والأمين العام، وتركيز سلطات صنع القرار على مستوى القمة

وقد حدث هذا النضال على حساب تطوير القواعد الشعبية في أجزاء أخرى من البلاد، بما في ذلك المناطق القبلية، وقد قوّض الإشعاع المؤسّسي للحزب. ونتيجة لذلك، بدأ منافسون، مثل حزب المؤتمر الشعبي العام، وحزب الإصلاح، في التهام قاعدته، خاصة في منطقة حضرموت. ومؤخراً؛ واجه الحزب أيضًا منافسة من قوى سياسية جديدة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يسعى لمناشدة قاعدة الحزب الاشتراكي اليمني التقليدية في الجنوب، وحركة الحوثيين المسلحة، التي جندت جزءاً من قيادته.

اقرأ أيضاً: الجيش اليمني يكشف آخر مستجدات معارك مأرب

إضافة إلى الانهيار المؤسّسي الذي عانى منه الحزب، قامت العديد من الأجهزة المحلية للحزب، بعرقلة المبادرات والأفكار الجديدة التي طرحها الأعضاء، بدلاً من خدمة مصالح الحزب. وتجلّى هذا في عدم قدرة الحزب الاشتراكي اليمني على الاستفادة من الزخم السياسي والشعبي لثورة الشباب لعام 2011. وكشريك للأحزاب السياسية اليمنية (JMP)، التي عارضت نظام صالح، فقد فاته عام 2011 لتجديد الحزب واعتماد مشروع وطني شامل.

تركيز السلطة

يمكن القول إنّ أحد أسباب انهيار الهياكل المؤسسية للحزب وتقلص دوره السياسيّ هو استبداد زعيم الحزب والأمين العام، وتركيز سلطات صنع القرار على مستوى القمة. لقد أثر هذا الوضع بشدة في تاريخ الحزب الاشتراكي اليمني، وحدّد نضالاته الداخلية وأضعف أداءاته، فأصبح الحزب مرادفاً لأمينه العام الذي كان هو وجهه، على الرغم من الهياكل العديدة، من القواعد الشعبية إلى القيادة الوسطى والعليا، فإنّ قيادة الحزب كانت محدَّدة بأهوائه وكاريزما وشعبية شخص واحد دون سواه.

 إنّ تقليص الحزب إلى شخص واحد سِمة لا توجد بين الأحزاب اليسارية والأحزاب القومية العربية في اليمن فقط، لكنّها سمة مشتركة في المنطقة بشكل عام.

على الرغم من أنّ الإدارة السياسية للحزب الاشتراكي اليمني قد حاولت خلال السنوات الأخيرة، تنشيط هيئات الحزب المهمشة، وإعادة تحديد دورها، وفصلها عن سلطة الأمين العام المباشرة، فلم تؤدِّ هذه المحاولة إلى حلّ المشكلة. وإضافة إلى ذلك؛ فإنّ الأمين العام الحالي، الدكتور عبد الرحمن السقاف، يقيم خارج البلاد، ما  شلّ الحزبَ الاشتراكي اليمني، وشتّت عملية صنع القرار السياسي.

اقرأ أيضاً: العناد لا يصلح سياسة في اليمن

استمرت المنظمات المحلية في الدفاع عن قضايا ثانوية تتماشى مع الفضاءات السياسية الضيقة التي تسمح بها سلطات الأمر الواقع في مناطقها، وليس مع القضايا الوطنية، وهو ما دفع بالحزب ككل إلى الهامش، لأنّه فشل في اتخاذ موقف شامل حول أهم قضايا البلاد المطروحة.

ما لبثت هذه الثغرات أن حوّلت الحزب إلى مجموعة إقطاعيات صغيرة  تنشط في المناطق الحضرية في اليمن، على حساب البنية الوطنية. وقد أدّى عدم وجود اتصال بين القاعدة والقيادة إلى شلّ عمل المنظمات القاعدية في المدن، والتي كانت دائماً القوة الرئيسة للحزب؛ لذلك وجد أعضاء الحزب الاشتراكي اليمني أنفسهم مكشوفين ومعرّضين سياسياً للاستقطاب من قبل الأحزاب والجماعات الأخرى، مما أدّى بالبعض إلى الانشقاق أو العمل كغطاء سياسي لأعمال المتحاربين المحليين في الحرب.

مسألة الجنوب

علاوة على ذلك، كان إرث الحزب الاشتراكي اليمني كحزب حاكم في دولة الحزب الواحد في جنوب اليمن؛ يعني أن توجّه قيادة هذا الحزب كان، إلى حد ما، يمليه حرصُه على استعادة شعبيته في الجنوب، أو على الأقل ضمان أهميته كحَكَمٍ لمسألة الجنوب. وقد نما هذا التوجه في السنوات الأخيرة.

اقرأ أيضاً: اليمن: معركة مأرب تكتب نهاية الحوثي 

لقد شكلت الأصول الجنوبية للحزب تركيزه باستمرار على القضايا الرئيسة، ليس فقط في القاعدة غير المكتوبة التي تنصّ على أنّ الأمين العام للحزب يجب أن يكون جنوبياً دائماً، لكن أيضاً في كيفية تعامل الحزب مع قضية الجنوب. وإن كانت مهمة، على حساب القضايا الوطنية الأوسع. ولهذه الغاية، أنشأ الحزب الاشتراكي اليمني هيكلاً حزبياً في الجنوب، يتمتع بصلاحيات مطلقة في اتخاذ القرار، لضمان أن يلعب الحزب دوراً في هذه المنطقة، حتى إن كان ذلك يتعارض مع المواقف الوطنية والتاريخية للجنوب.

أدّى خوف القيادة من فقدان نفوذها في الجنوب والاستعاضة عنها بتشكيلات جديدة نشأت خلال الحرب الحالية، مثل جهاز المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى الشلل. ليس فقط في الجنوب بل في اليمن بشكل عام. ينبع خوف القيادة والجبن السياسي، جزئياً، من الشعور بالذنب التاريخي بالتواطؤ في صفقة التوحيد غير المتكافئة لعام 1990، التي أدّت إلى الحرب الأهلية عام 1994، ونهب النظام للجنوب، وإلى عقود من قمع الجنوب من قبل حكومة صنعاء. وقد بلورت صدمة الماضي هذه مواقف رسمية غامضة في مواجهة الأحداث التي شهدها الجنوب خلال الحرب الحالية. لم يجرؤ الحزب الاشتراكي اليمني على دعم الانفصال، لكنّه لم يعارضه أيضاً.

اقرأ أيضاً: ميليشيات الحوثي تزج بأطفال اليمن في "محارق الموت" 

في هذا الصدد، كان الموقف تجاه المجلس الانتقالي الجنوبي غامضاً، وقد أدّى في نهاية المطاف إلى انشقاق العديد من أعضاء الحزب، والانضمام إلى الجماعة الانفصالية، كذلك أدّى دعم الحزب الاشتراكي اليمني لنظام فيدرالي قائم على دولتين (جنوب / شمال) في مؤتمر الحوار الوطني، إلى نفور قاعدة الحزب والقادة الوسطاء الذين يميلون نحو انفصال جنوب اليمن.

اقرأ أيضاً: استقرار اليمن هدف إماراتي

تمتد رحلة الحزب الاشتراكي اليمني عبر أكثر من أربعين عاماً، منذ تأسيسه عام 1978، ويُذَكِّر إرثُه بالعصر الذهبي لحقبة اليسار التي ألهمت خيال المثقفين العرب. إن إلقاء الضوء على الوضع الحالي للحزب الاشتراكي وأخطاء حساباته يمثل محاولة لفت الانتباه إلى أخطائه السابقة والحالية، حتى يتمكّن من إعادة تفعيل دوره السياسي في المستقبل، بدلاً من أن يظل حزباً مقيّداً إلى قمّته، متشبثاً بحنينه إلى الماضي.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.info/magazine



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية