كيف تحكي قصة الملابس تاريخ البشريّة بتكثيف وإيجاز؟

تاريخ

كيف تحكي قصة الملابس تاريخ البشريّة بتكثيف وإيجاز؟


24/12/2018

الملابس، إنها الجزء الأكثر قرباً والتصاقاً بنا في العالم، لذا؛ كان لزاماً أنْ تكون من أكثر اختراعاتنا تعبيراً عنا، إنها تحكي كلّ شيء؛ بدءاً من احتياجاتنا المادية المباشرة؛ حيثُ تُخبر، مثلاً، عن حاجتنا لواقٍ يحمينا من ظروف الطقس المختلفة، وليس انتهاءً بما هو أبعد من غايات معنوية ورمزية مرتبطة بالاعتبارات الاجتماعية والمنظومات الثقافية المتباينة، لتختزل وتوجز بذلك، وبكثافة عالية، قصتنا وتاريخنا على ظهر الكوكب.

اقرأ أيضاً: تحوّلات نظرة المجتمعات إلى العفة عبر التاريخ

فلنتعرّف معاً، في "حفريات"، على قصتها وحكايتها منذ البداية، وحتى لحظتنا الراهنة.

الملابس في الأزمنة السحيقة.. كيف كانت البداية؟

يعود ظهور الملابس إلى أزمنة سحيقة في العصر الحجري القديم، تصل إلى أكثر من 150 ألف عام؛ حيث ظهرت الملابس آنذاك أثناء العصر الجليدي، الذي استمر حتى ما قبل 20 ألف سنة، فكان الإنسان كلما ابتعد عن خط الاستواء والمناطق المدارية، واتجه نحو خطوط العرض الأبعد عن خط الاستواء، ازدادت حاجته لوسائل التدفئة والحماية من برودة الطقس. وكانت الأشكال الأولى للملابس عبارة عن عناصر جاهزة من الطبيعة المحيطة، وفي المناطق الباردة كانت الملابس عبارة عن فِراء وجلود الحيوانات التي يصطادها الإنسان. لكنّ الوظائف الأولى للملابس لم تنحصر فقط في التدفئة والحماية من عوامل الطقس، فقد ظهرت أشكال من الملابس في المناطق الدافئة والحارّة، وكان ذلك لأغراض أخرى، كالحماية من الخدوش، أو التعرض لمخالب الحيوانات، أو لغايات تغطية الأعضاء الجنسية. واختلفت أشكال الملابس الأولى تبعاً لاختلاف البيئات والعناصر المتوفرة والمتاحة، فاستُخدمت أوراق الأشجار، والأعشاب، والجلود، والفراء، والريش، والعظام.

التصور الدرامي للملابس في العصر الحجري.. حسب المسلسل الكارتوني: فلينستون

ثورة الحياكة.. التمرّد والخروج الأول على الطبيعة

بقيت الملابس الأولى في حدود الطبيعة، فكان الإنسان يكتفي بوضعها على جسده كما هي، فيعلقها أو يربطها دون إحداث أي تغيير فيها. حتى جاء الانقلاب والتطوّر الأهم في صناعة الملابس، مع حدوث التطوّر التقني أواخر العصر الحجري القديم، حين تمكن الإنسان من استخراج واستخلاص الخيوط من ألياف النباتات، مثل سَعَف النخيل وأوراق البردي، واستخدمها في صناعة الملابس، ليتمكن بذلك من تشكيل الملابس وتفصيلها وفقاً لما يريد ويحتاج. ويأتي هنا الأثر المادي الذي يسجّل ويوثق هذا التحوّل في تاريخ اللباس البشري، وهي الملابس التي عُثر عليها داخل كهف في جورجيا بالقوقاز، والتي تعود إلى حوالي العام 34,000 قبل الميلاد، وهي عبارة عن ألياف ملوّنة من الكتّان، تمثّل أول دليل مادي على تطوّر النسيج والحياكة.

اقرأ أيضاً: مدينة بلجيكية تقيم معرضاً لملابس المغتصَبات

وجاءت أبرز محطّات تطوّر صناعة اللباس والحياكة لاحقاً، في عصور ما قبل التاريخ، قبل اختراع الكتابة، مع اكتشاف المواد الجديدة، بدايةً من اكتشاف الصوف وتطوّر حياكته في وادي النيل (مصر) خلال الألف السادسة قبل الميلاد، ثم مع ظهور صناعة الحرير وتربية ديدان القزّ بالصين في عهد حضارة الـ "يانغ تشاو" خلال الألف الخامسة قبل الميلاد، ثم جاء التطوّر البارز مع تمكّن حضارة وادي السند (باكستان اليوم) من اكتشاف وتطوير زراعة القطن خلال الفترة من 3300 إلى 1300 قبل الميلاد. في حين شهد العصر الحديدي (1500 - 1000 قبل الميلاد) ظهور أوّل ملابس مصنوعة من المعادن، مع التمكّن من إذابة وتشكيل الحديد في قوالب، فظهرت ملابس ودروع خاصّة بالمحاربين لحمايتهم في المعارك.

النسيج الأقدم في التاريخ.. عُثر عليه داخل كهف في جورجيا

كيف أكسب نشوء المدن الملابس وظائف وأدواراً جديدة؟

ومع تطوّر ونشوء الحضارات في منطقة الشرق الأدنى (الهلال الخصيب)، وبالتحديد في بلاد ما بين النهرين، وظهور وتطوّر المدن منذ العهد السومري (نحو 3000 قبل الميلاد)، بدأت تتعقد المجتمعات، وهو ما انعكس بشكل كبير على الملابس، فتطوّرت أنواعها وأغراضها، وارتبطت بوظائف جديدة أكثر تعقيداً، فلم تعُد مقتصرة على الوقاية والحماية، وباتت وسيلة أساسية للتمييز والتصنيف، وذلك مع ظهور التمايز الطبقي وتطوّر البناء الاجتماعي في مدن حضارات مابين النهرين؛ فظهرت طبقة رجال الدولة والحكم، وطبقة رجال الدين، وطبقة المحاربين، وطبقة العامة، وتمايزت فيما بينها، وهنا جاء دور الملابس لإظهار هذا التمايز وتأكيده. وهو ما استمرّ عند الإغريق والرومان، مع ظهور الملابس الخاصّة بأعضاء مجلس الشيوخ، والقادة، والقضاة، والمحاربين.

من أشكال الملابس في حضارة ما بين النهرين

العصور الوسطى.. قِيَم ومحددات دينية

خلال العصور الوسطى، تطوّرت أساليب وأدوات النسيج والحياكة، وتطوّرت معها الملابس وظهرت لها وظائف ودلالات جديدة. فظهرت المعاني والاعتبارات الدينية في أوروبا مع ظهور الملابس الخاصة بالرُهبان والقسيسين، وبدأت الألوان تكتسب دلالات جديدة ذات ارتباطات دينية، فارتدى البابا اللباس الأبيض، والرهبان الكاثوليك الأسود، كما ظهر الحجاب الكامل للراهبات. ومن ناحية اجتماعية، اعتبر اللباس وسيلة أساسية في أوروبا للتمييز بين طبقات  النبلاء، وكبار الإقطاعيين، والفرسان، وسائر العامة من الفلاحين والمُعدَمين.

اقرأ أيضاً: هل يجوز تبرير التحرش بسلوك الفتاة أو ملابسها؟ الأزهر يجيب

أما عند المسلمين، فأسهب الفقهاء في  الحديث عن "العورة"، تلك المنطقة المحرّم رؤيتها وكشفها من الجسد، والتي تختلف بين الرجل والمرأة، ويجب تغطيتها بالكامل. كما ظهرت ثياب خاصّة بالحُجّاج، وحُددت شروط معينة للباس أثناء أداء الصلاة. كما ظهرت عند المسلمين أدوار تمييزية جديدة للملابس في المدن العربية والإسلامية؛ فكان "الحجاب" علامة فارقة للتمييز بين المرأة الحرّة (المغطاة) والأمّة (المتكشّفة)، وارتبطت الملابس ومدى سترها بقيم العفّة والاحتشام لدى المرأة.

في الحضارة العربية الإسلامية: ارتبط ارتداء الحجاب بالمرأة الحرّة

العصور الحديثة.. كيف كانت الملابس سبباً للاستعمار؟!

مع بداية العصور الحديثة، بدأت تظهر وظائف وغايات جديدة للملابس؛ ففي عصر الإصلاح الديني، وبعد حدوث الانقسام داخل العالم المسيحي، كان اللباس واختلافه يلعب دوراً أساسياً للتمييز بين الكاثوليك والبروتستانت. وفي عصر النهضة، ومن ثم عصر الباروك، فالتنوير، تطوّرت الفنون في جنوب وغرب أوروبا، وهو ما واكبه تطور تصميم الملابس، ولكن ذلك كان منحصراً في طبقات النبلاء، حيث تخلّى الرجال عن الثياب القروسطية الطويلة، وظهرت الفساتين المتنوّعة عند النساء.

اقرأ أيضاً: العيد في موريتانيا: الملابس إذ تزاحم الأضاحي والأطفال هم الرابحون

لكن التحوّل الأهم في العصور الحديثة، جاء مع الثورة الصناعية، أواخر القرن الثامن عشر، حيث تطوّرت ماكينات الحياكة، وتطوّرت معها صناعة النسيج على نحو متسارع، وبدأ إنتاج الثياب بكميّات كبيرة، فاضت عن الحاجة، وهو ما استدعى تصديرها، إضافة إلى الحاجة لتوفير كميّات متزايدة من المواد الخام، وهذان الدافعان كانا من أهم العوامل المسببة لـ "الاستعمار". فنجد إمبراطورية كبريطانيا تلجأ إلى توسيع مستعمراتها، بغرض توفير محاصيل القطن كمادة خام لازمة لصناعة النسيج، وخاصّة من الهند ومصر، ومن ثُمّ بغرض إيجاد الأسواق المستهلكة لتصدير الفائض من الملابس المنتجة في مصانعها.

ظهرت مصانع النسيج مع الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر

علامات تجاريّة ودور أزياء

وخلال القرن التاسع عشر، كان التطوّر الأبرز في صناعة الملابس مع تحوّلها إلى سلعة رأسماليّة، وتجلّى ذلك مع ظهور العلامات التجارية، وكان اوّل ظهور لعلامة تجارية عام 1858، على يد المصمم "تشارلز وورث"، المصمم الإنجليزي المقيم في فرنسا آنذاك، حيث خاط "وورث" علامته التجارية باسمه على الملابس التي صممها.

تشارلز وورث.. صاحب اوّل علامة ملابس تجارية

وفي القرن العشرين، تطوّر عالم تصميم الأزياء، فظهرت أوّل مجلّة خاصّة بتصميم الأزياء في فرنسا عام 1912، على يد المصمم "لوسيان فوغل"، وهي مجلة "بون تون" (Gazette du Bon Ton). وشهدت فترة ما بين الحربين (1918 - 1939) العصر الذهبي لصناعة الأزياء، والتي كانت فرنسا (باريس تحديداً) حاضنتها الأساسية، فانتشرت فيها دور التصميم، وظهرت عروض الأزياء، وكان أهم زبائن المصممين من ممثلات السينما، وزوجات وبنات كبار الصناعيين. وكانت حركة تصميم الأزياء متأثرة بالاتجاهات الفنية السائدة آنذاك، كالحركة التكعيبية والاتجاه التجريدي. وظهرت باريس في هذه الفترة باعتبارها عاصمة للتصميم ودور الأزياء، قبل أن تتراجع صناعة الأزياء خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم ظهرت مراكز جديدة، مثل نيويورك، التي استقر فيها عدد كبير من كبار المصممين خلال الأربعينيات.

غلاف عدد من مجلة "بون تون" (1920).. وأحد التصماميم المعروضة في عدد الصادر العام 1914

الحداثة في مواجهة التقليد

كان أهم تميّز به عصر الحداثة على مستوى اللباس، الاتجاه نحو التنظيم، والتقصير، والتضييق، خلافاً لما ساد في العصور الوسطى، ويعبّر عن ذلك خير تعبير موقف قيصر روسيا "بطرس الأعظم"، بعد عودته من رحلته الشهيرة إلى غرب أوروبا عام 1699، حين فرض على رجال الدولة في روسيا ارتداء الملابس القصيرة على الطريقة الأوروبية الحديثة، وترك الطويلة، باعتبارها علامة على عهود التخلّف.

كان التطوّر الأبرز في صناعة الملابس مع تحوّلها إلى سلعة رأسماليّة، وتجلّى ذلك مع ظهور العلامات التجارية

وقد تصاحبت تطوّرات الملابس الحديثة مع الاستعمار والعولمة، وما صاحب ذلك من نشر وتعميم لأنماط معيّنة من اللباس، الغربيّ منها بشكل خاصّ، وفرضها على سائر أنحاء العالم، خاصة لباس القميص، والبنطال، والـ"جاكيت"، والقبعة. وخلال فترة قصيرة، أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان اللباس الغربي قد انتشر في معظم ارجاء المعمورة، ليزيل بذلك فوارق اللباس وتنوّعها، المتشكلة عبر التاريخ الطويل. وهو ما أدّى إلى ظهور ردّات فعل متباينة، فنجد في "الشرق الأوسط" صراعاً محتدماً بين الملابس التقليدية والحديثة، مع وقوف البنطال الحديث الضيّق، في مواجهة السروال الواسع و"القمباز" والثوب العربي (الدشداشة)، والقبعة في مواجهة الطربوش والعمامة، بحيث أصبح اللباس، منذ أواخر القرن التاسع عشر، علامة فارقة دالّة على اتجاه صاحبه وموقفه من الحداثة والتقليد.

ونجد من ضمن ردّات الفعل: تمسّك الحركات الأصولية المخالفة للحداثة، بارتداء الثوب التقليدي وعدم ارتداء البنطال، واعتبار ذلك مسألة أساسية لا مساومة عليها، حتى غدا "التبنطل" عندهم وصمة عار. في حين احتفظ سكان بعض المناطق بملابسهم التقليدية، مع إجراء تحديثات طفيفة، لأسباب مختلفة، كما نجد عند أهل الخليج، والمحافظة على ارتداء الثوب الأبيض الواسع، وهو ما يُعزى لأسباب مختلفة، أهمها العامل المناخي وارتفاع درجات الحرارة.

من اليسار: ملابس الفرسان الطويلة في العصور الوسطى.. ومثال من القرن الـ 18 على تقصير وتضييق وتنظيم الملابس

في حين ظهرت اتجاهات، من داخل الغرب، خالفت الاتجاه الحديث في اللباس، خاصّة مع ظهور التيارات المتمردة في سياق "ما بعد الحداثة"، كـ "الهيبيز"، الذين تعمدوا ارتداء الملابس الواسعة والفضفاضة والعشوائية وغير المرتبة، كمظهر وأسلوب للاحتجاج على الحداثة وتقاليدها وما اقترن بها من عقلانية وصرامة ونظام.

الملابس المهنيّة: الغاية في التخصص والدقة

مع استمرار تعقّد المجتمعات وتطوّرها، ظهرت دلالات ووظائف متزايدة للملابس، وهو ما انعكس جليّاً في ظهور "الملابس المهنيّة" المتخصصة، والتي اقترن تطوّرها بالغايات المعنوية، من التأكيد على التراتبية والتخصص، إلى أغراض الحفاظ على النظافة والسلامة العامة؛ فظهرت الملابس المختلفة الخاصّة بالأطباء، والمهندسين، وكابتن الطائرة، ونادل المطعم، والطباخ، وعمال البناء، وعمال المناجم، والباحثين في المختبرات والمعامل، إضافة إلى الملابس المختلفة الخاصة بالعسكريين، وكذلك الرياضيين. وهكذا، تنوّعت الملابس المتخصصة تنوعاً شديداً، من الملابس الخاصّة برواد الفضاء الخارجي، وحتى تلك الخاصّة بالغطاسين في أعماق البحار.

جانب من أشكال الملابس المهنية المختلفة

وبشكل عامّ، صاحب تطوّر المجتمعات البشريّة وتعقّد بُناها ونظمها، الاتجاه الدائم نحو ظهور معانٍ ووظائف جديدة للملابس؛ حيث اقترنت بتمييز الأفراد والطبقات والجماعات عن بعضها، وباتت في عالم اليوم، إشارة أساسية للتعبير والكشف عن الحالة والانتماء الاجتماعي والديني والثقافي والديني والمهني، للفرد والجماعة.

الصفحة الرئيسية