كيف اختطف الإسلام السياسي "الربيع العربي"؟

كيف اختطف الإسلام السياسي "الربيع العربي"؟


27/12/2017

ظاهرتان تبدوان محيّرتين في علاقة الإسلام السياسي بـ"الربيع العربي"، فمن المؤكد أنّ "الربيع العربي" حراكٌ مجتمعي غير منظّم، يقومُ على أسباب اجتماعية واقتصادية، ولا علاقة له بالإسلام السياسي، من قريبٍ أو بعيدٍ، لكنْ من الواضح أيضاً: أنّ جماعاتِ الإسلام السياسي صعدت بعد "الربيع العربي" صعوداً غير مسبوقٍ، فكيف تؤدي حركة اجتماعية لا علاقة لها بخطاب الإسلام السياسي، ولم يكن للجماعات الإسلامية دور فيها، إلى صعود هذه الجماعات، وقطف ثمار هذا الحراك، والاستيلاء على نتائجه كلها، وكأنّها هي التي صنعته؟ كيف اكتسحتْ جماعة الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسي الانتخابات التي جرت في دول عربية عدة؟ لقد شغلت هذه الأسئلة العالم، ووسائل الإعلام، ومراكز الدراسات والتفكير، لكنّ الإجابة الكافية لم تتبلور بعد.

"الربيع العربي" حالةٌ اجتماعيةٌ اقتصاديةٌ تراكميةٌ حدثت بفعل منظومة من التفاعلات والأحداث الطويلة منذ قيام الدولة العربية الحديثة

ربما تكون الإجابة في طبيعة الديمقراطية نفسها، وفي الحركات الاجتماعية والسياسية، فمن المعروف تقليدياً؛ أنّ الديمقراطية، أو الانتخابات، في جميع أنحاء العالم، تعمل غالباً، إن لم يكن دائماً، لصالح الأكثر تنظيماً، والأكثر مالاً، والأقدر على التأثير، وقد جاءت الانتخابات العربية في حالة فراغ سياسي وتنظيمي، وكانت جماعات الإسلام السياسي، خاصة الإخوان المسلمين، هي القوى السياسية الوحيدة القادرة على تنظيم نفسها، وحشد المؤيدين والأنصار، ولم يكن ينقصها المال والقدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام والمنبر والمساجد؛ بل وامتلاكها.

لكن، يجب التذكير بأنّ الصعود السياسي للحركات الإسلامية، لم يكن مفاجئاً، فقد بدأت هذه الحركات منذ أوائل الثمانينيات، تشكّل حالةً سياسيةً جديدةً، تعبّر عن نفسها في تحديات للأنظمة السياسية، أو مشاركةٍ سياسيةٍ واسعةٍ، هناك الثورة الإسلامية في إيران عام (1979)، والمشاركة الإسلامية المؤثرة في تركيا، منذ أوائل السبعينيات، التي توّجت بحصولهم على الأغلبية البرلمانية عام 2002، والثورة الإسلامية في أفغانستان عام (1979)، وفي مصر اكتسحت الجماعات الإسلامية الجامعات في السبعينيات، وقُتل السادات على يد الجماعات الإسلامية عام (1981)، وبدأ الإخوان المسلمون مشاركة فاعلة في مجلس النواب في الثمانينيات، ووافق نواب الإخوان على التجديد للرئيس مبارك عام 1987، والثورة الإسلامية في سوريا عام (1979)، والمشاركة الإسلامية السياسية الواسعة في السودان، منذ منتصف السبعينيات، ثم توجت باستيلاء الإسلاميين على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، وكذلك الحال في المغرب والجزائر، والأردن، والعراق، واليمن، ودول الخليج، ...إلخ.

جرت بالفعل في دول عربية عدة تحولات سياسية لكنّها لأسباب عدة لم تتطور إلى حالة سياسية ديمقراطية

في المقابل؛ فإنّ "الربيع العربي" حالةٌ اجتماعيةٌ اقتصاديةٌ تراكميةٌ، حدثت بفعل منظومة من التفاعلات والأحداث الطويلة، منذ قيام الدولة العربية الحديثة، ومتصلة أيضاً بتداعيات الشبكية الناشئة عن سيادة تقنيات الحاسوب، والاتصالات المتطورة، وانتشارها، وتطبيقها في الإعلام والتعليم، والحياة اليومية، ولا علاقة لهذا "الربيع" بالإسلام السياسي؛ إذ إنّه ليس إلّا جملةً معترضةً، أو حالةً ظرفيةً عابرةً، في موجة تحولات كبرى معقدة، تطال كلّ شيءٍ تقريباً، ولا تخصّ العرب وحدهم.

ففي هذه التحولات، الاجتماعية والاقتصادية، المصاحبة لموجة التقنيات الجديدة وتطبيقاتها، تتشكّل ثورة هائلة، لا تقلّ عمقاً وتأثيراً عن الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر، وأنشأتْ تحولات جذرية في العالم الحديث، ويمكن ملاحظة شبكة واسعة من الأسباب والعوامل والتحولات التي تجري في العالم والدول العربية منذ سنوات طويلة، والتي تجعل، أو يجب أن تجعل "الربيع العربي" منتظراً ومتوقعاً، وربما كانت المفاجأة أنّه تأخر كثيراً، فقد كان مفترضاً أن تجري تغييرات سياسية واسعة، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كما حدث في أجزاء واسعة من العالم، مثل؛ الاتحاد السوفييتي السابق، وأوروبا الشرقية، والبلقان، وأمريكا اللاتينية، وشرق آسيا، وجنوب إفريقيا، ... إلخ.

تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وقد أتاح الإنترنت والتواصل الاجتماعي فرصة جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق

وقد جرت، بالفعل، في دول عربية عدة تحولات سياسية، لكنّها، لأسباب عدة، لم تتطور إلى حالة سياسية ديمقراطية، فقد جرت تحولات ومبادرات سياسية واسعة في الجزائر عام (1988)، لكنّها انتكست عام 1992، وتحولت إلى صراع دموي طويل، والسودان عام (1985)، ثم أجهضت عام 1989، والأردن عام 1989، كما أجريت انتخابات نيابية وبلدية، وتشكلت مجالس استشارية في دول الخليج.

وجاء "الربيع العربي"، من خلال منظومة واسعة من العولمة الشاملة، الاتصالاتية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتداعيات والتحولات المتشكلة حول المعلوماتية والاتصالات واقتصاد المعرفة، والإحاطة المتاحة والشاملة بالمعلومات، والمعرفة، والأحداث، والتطورات التي أصبحت تمتلكها المجتمعات بمختلف شرائحها الاجتماعية والاقتصادية، التي منحتها فرصة واسعة للاطلاع والمعرفة، والفرص والآفاق المتاحة للعمل، والتأثير من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، المصاحبة للخصخصة والتغيير في علاقات الدولة والمجتمع، والدور الاقتصادي والاجتماعي والرعائي للدولة، والأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التي أدّت إلى مراجعة برامج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية، وأعادت الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، في ظلّ الرأسمالية الاقتصادية، ومشاركة الدولة والمجتمعات والشركات.

تشكّل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه من خلال اطلاعها على ما يجري في العالم

يمكن وصف "الربيع العربي" بمقولة "الطبقة الوسطى مضافاً إليها شـبـكة الإنترنت"، ففي ملاحظتها وإدراكها الواضح للفــرق بين واقعها، وما تتطلع إليه، تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وقد أتاحت الشبكية القائمة على الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، فرصة جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق، يسعى إلى العمل والتشكل نحو أهدافه وتطلعاته، وفي التعولم التقني والاقتصادي والثقافي، الذي يشكّل العالم اليوم، تشكّل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه، مستمد من اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم من أحداث وتطورات، هذه القدرة الواسعة على الاطلاع والمشاركة، التي أتاحتها الشبكة، عرّفت المجتمعات بما ينقصها، وبما يمكن أن تفعله، وما يجب أن تكون عليه.

لقد عبر "الربيع العربي" عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة، وموارد، وأعمال، ونخب، وقيم، وأفكار، وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدراً هائلاً من التحولات الكبرى والجذرية، وتبدو الدول والمجتمعات، اليوم، بصدد تشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة ومختلفة، وظهور نخب وقيادات، ومجموعات، جديدة ومختلفة، أيضاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية