غالي شكري: قبطي حفظ القرآن واشتبك مع الثقافة والسياسة حتى السجن

غالي شكري: قبطي حفظ القرآن واشتبك مع الثقافة والسياسة حتى السجن

غالي شكري: قبطي حفظ القرآن واشتبك مع الثقافة والسياسة حتى السجن


03/02/2018

مضى وهو يعاين الواقع وأحداثه إلى التعمّق في ذاكرة التاريخ، ولم يتوقف عن رصد الملاحظات التي تتراكم أمامه. وفي غضون ذلك ظل يختبر الصورة الراهنة، في مساراتها السابقة، لحساب حجم التقدّم والردّة في واقعنا المعاصر، ومعرفة شروط التقدم وجذور الإخفاق، الموجودة في بنية المجتمع وعناصره؛ الأمر الذي كفل لمؤلفات المؤرخ والناقد المصري، الدكتور غالي شكري، المتعددة، ومشروعه الضخم في الأدب والفكر والسياسة، راهنيته وبقاءه، يستعان به في فهم وتقييم مآلاتنا التاريخية.
تحفل سيرة غالي شكري، المولود في منتصف الثلاثينيات، بعناصر تتجاوز الخاص إلى العام؛ فتكشف محطات مهمة تتقاطع مع الواقع المصري والعربي، وترصد تحولاتهما بدقة. واللحظات الاستثنائية للمشهد المصري، قبل أن يجثم عليه العقل الأصولي المفخَّخ والسلفي الماضوي.

يعدّ الاندماج في الثقافة المصرية الوطنية وهويتها الأصيلة، دون تجزئة وطائفية وتعصب، ملمحاً رئيسياً في كتابات غالي شكري

قبطي يحفظ القرآن كاملاً
في أحد أقاليم مصر، عاش مع أسرته القبطية، التي تعود أصولها إلى الصعيد، والتحق بإحدى مدارس الإرساليات التبشيرية، الموجودة في ذلك الوقت، رغم رفض والده لذلك، كما أنّه حفظ القرآن كاملاً، في سنٍّ مبكرة، فلم يكن قد تخطى العقد الأول من عمره، فضلاً عن دراسة فصول مختارة من الأدب العربي، على يد شيخه الذي ساعده في حفظ القرآن، دون أن تقف ديانته المسيحية عائقاً أمام حصوله على كل تلك الخبرات المعرفية في رصيده الشخصي.
يعدّ الاندماج في الثقافة المصرية الوطنية وهويتها الأصيلة، دون تجزئة وطائفية وتعصّب، سمة وملمحاً رئيساً، خلال تلك المرحلة الليبرالية، وهي الفترة التي شهدت أسماء قبطية مهمة وملهمة، مثل: مكرم عبيد، ونظمي لوقا، كان خطابها مهموماً بقضايا الوطن، وتصفية الاستعمار، والفقر، والاستبداد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، والمواطنة التي تمحو أية إشارات دينية.
لذا تنوّعت قراءات شكري بين الجاحظ وابن المقفع، إضافة إلى الإمام محمد عبده والطاهر عاشور، في الفكر الإسلامي، والدكتور طه حسين وسلامة موسى.
وعبّر شكري عن خصوصية تجربته، بقوله: "استقرّ في وجداني أنّ الحضارة العربية الإسلامية، هي الثقافة، وليست العروبة بمعناها العرقي العنصري. فالعروبة والإسلام ثقافةٌ وحضارةٌ، بالتّالي، كان يمكن لمسيحي مثلي، أن ينتمي إليه عبر وطنيته المصرية".

شكري: العلمانية التي نريد ليست ضدّ الدين؛ بل هي مع الدين، لكنّها ضدّ الدين كأداة استبداد بيد السلطة

سيرة بين الأدب والسياسة
تعدّدت انشغالات صاحب "ثقافتنا بين نعم ولا"، وقد كتب في عدة مجالات؛ حيث عمل، في الفترة بين عام 1956 وعام 1960، في سلك التعليم، ثم ترأّس تحرير مجلّة "الشعر" عام 1964، إلى أن انتقل بعدها إلى مجلة "الطليعة"، ليكون مسؤولاً عن تحرير ملحقها الأدبي، وكان كتابه "المنتمي" من الدراسات المبكرة في أدب نجيب محفوظ، عام 1964، و"شعرنا الحديث إلى أين؟"، و"ماذا يبقى من طه حسين"، و"عروبة مصر وامتحان التاريخ".
كما يعدّ كتابه "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث"، مدخلاً تأسيسياً لسوسيولوجيا الثقافة العربية المعاصرة، وهو من الكتابات المبكرة في ذلك الاتجاه المعرفي الجديد على الثقافة العربية، إضافة إلى كونه النصّ الكامل لأطروحة الدكتوراه، التي نالها في جامعة السوربون، تحت إشراف المستعرب الفرنسي جاك بيرك؛ وهي دراسة نقدية بين عصري محمد علي وجمال عبدالناصر، دأب فيها على تقديم رؤية مفتاحية، لظاهرة النهضة في الفكر العربي، وشروطها وعواملها، إضافة إلى اكتشاف قوانين النهضة والسقوط معاً، في تلك الفترة التاريخية التي وقع اختياره عليها.
يدين شكري جمال عبد الناصر؛ لأنّه لم يطرح صيغة للديمقراطية والتحوّل عن سلطة الإقطاع والشرائح العليا من البرجوازية، الذي يمكّنه بعد ذلك من الانفتاح على التيارات السياسية كافة، وتصفية قوى الثورة المضادة، التي كانت بمثابة الجيوب اليمينية التي أجهضت مشروعه. وقد تعرّض شكري للاعتقال مع مجموعة من مثقفي اليسار لثلاث سنوات، في خضم أزمة الديمقراطية مع النظام الناصري.

أقنعة الإرهاب وخفايا التطرف الديني
شهدت حقبة السبعينيات والثمانينيات صعوداً قوياً للتيارات الدينية، على حساب القوى المدنية، وساد فيهما خطاب أصولي يفرض الحجاب على الفتيات، ويمنع الاختلاط في الجامعات، ويقف ضدّ عرض الأعمال الفنية والنشاطات الأدبية، وقد عدّها صاحب "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث"، "مؤامرة" بدأت فصولها عندما احتجب المثقفون خلف السجون الناصرية، ولم تمنح لهم الفرصة الجادة لحشد وعي نقدي للجماهير، ما هيّأ لوجود مجتمعٍ يعادي المدنية والحضارة، وينتمي إلى أكثر العصور ظلاماً.
يمثّل كتابه "أقنعة الإرهاب" اشتباكاً متواصلاً وجادّاً، مع ظاهرة الإرهاب الديني، ومع تنامي أشكال العنف الإسلامي والتطرف، وانطلاق النيران التي مزّقت كلّ سبيل للكلمة والحوار، والتهمت الحرائق الحجر والبشر، دون أن تفرّق بين كنيسة أو مفكّر، لمجرد أن صدرت ضدّهما فتوى بالقتل، وإهدار حقّهما في الوجود.

جمع شكري الأدب والفكر في مؤلفاته

العلمانية الجديدة ضدّ الاستبداد وليس الدين
وحول الصراع التقليدي بين الإسلام والعلمانية، اشتقّ شكري مفهوماً عن "العلمانية الجديدة"، محاولاً فضّ الالتباس بينهما، والتشويه المتعمد للأخيرة، الذي يلحق بها من القوى الأصولية والسلفية، لفرض سلطة قهرية باسم الدين.
فالبحث عن "العلمانية الجديدة"، كما وصفها شكري، يعبّر عن صيغتها المبتكرة، بأنّها: "مشروع مستقلّ ومكثف بذاته، ومنقذ للبشرية، فهي الديمقراطية في جوهرها، ومن خلالها، نقف على مفترق طرق؛ إمّا أن نلتحق بمسيرة الإنسانية، أو ننقرض، وذلك لا يكون إلّا عبر ثورة ثقافية شاملة، تكون مقدمتها الديمقراطية ومؤخرتها الديمقراطية، وحينئذ تصبح العلمانية مجرد مظهر لجوهر أعمق، "يحرّر الدين من الدولة"، كما يحرّر المجتمع من أية سلطة تحكمه، سرّاً أو علناً، باسم الدين؛ فإنّ العلمانية التي نريد ليست ضدّ الدين؛ بل هي مع الدين في علاقة صميمة، لكنّها ضدّ الدين كأداة استبداد بيد السلطة.

حفظ شكري القرآن كاملاً، ودرس فصولاً من الأدب العربي، دون أن تقف ديانته المسيحية عائقاً أمام اكتسابه ذلك

وكان مقتل فرج فودة لحظة مغايرة عن كلّ ما سبقها، في ذروة الصراع بين الدولة والإسلاميين، وعلى الهامش كانت حوادث الفتنة الطائفية والانفلات الأمني، تتجاوز كلّ الحدود، وينذر الخطاب الديني معها، بواقع صعب ومرشَّح للصعود وعدم التهدئة.
فيقول في كتابه "أقنعة الإرهاب": "عادت نغمة "الدين" تحتل موقع الصدارة، بأقلامٍ غير متدينةٍ، كأنيس منصور ومصطفى محمود. ثم بدأت رياح الفتنة الطائفية تتحرك، ووقف أحد المسؤولين، ليقول بالحرف الواحد: "أعداؤنا ثلاثة: المسيحيون والشيوعيون واليهود، بحسب هذا الترتيب نفسه". كما وقف آخر في ندوة علنية بقاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، يقول: "نريد عقيدتنا ولا نريد سيناء"، وبدأ الشيخ عبد الحليم محمود، يكتب في "الأهرام": إنّ (أرسطو هو السبب في اندحار الدولة الإسلامية)".
فضح شكري ما أسماه "محاكم التفتيش"، التي تمّ نصبها للمبدعين والمثقفين، في تلك الفترة وتزايدها، وحالات مطاردة الإبداع ومصادرة الكتب، وملاحقة المفكرين، وقمع الحريات، فقارن بين روايتي: "آيات شيطانية" لـسلمان رشدي، و"أولاد حارتنا" لـنجيب محفوظ؛ حيث عدّ الردة السلفية لا تشكّل، في حدّ ذاتها، المناخ الإرهابي، إنّما تنجح من خلال استغلال التفكّك الاجتماعي الفادح، والمعاناة الهائلة التي تحطم أعصاب المواطنين، ليتغلغل الإرهاب من بين فراغات المجتمع".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية