عندما قبّل ابن خلدون يد تيمورلنك.. هل ظلم التاريخ صاحب "المقدمة"؟

عندما قبّل ابن خلدون يد تيمورلنك.. هل ظلم التاريخ صاحب "المقدمة"؟

عندما قبّل ابن خلدون يد تيمورلنك.. هل ظلم التاريخ صاحب "المقدمة"؟


02/11/2023

علاقة المثقف العربي بالسلطة علاقة ملتبسة غالباً وشائكة دائماً، ما بين مدٍّ وجزر، فكلاهما ينظر إلى الآخر بريبة وعدم ثقة، يسعى بعض المثقفين إلى أصحاب السلطة لإيجاد جسر بينهما طلباً لحمايتهم ورعايتهم، يدفعهم طموح المثقف في نشر أفكاره بالمجتمع، بينما يسعى صاحب السلطة إلى المثقفين لاحتوائهم بين صفوفه للحصول على السند الشرعي لسلطانه.

كلاهما ينطلق في علاقته بالآخر من رؤية براجماتية بحتة، ومن تراثنا العربي تبلورت ثنائية المثقف والسلطان، وورثناها كما هي بكلّ ما تحمله من ارتباك وتناقض وتعارض، ورثنا نمطين؛ الأوّل: مثقفون يرون أنّ دور المثقف "العالِم" قائم على مناصحة الحاكم والرعية معاً، دون التورّط في العمل السياسي، وأبرز شخصيات هذا النمط ابن المقفع، وأبو بكر الرازي، وابن حزم الأندلسي، وابن رشد،... وغيرهم.

في قصة ابن خلدون ملحمة تجسّدت فيها كلّ معاني التناقض في موقف المثقف من الحُكّام

ورغم حرص هؤلاء القامات على عدم الصدام مع السلطة، إلّا أنّ السلطة في عصرهم لم تتحمّل توجهاتهم بنشر الوعي المجتمعي، وتمّ الحطّ من مكانتهم الواحد تلو الآخر، فأبو بكر الرازي الطبيب والفيلسوف صُفع بكتابه عن الكيمياء على قفاه، وظلّ يضربه زبانية الملك منصور بن نوح أحد ملوك الدولة السامانية، أو بحرق كتبهم مثل ما حدث مع ابن حزم الأندلسي، وابن رشد، أو القتل كما حدث مع ابن المقفع.

أمّا النمط الثاني، فقد حدّد وظيفته بصفته مثقفاً بتدوين العلم، أدرك هذا الفريق أنه لن يتمكن من هذه المهمّة إلّا بعلاقة قوية مع الحاكم، منهم على سبيل المثال ابن الأثير، والعلامة ابن خلدون.

اقرأ أيضاً: نساء منسيات.. التاريخ بين الحجب والنسيان

في قصة ابن خلدون ملحمة تجسّدت فيها كلّ معاني التناقض في العلاقة بالحكام، فقد ارتبط بعلاقات متعددة مع أصحاب السلطان، واستفاد منهم واكتوى بنارهم في الوقت نفسه، فهو النموذج للعالم المثقف الذي نشأ في القصور الملكية وعرف خباياها ودقائقها، وشرب صفوها وتجرّع كدرها، فمرّة يقرّبه حاكم ويرفعه مكانة عالية، ومرّة يغضب عليه آخر فيمكث في السجن وتُصادر أمواله.

عاش ابن خلدون في عصر متقلب تسوده الصراعات والنزاعات السياسية والمذهبية والاجتماعية التي عصفت بالمجتمعات العربية في المشرق والمغرب على حدٍّ سواء، واتّسمت الحياة الفكرية والعلمية التي عاصرها بالتقليد والجمود.

يذكر المؤرخون أنه بعد سقوط إشبيلية ارتحلت أسرة ابن خلدون إلى تونس في عهد أسرة  (بني حفص)، وقد كانوا في خدمتهم بإشبيلية، فاستخدمهم الحفصيون في الوظائف العليا، إلّا أنّ والده آثر العلم والتصوّف على السلطة والسيف، وفي مدينة تونس ولد ابن خلدون في 27 أيار (مايو) 1332م، وما يزال التونسيون يحفظون البيت الذي وُلد فيه وتربى في المدينة القديمة، في شارع (تربة الباي).

عاش ابن خلدون في عصر متقلب تسوده الصراعات والنزاعات السياسية والمذهبية والاجتماعية

نشأ ابن خلدون وبلاد المغرب مقسّمة إلى 3 دول، وهي: دولة (بني مَرين) في المغرب الأقصى وعاصمتها (فاس)، ودولة (بني عبد الواد) في المغرب الأوسط، وبنو عبد الواد هم فرع من فروع الطبقة الثانية من زناتة إحدى أكبر وأشهر القبائل الأمازيغية ببلاد المغرب الأوسط وعاصمتها (تلمسان)، ودولة (بني حفص) في المغرب الأدنى وعاصمتها (تونس)، وكانت هذه الدول في تقلّص وتمدّد، وقد كانت كلّ أسرة من هذه الأسر تحاول السيطرة على الدول المجاورة، كلما وجدت إلى ذلك قوّة وسبيلاً، وليس حال أهل المشرق بأفضل من ذلك.

ورث ابن خلدون ثقافة العمل في خدمة الحكام والأمراء والسلاطين، ومكث ينتقل بين حكام المغرب وغرناطة 25 عاماً، ناله فيها الكدّ والتعب والوشايات والدسائس والمؤامرات والسجن، واتجه ابن خلدون بأسرته إلى أصدقائه من "بني عريف"، فأنزلوه بأحد قصورهم في قلعة "ابن سلامة"، وهي الآن ضمن مقاطعة "وهران" بالجزائر، وقضى ابن خلدون مع أهله في ذلك المكان القصي النائي نحو 4 أعوام، شعر فيها بالهدوء والاستقرار، وتمكّن من تصنيف كتابه المعروف (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، الذي صدّره بمقدمته الشهيرة التي تناولت شؤون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد فرغ ابن خلدون من تأليفه وهو في نحو الـ45 من عمره، بعد أن نضجت خبراته، واتّسعت معارفه ومشاهداته.

اشتدّ خوف ابن خلدون من العودة إلى عالم السياسة ودسائسها مرّة ثانية، فاستأذن بالعودة إلى تونس، ومنها قصد الحج، فارتحل إلى مصر ووصل إلى مدينة الإسكندرية في كانون الأول (ديسمبر) 1382م، في عهد السلطان المملوكي "الظاهر برقوق"، وكان قد بلغ الـ50 من عمره، وتقلد في مصر القضاء المالكي وعمل بالتدريس بالأزهر، وعُزل كثيراً وعاد إلى مكانته أكثر من مرّة، ومرّت الأعوام ومات السلطان برقوق، وخلفه ابنه "الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن برقوق"، وكان صغير السنّ، يبلغ من العمر 13 عاماً، وذلك في العام 1399م.

اقرأ أيضاً: أكاديمي مصري يتهم ابن خلدون بأنه "من كبار المنافقين في التاريخ"

في هذه الأثناء تشجّع تيمورلنك السلطان المغولي، فسار بجيشه الجرّار من سمرقند (بأوزبكستان حالياً) العام 1399 واستولى على أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، وقتل أفراد حاميات وأهل المدن التي احتلها، كما كانت عادته في غالبية غزواته، ثم تحرك جنوباً عبر الأناضول واحتل ودمر سيواس وملطية وعين تاب، وفعل الشيء نفسه بحامياتها وأهلها قبل أن يعبر باتجاه شمال سورية.

وصل تيمورلنك إلى حلب بعدما عاث في القرى المحيطة بها في أيلول (سبتمبر) 1400 وحاصرها، وجرت معارك بينه وبين المماليك الذين أتوا من كلّ المدن، وبعد يومين من القتال، انسحبوا وتركوا المدينة السورية وأهلها لمصيرهم، فاقتحمها المغول وقتلوا سكّانها، حتى أولئك الذين التجؤوا إلى الجوامع والخانقات والمدارس، واغتصبوا النساء والفتيات والغلمان، وقتلوا الأطفال أيضاً بعد أن كانوا قد قضوا على الرجال والفتيان، ثم أضرموا النار في المدينة لمدة 3 أيام مروعة، وبنى تيمورلنك برجاً من الرؤوس التي قطعها جنوده.

اقرأ أيضاً: ضرورة تنقيح التاريخ من التزوير العثماني

وصلت الأخبار المفجعة إلى القاهرة فتجهز السلطان فرج بن برقوق للقاء تيمورلنك، وحمل معه ابن خلدون، الذي يقول واصفاً تلك الرحلة في كتابه التعريف: "لمّا وصل الخبر إلى مصر بأنّ الأمير تمر (أي تيمورلنك) قد ملك بلاد الروم وخرّب سيواس ورجع إلى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة، فاستدعاني دواداره يشيك وأرادني على السفر معه في كتائب السلطان".

وصل جيش السلطان دمشق قبل جيوش تيمورلنك، ولم يشتبك الجيشان، بل كلٌّ يراقب الآخر، ونظراً للأحوال المضطربة في القاهرة وتمرّد المماليك رجع السلطان بجيشه، وترك المدينة تحت رحمة المحاصرين المغول، وابن خلدون من ضمن من فيها، وإذ اشتدّ الحصار اجتمع العلماء الدمشقيون، ومعهم ابن خلدون بالمدرسة العادلية، واتفقوا على طلب الأمان من الأمير تيمورلنك على بيوتهم وحرمهم، ولمّا أبى عليهم قائد القلعة الخروج، تمكّن القاضي برهان الدين من الخروج ومعه شيخ الفقهاء من إحدى فتحات القلعة.

اقرأ أيضاً: كيف مثّلت أهم 5 ثورات في التاريخ فكرة الحرية؟

ولمّا التقوا بتيمورلنك أمّنهم، واتفق معهم على تسليم المدينة، ولكنّ شجاراً بين أهلها وقع في المسجد، ما بين رافض للتسليم وبين مؤيد، هنا أدرك ابن خلدون، وهو الشيخ الطاعن في السن البالغ من العمر قرابة الـ70 عاماً، بحدسه وبخبراته السياسية في بلاط الملوك أنّ ثمّة خطراً على حياته، فقرّر الخروج من القلعة للقاء تيمورلنك.

هنا يحدثنا ابن خلدون عن طريقة خروجه قائلاً: "بلغني الخبر من جوف الليل، فخشيت البادرة على نفسي وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو تدلوني من على السور، ودلوني من على السور، فوجدت بطانته (أي بطانة تيمورلنك) ونائبه الذي عينه حاكماً على دمشق، واسمه شاه ملك، فحييتهم وحيّوني وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك مركوباً وبعث معي من بطانة السلطان من أوصلني إليه، فاستدعاني الأمير تمر (تيمورلنك)، ودخلت عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام وأوحيت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومدّ يده فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت".

يعيب البعض على ابن خلدون مداهنته لسفّاح مثل تيمورلنك بل تقبيل يده والخضوع المهين له

يعيب البعض على العلّامة ابن خلدون قيامه بمداهنة قاتل سفّاح مثل تيمورلنك، بل تقبيل يده والخضوع المهين له، متّهمينه باعتياد الانحناء للملوك والسلاطين، مهما تلوثت أيديهم بدماء المسلمين، وهذا ليس إنصافاً، فقد حكموا على موقف ابن خلدون بعيونهم لا بعيون معاصريه، فمن رواية ابن خلدون نفسه نكتشف أنه لم يكن المسارع للقاء السفاح المغولي، ولكنّ الأحداث الثقيلة المتسارعة، بدءاً من تخلّي السلطان المملوكي للدفاع عن المدينة، إلى تسابق قضاة أهل المدينة إلى طلب الأمان لأنفسهم، مع عدم حسمهم لأمرهم وشجارهم معاً، جعلته يفرّ إلى الموقف الأسلم، فخبراته السياسية تخبره بأنّ عليه التقرّب إلى السلطان الجديد ولو كان سفّاحاً، مع مراعاة أنه كان وحيداً غريباً في دمشق، ليضمن الخروج الآمن إلى مصر، وكان له ذلك بعدما اطمئن له تيمورلنك الذي ما لبث أن عاث في المدينة فساداً كما توقع ابن خلدون.

من هذه القصة ندرك أنّ ثنائية المثقف والسلطان لم تنتهِ، ولن تنتهي، ولا يمكن تقييم كلّ تجربة بمعزل عن وطأة اللحظة التاريخية بكلّ أثقالها السياسية والاجتماعية والثقافية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية